
تضاؤل الإنجازات … مرحلة جديدة في معركة “البحر الأسود” بين موسكو وكييف
على الرغم من أن مسرح العمليات العسكرية الرئيسي في المواجهة العسكرية الحالية بين الجيشين الروسي والأوكراني، هو مسرح “بري” بشكل أساسي، ينقسم بين جبهات شرق أوكرانيا وجنوبها، ألا أن ميادين “موازية” للقتال بين الجانبين، باتت تشهد تطورات لافتة ومهمة على المستوى التسليحي والتكتيكي، سواء كانت هذه الميادين “جوية” أو “بحرية”. الجانب البحري من هذه المواجهة شهد عدة مراحل متعاقبة من التفاعلات، وسط تغير مستمر للأهداف التكتيكية لكلا الجانبين حيال استخدامهم القدرات البحرية المختلفة لخدمة المجهود العسكري الميداني على البر.
ويبدو من الأهمية بمكان – بالنظر إلى ظهور مؤشرات لافتة على مستوى تفاعلات المواجهات البحرية بين الجانبين مؤخراً – التعمق أكثر في تفاصيل هذه المواجهة متعددة الطبقات والأهداف، التي سيكون لها بالقطع تأثيرات جذرية على مستقبل الحرب البحرية، سواء من حيث تطوير القدرات البحرية التقليدية وغير التقليدية، أو تحديث التكتيكات البحرية ودمج القدرات الغير مأهولة – سواء كانت غاطسة أم طافية أم طائرة – بشكل يمكن من خلاله القول أن عصر “القطع البحرية العملاقة”، قد انتهى عملياً، وبات المستقبل هو للتسليح البحري الذكي و”الُمصغر”.
الذهنية المحركة لدور القوة البحرية في المواجهة العسكرية الروسية – الأوكرانية
(البحر الأسود وبحر آزوف)
يمكن القول إن استخدام القوة البحرية في دعم المجهود العسكري الروسي في ميادين القتال شرق وجنوب أوكرانيا، مر بعدة مراحل من التطور، واكبتها في الجانب الأخر مراحل من تطور سبل مواجهة الجيش الأوكراني للتفوق البحري “الكاسح” لموسكو. في بداية مرحلة انفتاح القوة البحرية الروسية – ممثلة في كامل وحدات أسطول البحر الأسود – لمواكبة التحرك الهجومي الروسي شمال وشرق وجنوب أوكرانيا، كان واضحاً أن الإطار العام لهذه المرحلة، يرتبط بشكل وثيق بالنظرة الروسية بحر “آزوف”، ففي العهد السوفيتي، كان ينظر لهذا البحر دوماً من جانب موسكو على انه “بحر داخلي سوفيتي” لا يخضع لأية قوانين دولية، لكن تغيرت هذه النظرة – ولو مؤقتاً – بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والذي كان من نتائجه، تنازع أوكرانيا وروسيا على نطاق السيطرة في بحر أزوف.
وقد عاد هذا البحر إلى واجهة الاستراتيجية البحرية الروسية عام 2001، بعد أن أعدت وزارة الدفاع الروسية وثيقة “العقيدة البحرية للاتحاد الروسي”، متضمنة تأكيداً واضحاً على أن بحر آزوف يعتبر من العناصر الأساسية في العقيدة البحرية الروسية في منطقة المحيط الأطلسي. وقد تضمنت هذه الوثيقة أيضاً بنود تتعلق بضرورة العمل على ضمان تحقيق المصالح الروسية في نطاق البحر الأسود وبحر آزوف، وضمان حرية تحرك الأساطيل الحربية والتجارية الروسية في هذا النطاق، وإدامة سلاسة نظام الملاحة النهرية الداخلية المرتبط ببحر آزوف، خاصة قناة “فولجا-دون”، الرابطة بين بحر قزوين وبحر آزوف، وما يرتبط بها من مرافئ وبنى تحتية.
