
خطوة فرنسية: المؤتمر الدولي الإنساني في باريس
استضافت فرنسا في التاسع من نوفمبر 2023 مؤتمرًا دوليًا إنسانيًا بهدف “مناقشة الوضع الإنساني الحرج الذي يواجهه السكان المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة”، وذلك على هامش منتدى باريس للسلام، وتم توجيه الدعوة لنحو 80 دولة ومنظمة كبرى، من بينهم أصحاب المصلحة الإقليميين الرئيسيين، مثل: مصر والأردن والدول الخليجية، بالإضافة إلى القوى الغربية والأوروبية وأعضاء مجموعة العشرين (باستثناء روسيا) والعديد من وكالات الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، والمنظمات غير الحكومية العاملة في غزة. وقد حضرت السلطة الفلسطينية لكن لم يتم توجيه الدعوة إلى إسرائيل، على أن يتم إخبار الأخيرة بما تم تناوله في المؤتمر.
وقد تعهد مسؤولي الدول التي شاركت بالمؤتمر بتقديم مساعدات تتجاوز قيمتها مليار يورو بهدف تلبية حاجات الأمم المتحدة لمساعدة سكان قطاع غزة والضفة الغربية. وقد أكد ماكرون خلال المؤتمر على ضرورة “العمل من أجل وقف إطلاق النار” بين إسرائيل وحركة حماس، وحماية المدنيين، وذلك بعدما كان حديثه مقتصرًا على ضرورة إحلال هدنة إنسانية.
تحركات فرنسا منذ بدء الحرب الدائرة في قطاع غزة
منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تعددت مستويات الحركة الفرنسية للتعامل مع التطورات، وذلك على الصعيدين السياسي والإنساني.
فعلى الصعيد السياسي، حرص “ماكرون” على زيارة عدة دول في الشرق الأوسط بعد أيام من عملية “طوفان الأقصى” وما تلاها من عدوان إسرائيلي متواصل على قطاع غزة، وشملت جولته تل أبيب والضفة الغربية وعمّان والقاهرة. وقد عمل خلال هذه الزيارة على إبداء دعم بلاده لإسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد الهجمات التي وصفها ماكرون بـ”الإرهابية”، مع التأكيد في الوقت نفسه على ضرورة ضمان عدم إلحاق الضرر بالمدنيين. هذا إلى جانب إعادة طرح ملف التسوية السياسية القائم على مبدأ “حل الدولتين” لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأيضًا التحذير من مخاطر تمدد الصراع ليشمل مناطق أخرى، لا سيما لبنان. وهو الأمر الذي محور المحادثة الهاتفية التي جمعت بين الرئيس الفرنسي مع نظيره الإيراني “إبراهيم رئيسي” يوم الخامس عشر من أكتوبر الماضي، كما كان هذا الحرص الفرنسي ملموسًا أيضًا في الزيارة التي أجراها وزير الدفاع الفرنسي “سيباستيان لوكورنو” إلى لبنان في الأول من نوفمبر الجاري، والتي أكد فيها على التزام بلاده باستقرار لبنان ورغبتها في عدم توسيع نطاق النزاع ليشملها. علاوة على ذلك أعلن “لوكورنو” يوم 14 نوفمبر الجاري عبر منصة “إكس” عن قيامه بزيارة إلى الشرق الأوسط، بناءً على طلب من “ماكرون” لمناقشة الوضع في قطاع غزة، فضلًا عن قضايا الأمن الإقليمية. موضحًا أن جولته تتضمن زيارة مصر والخليج. وسيختتم جولته في منطقة الشرق الأوسط بزيارة إسرائيل، والتي تعد الزيارة الأولى من نوعها، نظرًا إلى أن وزير الدفاع الفرنسي لم يتوجه إلى تل أبيب منذ عام 2000.
وخلال القمة الأوروبية الأخيرة، التي عُقدت في بروكسل، يوم 26 أكتوبر الماضي، عملت فرنسا على دفع الأوروبيين للعمل بشكل وثيق مع الشركاء في منطقة الشرق الأوسط لحماية المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية بشكل متواصل. وأشار “ماكرون” أثناء مؤتمر صحفي عقب القمة إلى أهمية مكافحة الإرهاب، على ألا يتم ذلك من خلال الحصار الكامل والقصف العشوائي اللذين يقفان عقبة أمام جهود حماية المدنيين.
وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت من بين الـ 120 دولة والعضو الوحيد في مجموعة السبع التي قامت بتأييد مشروع القرار العربي الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 27 اكتوبر، والذي نص على “هدنة إنسانية فورية ودائمة ومستدامة تفضي إلى وقف الأعمال العدائية”. علاوةً على ذلك، صوتت فرنسا لصالح مشروع القرار الذي تقدمت به البرازيل في مجلس الأمن في 18 أكتوبر، والداعي إلى “هدنة إنسانية للسماح بوصول المساعدات الإنسانية بشكل كامل وسريع وآمن ودون عوائق”.
أما على الصعيد الإنساني، فقد أعربت باريس عن إدانتها للغارات الإسرائيلية على مخيم جباليا، وأن حماية المدنيين هو أمر ملزم للجميع. وقد حرصت فرنسا منذ بدء التصعيد على تقديم المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، حيث وصل 54 طنًا من المساعدات الفرنسية إلى مصر مطلع الأسبوع الجاري، تمهيدًا لإرسالها إلى غزة. كما تمتلك فرنسا حاليًا حاملة طائرات (على متنها فرق جراحية وعناية مركزة) في منطقة شرق المتوسط، وتعتزم إرسال حاملة طائرات ثانية ذات قدرة طبية معززة سيتم نشرها قريبًا في نفس المنطقة لتحل محل حاملة الطائرات الأولى. وفي ظل استمرار القوات الإسرائيلية في توغلها البري وقصف غزة، دعا ماكرون إلى ضرورة تطبيق هدنة إنسانية، في نفس الوقت الذي أعلن عن نيته عقد مؤتمر دولي للسلام، مع تأكيده على أن مكافحة الإرهاب لا تبرر التضحية بالمدنيين.
وتجدر الإشارة إلى أن التحركات الفرنسية تتفق إلى حد كبير مع الموقف العربي، حيث حاول الأخير تقديم مشروع قرار لم يتم تمريره في الجمعية العامة للأمم المتحدة، طالب الجميع بالامتثال للقانون الدولي، وتسهيل الوصول الإنساني للإمدادات إلى المدنيين في قطاع غزة.
واتصالًا بهذا الشأن، أكدت فرنسا على وجود ثلاثة أهداف للمؤتمر، وهي: العمل على تعزيز الالتزام بمبادئ القانون الدولي الإنساني، وحماية المدنيين والعاملين في المجال الإنساني، وتسريع عملية دخول المساعدات الإنسانية، وأن الفكرة الأساسية وراء المؤتمر هي مساعدة سكان غزة وذلك من خلال شقين، الشق الأول مفاده جمع المانحين الرئيسيين وتسريع تقديم المساعدات لقطاع غزة، لا سيما الغذاء واللوازم الطبية والطاقة، وذلك في ظل استمرار تعنت إسرائيل ورفضها دخول الوقود إلى القطاع، هذا بالإضافة إلى مساعدة الجرحى في القطاع من خلال تسليط الضوء على الاستخدام المحتمل للممرات البحرية، نظرًا لانهيار البنية التحتية الطبية في غزة، ومناقشة إمكانيات إنشاء مستشفيات ميدانية ومستشفيات عائمة على متن السفن. بينما يكمن الشق الثاني في تقديم المشاركين بالمؤتمر تعهدات بالتبرعات. وقد أكدت مصادر فرنسية أنه سيتم تنظيم هذا الأمر استنادًا إلى الاحتياجات المحددة من قبل الأمم المتحدة وخاصةً من قبل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”.