وقد ظل ملف بحر آزوف محل خلاف روسي – أوكراني طيلة الفترة التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، إلى أن تم إيجاد حل مؤقت لهذا الخلاف في يناير 2003، عبر توقيع “معاهدة التعاون في استخدام بحر آزوف ومضيق “كيرتش” الرابط بينه وبين البحر الأسود”، التي جعلت من بحر أزوف بحراً داخلياً لكلا الدولتين، واستفادت موسكو بشكل كبير حينها من هذه المعاهدة، بحيث حصلت على نحو 38 بالمائة من مساحة بحر آزوف، وحصلت كذلك على حق المرور عبر مضيق “كيرتش” دون دفع رسوم للجانب الأوكراني.
لكن ما تحصلت عليه موسكو في هذه الاتفاقية، لم يمكنها من تنفيذ خطتها لتحديث أسطول البحر الأسود، لذا أقدمت على ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، لتمكين دمج قاعدة “سيباستوبول” البحرية، ضمن الاستراتيجية البحرية العامة لروسيا في البحر الأسود وشرق البحر الأبيض المتوسط ، وقد أسفرت السيطرة على القرم، في تحقيق مكاسب استراتيجية إضافية لموسكو، مكنتها من الاقتراب على مسافة خطوة واحدة من تحقيق السيطرة الكاملة على بحر آزوف والبحر الأسود، من بينها السيطرة الكاملة على مضيق “كيرتش”، الرابط بين البحر الأسود وبحر آزوف، وكذا على الرسوم المالية التي تدفعها السفن المارة عبر المضيق، وتوسيع طول الساحل الروسي على البحر الأسود، من 421 كيلومتر قبل ضم شبه جزيرة القرم، إلى نحو 1200 كيلو متر، يضاف إليها نحو 500 كيلو متر مطلة على بحر آزوف، وكذا تسهيل مهمة تطوير وتحديث مرافق البحرية الروسية في شبه جزيرة القرم وبحر آزوف، التي تشمل أربعة قواعد بحرية رئيسية، بواقع قاعدتين في شبه جزيرة القرم، هما “سيباستوبول” و”نوفوروسيسك”، بالإضافة إلى قاعدتين في الجانب الشرقي من مضيق “كيرتش”.
لكن حتى في هذه المرحلة، كان المخطط العسكري الروسي يستشعر مخاطر جدية على وضع المنشأت البحرية الروسية في البحر الأسود، وكذلك على شبه جزيرة القرم، التي عانت خلال السنوات الأخيرة من شح في مياه الشرب، جراء بناء أوكرانيا سد في منطقة “خيرسون”، وهذا إن أضفناه لرغبة موسكو في خلق “منطقة عازلة” تحول بها دون تواجد حلف الناتو قرب حدود الاتحاد الروسي، نستطيع أن نفهم بشكل عام التوجهات التي حركت المرحلة الأولى من استخدام القوة البحرية في العمليات الروسية في أوكرانيا، وملخصها هو عزل أوكرانيا بشكل كامل عن سواحلها الجنوبية، أو على الأقل عن ساحلها المطل على بحر آزوف، بجانب توفير أقصى حماية ممكنة لشبه جزيرة القرم، والتمركزات البحرية لأسطول البحر الأسود.
نجاح جزئي على ساحل بحر “آزوف”
(السيطرة الروسية على موانئ أوكرانيا في بحر آزوف)
مع بدء العمليات القتالية الروسية في أوكرانيا، شاركت الوحدات البحرية التابعة لأسطول البحر الأسود قتالياً على عدة مستويات، المستوى الأول كان عبر الدعم النيراني المباشر عبر تنفيذ الضربات الصاروخية، على الأهداف الأوكرانية، باستخدام النسخة الأحدث من صواريخ “كاليبر” الجوالة، وهي النسخة “3M-14T” المخصصة لسفن السطح، والتي يحمل كل منها رأس حربى زنته 450 كجم، بمدى أقصى يصل إلى 2500 كم، حيث نفذت هذا الواجب القتالي منذ بداية العمليات وحتى الأن، الكورفيتات الصاروخية من الفئة “Buyan-M”، وفرقاطات الصواريخ الموجهة من الفئة “Grigorovich”، بجانب الغواصات من الفئة “كيلو” المحسنة.
المستوى الثاني كان عبر استخدام سفن الإنزال البحري، لتنفيذ عمليات إبرار تستهدف الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود وبحر آزوف، لتأمين السيطرة عليها وعلى ما تتضمنه من قطع بحرية، وهذا تضمن إنزال وحدات من مشاة البحرية الروسية، انضمت إلى الوحدات التي عبرت قناة “القرم” البحرية، وانفتحت قتالياً على طول الساحل الأوكراني. عملية السيطرة على الموانئ الأوكرانية، ركزت بشكل أساسي على موانئ بحر أزوف، بما في ذلك ميناء “بيرديانسك” وميناء “ماريوبول”، وخلال هذه العمليات تمكنت القوات الروسية في نطاق بحر أزوف، من مصادرة أثنى عشر قطعة بحرية أوكرانية.
المستوى الثالث من مستويات العمليات البحرية الروسية في أوكرانيا، تركز بشكل خاص على ساحل البحر الأسود، فقد تحركت بشكل لافت على مدار المرحلة الأولى من المعارك، سفن الإنزال البحري الروسية، بشكل كان يوحي بأنها تعتزم تنفيذ إنزالات بحرية مباشرة على ميناء “أوديسا”، الذي يعد أهم نقطة في هذا النطاق، وقاد الطراد “موسكوفا” العمليات البحرية في هذا الاتجاه، خاصة عملية السيطرة على جزيرة “الثعبان” الواقعة جنوبي ميناء أوديسا. كما تضمنت العمليات الروسية في هذا الاتجاه عمليات لكسح الألغام البحرية التي زرعتها القوات الأوكرانية قرب الموانئ، وكذلك تنفيذ عمليات الاستطلاع اللاسلكي والإلكتروني عبر القطع البحرية المخصصة لهذه المهام.
لكن كانت النقطة الأهم في هذه المرحلة، والتي استمرت منذ بداية العمليات وحتى أكتوبر 2022، أن القوات الروسية المشاركة في عمليات الجبهة الجنوبية، وفي معيتها وحدات أسطول البحر الأسود، رغم تمكنها من السيطرة على كامل الساحل الأوكراني على بحر آزوف، إلا أنها فشلت في تحقيق هدف عملياتي أساسي من أهداف المرحلة الأولى من العمليات العسكرية الروسية، ألا وهو عزل أوكرانيا عن كامل ساحلها الجنوبي، وهو هدف لم تتمكن القوات الروسية من تحقيقه حتى الآن.
بدء “نزيف” أسطول البحر الأسود الروسي
(الهجوم على ميناء “بيرديانسك” – مارس 2022)
رغم التفوق الكاسح للبحرية الروسية على المستوى العددي والقتالي، إلا أنها عانت من سلسلة من الخسائر الثقيلة، تسببت فيها سلسلة من التكتيكات الأوكرانية المتدرجة، التي وضعت نصب أعين الوحدات البحرية الأوكرانية الخاصة، هدف وحيد وهو حرمان أسطول البحر الأسود الروسي من القدرات اللازمة لإكمال “عزل” الساحل الأوكراني. بداية هذا المسار كانت في شهر مارس 2022، حين تعرضت ثلاث سفن إنزال بحري روسية إلى قصف صاروخي أوكراني، باستخدام الصواريخ الباليستية قصيرة المدى “توشكا-يو”، أثناء تواجدها داخل ميناء “بيرديانسك”، ما أسفر عن تدمير سفينة الإنزال من الفئة “تابير” المسماة “ساراتوف” بشكل كامل، وتضرر سفينتي إنزال من الفئة “روبتشا” هما “نوفورسيسك” و”سيزار كونيكوف”. هذه الحادثة أثارت علامات استفهام كبيرة حول كفاءة التكتيكات البحرية الروسية، وبدا أن تعجل مشاة البحرية الروسية في الدخول إلى الميناء والسيطرة عليه، تسبب في هذه النتيجة الكارثية. تلا هذه الحادثة، تضرر زورق دورية سريع روسي من الفئة “رابتور” بشكل جسيم، بعد إصابته بصاروخين مضادين للدروع، أطلقتهما القوات الأوكرانية قرب ميناء “ماريوبول”.