وعلى الرغم من جهود فرنسا لاحتواء الصراع دون خسارة حليفها الاستراتيجي “إسرائيل”، وصف البعض الموقف الفرنسي بأنه متذبذب، نتيجة تصاريح “ماكرون” المتضاربة. حيث صرح الرئيس الفرنسي في إحدى مقابلاته مع هيئة البث البريطانية “بي بي سي” يوم الجمعة الموافق 10 نوفمبر 2023، بتقديمه الدعم لإسرائيل في الدفاع عن نفسها، وفي نفس الوقت أكد على ضرورة وقف إسرائيل قصف المدنيين، حيث أوضح “نحن نشاطر إسرائيل وجعها ونشاركها رغبتها في التخلص من الإرهاب.. لكن ثمة مدنيون يُقصفون، هؤلاء الأطفال هؤلاء النساء هؤلاء الكبار في السن يتعرضون للقصف والقتل ولا يوجد أي مبرر ولا أي شرعية لذلك. لذا نحض إسرائيل على التوقف”.
وأبدت إسرائيل ضيقها إزاء التصريحات التي أدلى بها “ماكرون”، إذ نشر “نتنياهو” على موقع “إكس”: “المسؤولية عن أي أذى للمدنيين تقع على عاتق حماس، وليس على إسرائيل”. وقال رئيس الوزراء لاحقًا في مؤتمر صحفي إن تصريحات “ماكرون” “خاطئة لجهة الوقائع والموقف الأخلاقي”. وأدى الموقف الإسرائيلي إلى عودة الرئيس الفرنسي خطوة للوراء، وأكد من جديد على موقفه منذ البداية وهو “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. ولم يكتفِ “ماكرون” بذلك، بل قام أيضًا باتصال هاتفي بالرئيس إسرائيل “إسحاق هرتزوغ” وبوزير الدفاع السابق “بيني غانتس”، ووفق الرئاسة الإسرائيلية، أوضح “ماكرون” أنه لم تكن لديه نيّة اتهام إسرائيل بتعمد إيذاء مدنيين أبرياء في إطار عملياتها ضد حماس.
كما أبدى “ماكرون” تراجعًا أيضًا عن تصريحه الخاص بضرورة العمل على وقف إطلاق النار. ففي رسالته التي وجهها للفرنسيين يوم 11 نوفمبر الجاري بمناسبة المسيرة المناهضة لمعاداة السامية بدعوة من رئيسي مجلس الشيوخ والنواب، عاود “ماكرون” التأكيد على ضرورة التوصل إلى هدنة إنسانية يمكن أن تقود لوقف لإطلاق النار.
دوافع فرنسية
يمكن الإشارة إلى عدد من العوامل التي دفعت باريس نحو عقد هذا المؤتمر، وذلك على النحو التالي:
أولًا، تأكيد حضورها كفاعل مؤثر بمنطقة الشرق الأوسط: تبادر فرنسا دائمًا إلى التواجد بشكل فعال في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما في حال وجود أزمة إنسانية أو سياسية أو اقتصادية، والدليل على ذلك أن ماكرون كان أول رئيس دولة أجنبية يزور لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت الذي وقع في عام 2020، علاوةً على عقده مؤتمرات إنسانية أكثر من مرة لدعم لبنان. كما برزت فرنسا كفاعل ضمن الجهود العربية والإقليمية لدعم العراق، سياسيًا وأمنيًا، وهو ما تجلى في مشاركة الرئيس الفرنسي بمؤتمري “بغداد للتعاون والشراكة”، بغداد أغسطس 2021، وعمّان ديسمبر 2022، حيث أكد في إطارهما على دعم فرنسا للعراق في مسار مكافحة الإرهاب، وعلى ضرورة بذل كل الجهود الممكنة لضمان استقرار العراق. وفي ظل التصعيد الراهن، تسعى فرنسا عبر مؤتمرها الإنساني تجديد مشاركتها الفاعلة داخل منطقة الشرق الأوسط، ومحاولة إنقاذ الوضع الإنساني المتردي بالفعل.