الثقل الأكبر في الخسائر البحرية الروسية، كان بطله أحد ثلاثة طرادات من الفئة “سلافا” عاملة في البحرية الروسية، وهو الطراد “موسكوفا”، الذي كان بمثابة سفينة القيادة لأسطول البحر الأسود، وأكبر قطعة بحرية موجودة فيه، حيث كانت إزاحته تتعدى 12 ألف طن، وكان مسلحاً بشكل ثقيل على مستوى الأسلحة المضادة للطائرات والقطع البحرية السطحية، مع قدرات محدودة على مواجهة الغواصات، حيث تسلح ب 16 قاذف لصواريخ “بي-1000” المضادة للقطع البحرية، بمدى يصل إلى 500 كيلو متر، ورأس حربي تصل زنته إلى 1 طن، بجانب 64 أنبوب إطلاق عمودي للنسخة البحرية من منظومة الدفاع الجوي بعيدة المدى “أس-300″، وقواذف لصواريخ الدفاع الجوي قصيرة المدى “أوسا”. بهذا التسليح كان الطراد “موسكوفا” خلال مشاركته “القصيرة” في العمليات البحرية الروسية في أوكرانيا، ينفذ مهام التأمين والحماية لسفن الإنزال، ويعمل كسفينة قيادة تستطيع توفير حماية للقطع البحرية عبر منظومات الدفاع الجوي الكثيفة الموجودة على متنها.
(الطراد الروسي “موسكوفا” قبيل غرقه – أبريل 2022)
تعرض هذا الطراد في الثالث عشر من أبريل 2022، أثناء تمركزه جنوب شرق جزيرة “زميني”، على بعد 50 ميل بحري من الساحل الأوكراني، لضربة صاروخية باستخدام صاروخين من نوع “نبتون”، ليصاب بأضرار بالغة في القسم الأوسط منه، ومن ثم غرض بشكل كامل أثناء محاولة قطره إلى شبه جزيرة القرم، لتصبح هذه الحادثة بمثابة أكبر عملية إغراق لسفينة حربية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية – إذا ما استثنينا عملية إغراق احدى القطع البحرية البريطانية، بواسطة المقاتلات الأرجنتينية خلال حرب “الفوكلاند” – وهو ما ألقى الضوء مجدداً على حجم التهديد الذي تمثله الصواريخ المطلقة من منصات أرضية، على القطع البحرية مهما كان حجمها أو تسليحها، خاصة أن هجوم مماثل – لكن هذه المرة بصواريخ “هاربون” البحرية – قد أستهدف بعد هذه الحادثة بشهرين، زورق القطر “Vasily bekh” التابع لأسطول البحر الأسود، ما أدى إلى إغراقه.
عقب ذلك تم إغراق زورق إنزال واحد على الأقل من الفئة “سيرنا”، بعد أن تم قصفه عبر الطائرات الأوكرانية المسيرة في مايو 2022، قرب جزيرة “الثعبان”، التي كان فقدان السيطرة عليها من جانب موسكو أواخر يونيو من نفس العام، إيذاناً بنهاية هذه المرحلة من المواجهات البحرية بين الجانبين، وبدا أن موسكو بذلك تخلت عن هدفها الأساسي في السيطرة على ما تبقى من الساحل الأوكراني على البحر الأسود.
مرحلة “الزوارق المسيرة” وهجمات الموانئ
(الجيل الأول من المسيرات البحرية الأوكرانية – أكتوبر 2022)
في أواخر أكتوبر 2022، دخلت الحرب البحرية بين الجانبين الروسي والأوكراني، إلى مرحلة جديدة، بعد أن أدخلت كييف إلى المعادلة البحرية، سلاح “المسيرات العائمة والغاطسة”، عبر استخدام الجيل الأول المطور محلياً من هذه المسيرات، لمهاجمة عدة قطع بحرية داخل قاعدة أسطول البحر الأسود في ميناء “سيباستوبول” في شبه جزيرة القرم، ما أسفر عن أضرار كبيرة بكاسحة الألغام من الفئة “ناتيا” المسماة “إيفان جولوبيتس”، وأضرار أقل بفرقاطة “الأدميرال ماكاروف”.
أحدث هذا الهجوم كذلك، حالة من الصدمة لدى قيادة أسطول البحر الأسود الروسي، نظراً لأنه وضع القطع البحرية الروسية في البحر الأسود في حالة “دفاعية” مستمرة، ومنح كييف حافزاً كبيراً للاستثمار بشكل اكبر في هذه التقنية، فأعلنت الرئاسة الأوكرانية عقب هذا الهجوم الناجح، اطلاق حملة لجمع التبرعات، من أجل بناء أسطول من المسيرات البحرية، لحماية المدن الأوكرانية من الضربات الصاروخية الروسية التي تنطلق من السفن في البحر الأسود، وهو ما تم تفعيله أواخر عام 2022، عبر عدة مبادرات أهمها مبادرة بنك “Monobank”، وهو بنك عبر الإنترنت، أصبح أحد الطرق الرئيسية للمتطوعين لتقديم الأموال للجهد الحربي الأوكراني، خاصة ما يتعلق بشراء وتطوير الأنظمة المسيرة الجوية والبحرية.
(عائلة المسيرات الغاطسة “Toloka” – أبريل 2023)
في عام 2023، بدأ كلا الجانبين – خاصة الجانب الأوكراني – باستخدام المسيرات البحرية وتطويرها بشكل مستمر، فنفذت موسكو في شهر فبراير للمرة الأولى، هجوماً باستخدام المسيرات البحرية، استهدفت خلاله جسر “زاتوكا” جنوبي ميناء أوديسا الأوكراني، في حين بدأت كييف في الإعلان عن تطوير عدة أنواع من المسيرات البحرية، فكشفت في شهر مارس عن تصميم جديد لمسيرة بحرية ذات بدن منخفض، تحت اسم “باخموت”، مشتق من تصميم الجيل الأول من المسيرات البحرية، وفي أبريل 2023، كشفت عن مجموعة من المسيرات الغاطسة، التي تنتجها مجموعة “Brave” الأوكرانية، تحت أسم “Toloka”، وهي تعمل بمحركات كهربائية على نسق مشابه لآلية عمل الطوربيدات. تتألف هذه المجموعة من ثلاثة أنواع قيد التطوير، الأول هو مسيرات “TLK-150” قصيرة المدى، البالغ مداها الأقصى نحو مائة كيلو متر، وتحمل ما بين 20 إلى 50 كيلو جرام من المتفجرات، ومسيرات “TLK-400” متوسطة المدى، البالغ مداها الأقصى 1200 كيلو متر، وتحمل ما يصل إلى نصف طن من المتفجرات، بجانب مسيرات “TLK-1000” بعيدة المدى، البالغ مداها الأقصى 2000 كيلو متر، وتخطط كييف أن يتم تزويدها بما يتجاوز 1 طن من المتفجرات.
(الجيل الثاني من المسيرات البحرية الأوكرانية “MAGURA” – مارس 2022)
دخلت المديرية العامة للاستخبارات في أوكرانيا إلى هذا المجال، عبر تطويرها الجيل الثاني من المسيرات البحرية الأوكرانية، حيث بلغ مداه الأقصى ما يناهز 800 كيلو متر، وتم تزويده بشحنة متفجرة تبلغ زنتها 320 كيلو جرام، ومن ثم تم استخدام هذا النوع في عدة محاولات هجومية استهدفت ميناء “سيباستوبول” خلال شهري مارس ويوليو 2023 – شاركت فيهما أيضا مسيرات بحرية جديدة عبارة عن زلاجات مائية تم تعديلها لتصبح بدون ملاح – بجانب محاولتين هجوميتين غير ناجحتين، استهدفت في الأولى ثلاث زوارق مسيرة سفينة الاستخبارات والمراقبة “أيفان خورس”، أثناء تمركزها في منطقة قرب مضيق البوسفور التركي، وهو الهجوم الأبعد مدى الذي نفذته الزوارق المسيرة حتى الآن، أما المحاولة الثانية فتم فيها استهداف سفينة الاستخبارات والمراقبة “بريازوفي”، قرب خط الغاز “ترك – ستريم”، على بعد 300 كيلو متر جنوب شرق ميناء سيباستوبول، وقد تم أطلاق أسم “MAGURA” على هذا الجيل من المسيرات.