ثانيًا، الحيلولة دون تمدد نطاق الصراع: شددت فرنسا مرارًا وتكرارًا من مخاطر امتداد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى المنطقة لا سيما إلى لبنان، والتي تجمعها بها علاقات تاريخية واقتصادية وسياسية وثقافية، وتوليها اهتمامًا كبيرًا، وهو ما برز في تعيين باريس وزير خارجيتها السابق “جان إيف لودريان”، مبعوثًا خاصًا إلى بيروت في يونيو 2023، بهدف إيجاد حل توافقي وفعال للأزمة السياسية والاقتصادية التي تواجهها البلاد. واستنادًا إلى ما ترتب عنه التصعيد بين إسرائيل وحماس من مناوشات حدودية بين إسرائيل وحزب الله، تُشدد فرنسا على ضرورة إخراج لبنان من دائرة هذا الصراع، خاصةً في ظل ما تمر به البلاد من أزمات حادة لا تستطيع معها تحمّل تبعات أي صراعات أو نزاعات خارجية. كما تخشى باريس من احتمال تأثير تمدد الصراع على القوات الفرنسية المتواجدة في لبنان ضمن قوة الأمم المتحدة المؤقتة (يونيفيل)، والتي يقدر عددها بنحو 700 جندي فرنسي، خاصةً بعد تعرض مقر اليونيفيل لأضرار جراء قذيفة سقطت داخله.
ثالثًا، تأمين عودة المحتجزين الفرنسيين من غزة: حيث تتبنى باريس نهجًا مرنًا لضمان عودة المحتجزين الفرنسيين، فعلى الرغم من موقفها المتشدد من حركة حماس، إلا أن ذلك لم يمنع باريس من محاولة كسب أرضية لدى الجانب الفلسطيني من خلال إظهار دورها كمساهم في جهود تسريع إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
رابعًا، دعم حل الدولتين: أكد الرئيس الفرنسي خلال كلمته بالمؤتمر الإنساني على ضرورة العمل على حل الدولتين بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو ما يعكس الرؤية الفرنسية بشأن كيفية تسوية القضية الفلسطينية، حيث تعتبر فرنسا أن حل الدولتين هو الحل الوحيد الكفيل في تلبية تطلعات الإسرائيليين والفلسطينيين المشروعة.
خامسًا، احتواء الداخل: تضغط الحرب الدائرة في غزة على ماكرون بشكل كبير على المستوى الداخلي، نظرًا لوجود أكبر جالية يهودية وأكبر جالية مسلمة في أوروبا داخل المجتمع الفرنسي. فمنذ بدء الصراع، شهدت العاصمة الفرنسية مظاهرات تطالب بوقف فوري لإطلاق النار. وحفاظًا على الأمن والاستقرار الداخلي وخوفًا من انتشار الفوضى في أنحاد البلاد، قام وزير الداخلية الفرنسي “جيرالد دارمانين” في يوم الثاني عشر من أكتوبر بحظر كافة المظاهرات الداعمة للفلسطينيين.
سادسًا، إكساب منتدى باريس للسلام زخم دولي: حيث يُعقد هذا المؤتمر سنويًا في شهر نوفمبر منذ عام 2018، لعرض المشاريع والأفكار والمبادرات التي من شأنها تبديد التوترات الدولية عبر إرساء التعاون بين الدول، وعادة ما يحضره رؤساء دول وحكومات ومنظمات حكومية واقتصادية كبرى. ولما كانت مسألة غزة تكتسب الزخم الأكبر على الساحة الدولية منذ اندلاع التصعيد في أكتوبر الماضي، فإن الربط الفرنسي ما بين تفاقم الوضع الإنساني في غزة ومنتداها للسلام، يعطي الأخير الزخم المطلوب دوليًا، ويلقي الضوء على جهود باريس لتحقيق السلام العالمي.
ختامًا، يعبر المؤتمر الدولي الإنساني عن طبيعة الموقف الفرنسي العملي إزاء الحرب الدائرة في قطاع غزة، ويكشف عن تخوفاتها مما قد يؤدي إليه تمدد نطاق الصراع، ويعكس حصر التركيز في المؤتمر على القضايا الإنسانية المتعلقة بالصراع إدراكًا فرنسيًا بالقضايا المُلّحة المطلوب التعامل معها بشكل سريع، والتي يمكن تحقيق اختراق بشأنها، وبإمكانها خلق المناخ اللازم للدفع نحو تطبيق هدنة إنسانية لإدخال المساعدات، وربما التمهيد لحل القضايا الأكثر تعقيدًا في مرحلة لاحقة.