تولى جهاز الأمن الأوكراني “SBU”، مهمة تطوير الجيل الثالث من المسيرات البحرية الأوكرانية، تحت اسم “SEA BABY”، وكشف بشكل رسمي عن هذا الجيل أواخر ديسمبر 2023، لكنه استخدمه للمرة الأولى في أكتوبر من نفس العام، خلال الهجوم على جسر القرم “كيرتش”، والذي يعتبر الهجوم الأول الذي تشنه أوكرانيا على مبنى ثابت باستخدام المسيرات البحرية. يتميز هذه الجيل برأس حربي كبير تبلغ زنته 860 كيلو جرام، وقد هاجم الجسر في عدة مواضع، ما أسفر عن تضرر أجزاء منه لفترة طويلة، كما تم استخدام هذا الجيل من المسيرات البحرية، خلال شهر أغسطس 2023، أسفرا عن تضرر ناقلة النفط التابعة للبحرية الروسية “SIG” في مضيق كيرتش، وسفينة الإنزال “OLENEGORSKY”، التي أصيبت في جانبها الإيسر أصابه مباشرة
(الأضرار التي تعرضت لها الغواصة الروسية “rostov on don” – سبتمبر 2023)
بدأت المرحلة الثالثة من العمليات البحرية الأوكرانية ضد وحدات أسطول البحر الأسود الروسي في شهر سبتمبر الماضي، حين نفذت القاذفات الأوكرانية هجوم نوعي باستخدام صواريخ “ستورم شادو” الجوالة، أستهدف عدد من القطع البحرية الروسية، أثناء تواجدها داخل أحواض الصيانة والإصلاح في ميناء “سيباستوبول”، وأسفر هذا الهجوم عن أضرار بالغة بالغواصة “ROSOTV ON DON” من الفئة “كيلو” المحسنة، وأضرار مماثلة في سفينة الإنزال “MINK”، ويرجح أن كلا القطعتين قد خرجتا عن الخدمة بشكل كامل جراء الأضرار التي أصابتهما.
خلال ما تبقى من عام 2023، تكثفت بشكل واضح الهجمات الأوكرانية باستخدام الصواريخ والمسيرات على القطع البحرية الروسية، سواء أثناء تواجدها قرب الساحل، أو خلال تحركها في مناطق متعددة من البحر الأسود، فاستهدفت بالمسيرات البحرية في شهر سبتمبر أيضاً زورق الدورية “SERGEY KOTOV” دون أن تنجح في أصابته، واستهدفت كذلك الزورق الصاروخي “SAMUM”، وفي شهر أكتوبر استهدفت بالمسيرات البحرية زورق الدورية “PAVEL DERZHAVIN”، وفي شهر نوفمبر تسببت صواريخ “ستورم شادو” في أضرار متوسطة بكورفيت من الفئة “KARKURT” في مضيق كيرتش، وإغراق زورقي إنزال من الفئة “SERNA” و”ANDATRA” على ساحل شبه جزيرة القرم، وتعرضت سفينة الإنزال “نوفورسيسك” – التي سبق وتعرضت لأضرار في هجوم مارس 2022 – لأضرار بالغة بعد هجوم صاروخي استهدف ميناء “فيدوسيا” في شهر ديسمبر من نفس العام.
(الهجوم على الزورق الصاروخي إيفانوفيتش” وسفينة الإنزال “سيزار كونيكوف” – يناير وفبراير 2024)
منذ بداية العام الجاري، لوحظ تطور واضح في أسلوب عمل المسيرات البحرية الأوكرانية، حيث باتت تعمل تحت مبدأ “الصيد الحر” اعتماداً على معلومات استخباراتية محدثة، تتوجه من خلالها في اتجاه مواقع تحرك وتمركز القطع البحرية الروسية الأساسية في البحر الأسود، وكان التركيز – بطبيعة الحال – على سفن الإنزال. وقد حققت أوكرانيا نتائج جيدة للغاية في هذا الصدد خلال الشهرين الماضيين، حيث تمكنت من إغراق سفينة الإنزال “سيزار كونيكوف”، وإغراق الزورق الصاروخي “إيفانوفيتش”، أثناء تواجده في خليج “دونوزلاف”.
هذا التطور الواضح في أسلوب عمل المسيرات البحرية الأوكرانية، تزامن مع تشكيل قسم من مشغلي المسيرات البحرية الأوكرانية، يسمى “المجموعة 13″، كجزء من المديرية الرئيسية للاستخبارات الأوكرانية، يختص بتنفيذ مثل هذه الهجمات الخاصة في عرض البحر، وهو ما أكد الحديث الروسي السابق، عن أن الوسائط الجوية الاستطلاعية لحلف الناتو، والتي تعمل في أجواء البحر الأسود، تستخدم بشكل أساسي لتحديث المعلومات الأوكرانية الخاصة بأماكن تواجد القطع البحرية الروسية، وهو ما ساهم بشكل كبير في نجاح الهجمات التي تمت منذ مطلع العام الجاري، والتي كانت عملياً في مناطق بحرية مفتوحة.
يضاف إلى ذلك أن أسلوب تنفيذ هذه الهجمات أصبح أكثر كثافة ودقة، حيث أصبحت الهجمات تتم باستخدام “أسراب” من المسيرات البحرية، تتراوح بين خمسة وعشرة مسيرات، لا تنفذ جميعها الهجوم في وقت واحد، بل تتناوب فيما بينها لتشتيت جهود عناصر الحراسة التي تتولى المراقبة على سطح القطع البحرية المستهدفة، ناهيك عن أن سرعة وإمكانية المناورة التي تتمتع بها الأجيال الجديدة من هذه المسيرات – خاصة مسيرات “MAGURA V5″، تجعل من الصعب بمكان استهدافها، خاصة أن هذه المسيرات قد أظهرت – خاصة في الهجوم على الزورق الصاروخي “إيفانوفيتش”، مرونة في استهداف المواضع الحساسة في القطع البحرية المستهدفة، مثل مخرج عادم محرك السفينة وغرفة المحرك، والمروحة الرئيسية ونظام الدفع، وبالتالي انتقل هدف الهجمات من “إعطاب القطع البحرية المستهدفة أو إلحاق أكبر ضرر ممكن بها”، إلى “إغراقها بشكل كامل”.
مألات “المواجهة البحرية عن بعد” في البحر الأسود
أذن مما سبق يمكن القول أن تجربة استخدام المسيرات البحرية من جانب الجيش الأوكراني في البحر الأسود، كانت بمثابة “التجربة الناجحة الأبرز”، على المستوى الميداني بالنسبة لكييف، أن لم تكن “الوحيدة” الناجحة من ضمن ما تم أتباعه من تكتيكات، رغم أن هذا النجاح يتعدى بمراحل ما حققته تجربة “المسيرات الجوية” من نتائج، بالنظر إلى أن موسكو من جانبها تمكنت من مواكبة الخطوات الأوكرانية في هذه التجربة، وتفوقت عليها أحياناً، في حين لم تتمكن حتى الآن من مواكبة التطور المتزايد في المسيرات البحرية الأوكرانية، خاصة أن هذا التطور شمل أيضاً أنتاج مسيرات غاطسة بعيدة المدى وهي المسيرات الغاطسة متعددة المهام “ماريتشكا”، التي يصل مداها إلى 1000 كيلو متر. رغم هذا التفوق إلا أن موسكو من جانبها تعمل حالياً على تطوير عدة أنواع من المسيرات الغاطسة والعائمة، مثل المسيرات العائمة “Sargan” و”Skat” و”DANDELION” و”RIVERLINE”.
على المستوى التكتيكي، تسببت الأنشطة البحرية الأوكرانية في التقليل المستمر لإمكانية تنفيذ القوات الروسية عملية حصار محكمة للموانئ الأوكرانية المتبقية على البحر الأسود، وهو ما أدى بالتبعية إلى تراجع فرص الجيش الروسي في الجبهة الجنوبية، لتطوير عملياتها غرباً في اتجاه خيرسون وميناء “أوديسا”، علماً أن عزل الساحل الجنوبي الأوكراني بالكامل كان من اهم الأهداف الروسية على المستوى العسكري. كذلك أدت هذه الأنشطة إلى دخول أسطول البحر الأسود الروسي، في طور “دفاعي محض”، تم فيه إجباره على اتخاذ إجراءات دفاعية متزايدة داخل قواعده البحرية الأساسية في سيباستوبول ونوفورسيسك، تراوحت بين استخدام الدلافين المدربة لمكافحة أنشطة الضفادع البشرية، ووضع الحواجز المؤقتة على مداخل القواعد البحرية، وكذا تمويه بدن القطع البحرية الأساسية، بشكل يساهم خلال الليل في إخفاء طولها الحقيقي، وتسيير زوارق صغيرة لحراسة جوانب القطع البحرية الكبيرة من هجمات المسيرات، بجانب النقل المستمر للقطع البحرية الأساسية، خاصة الغواصات، بين القواعد الكبيرة والصغيرة لأسطول البحر الأسود، وهي جميعها إجراءات ساهمت في مجملها في تقليل الفعالية العملياتية لهذا الأسطول، وتحجيم مشاركته في دعم العمليات العسكرية الروسية في جبهات الجنوب والشرق.
ولعل الخسائر الكبيرة التي لحقت بقطع هذا الأسطول، وتعرض مقر قيادته الأساسي في ميناء سيباستوبول، لضربة صاروخية مباشرة في شهر سبتمبر الماضي، كانت سبباً رئيسياً في الإنباء التي أشارت لإقالة قائد أسطول البحر الأسود، الأدميرال فيكتور سوكولوف من منصبه، وتولي نائبه، سيرجي بينشوك، قيادة الأسطول بشكل مؤقت، وهو تغيير ربما يحمل في طياته اعترافاً بوجود أخطاء تكتيكية وعملياتية جسيمة في أسلوب قيادة هذا الأسطول، أدت إلى تحقيق الجيش الأوكراني منجزات ميدانية تعتبر “الوحيدة” حالياً في السجل الأوكراني، في ظل حالة التراجع المستمرة للقوات الأوكرانية في الجبهات القتالية المختلفة، لكن هذا الموقف يطرح تساؤل مهم حول الخيارات الروسية لاستعادة زمام المبادرة في البحر الأسود، والتعامل مع هذا الموقف الذي وصفه وزير القوات المسلحة البريطاني، جيمس هيبي، في أكتوبر الماضي، بانه “هزيمة وظيفية” لأسطول البحر الأسود، تتضمن تأثيرات نفسية على الذهنية الروسية حيال تفوق السلاح البحري، منها مثلاً ما يرتبط باستهداف وإغراق اكبر قطعة بحرية روسية “الطراد موسكوفا”، أو إغراق سفينة الإنزال “سيزار كونيكوف”، في نفس اليوم الذي يوافق ذكرى وفاة القائد العسكري الذي تحمل هذه السفينة أسمه، ألا وهو الرابع عشر من فبراير.
المحتمل في هذا الإطار، أن يسعى الجيش الروسي في الجبهة الجنوبية خلال الفترة القادمة، لإعادة تفعيل المحور القتالي الغربي في اتجاه ميناء “أوديسا”، لأنه عملياً لن تتمكن موسكو من إنهاء خطر المسيرات البحرية الأوكراني، ألا بعزل الساحل الأوكراني تماماً، وهنا يمكن القول إن مناشدة إقليم “ترانسنستيريا” الانفصالي في مولودوفا، السلطات الروسية كي تتدخل لحمايته، ربما تكون مدخلاً لإعادة تفعيل هذا المحور القتالي، خاصة أن موسكو تحتفظ بقوات محدودة في هذا الإقليم الذي يقع غرب الأراضي الأوكرانية. تنفيذ هذا السيناريو يبقى رهن بتمكن البحرية الروسية في البحر الأسود، من وقف النزيف الذي تتعرض له قطعها البحرية، ومن ثم تكثيف الضغط على القوات الأوكرانية في الجبهة الجنوبية، والتأثير عبر العمليات الجوية، على قدرات كييف في تنفيذ الهجمات البحرية الُمسيرة.
باحث أول بالمرصد المصري
 
				 
					


