دول المشرق العربيإسرائيل

ما بين الحفاظ على الوضع القائم والتصعيد.. هل تُخطط إسرائيل لتنفيذ عملية عسكرية في جنوب لبنان؟

لاتزال صدمة عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة حماس في السابع من أكتوبر الماضي مسيطرة على أذهان القادة في إسرائيل، في ظل الحديث عن تحقيقات مؤجلة بشأن قصور الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في التنبؤ بهذا الهجوم، واتخاذها الإجراءات اللازمة لمنع حدوثه. ومن ثم، يُسيطر على أذهان وتقديرات النخبة العسكرية والسياسية الإسرائيلية سبل تنفيذ ضربات أو عملية عسكرية استباقية لتقويض أية محاولة لتنفيذ هجوم عسكري محتمل مماثل لطوفان الأقصى من الجبهة الشمالية لإسرائيل حيث حزب الله في جنوب لبنان، في ظل انتهاج محور المقاومة في منطقة الشرق الأوسط المدعوم من إيران سياسية “وحدة الساحات”؛ ردًا على الحرب الإسرائيلية على غزة. وما صاحبه من تصعيد بين حزب الله وإسرائيل على المستويين السياسي والعسكري في الآونة الأخيرة، بشكل يُثير القلق حول مستقبل الوضع الأمني في شمال إسرائيل مما يُثير تساؤل رئيس مفاداه؛ هل تُخطط تل أبيب لتنفيذ عملية عسكرية جنوب لبنان؟.

انطلاقًا مما سبق، تهدف المقالة لمناقشة حزمة من المؤشرات الرئيسة الكاشفة عن مدى احتمالية تنفيذ إسرائيل عملية عسكرية في جنوب لبنان، كسبيل تستهدف تل أبيب من خلاله تدمير البنية التحتية للحزب، وتقويض قدرته على شن ضربات عسكرية ضد إسرائيل، بالإضافة إلى تحييد حزب الله عن الحرب الإسرائيلية على غزة، وفك الارتباط بين التصعيد في شمال إسرائيل والتصعيد في غزة، وذلك تزامنًا مع عزم تل أبيب مد عملياتها العسكرية في رفح جنوب قطاع غزة على الحدود المصرية والذي قد ينجم عنه أزمة إنسانية حادة، قد تدفع حزب الله لتكثيف ضرباته على شمال إسرائيل. بالإضافة إلى تناول المحفزات الإسرائيلية لتنفيذ هذا الهجوم المحتمل.

أولًا: مؤشرات كاشفة حول مدى احتمالية تنفيذ تل أبيب عملية عسكرية ضد حزب الله في جنوب لبنان

تعددت المؤشرات التي تبعث بدلالات حول مدى احتمالية تنفيذ تل أبيب عملية عسكرية في جنوب لبنان، يُمكن مناقشتها على النحو التالي:

1- تكتيكات تل أبيب لاستعادة عنصر الردع الاستراتيجي ضد حزب الله

تصعيد متوالي تشهده الجبهة الشمالية الإسرائيلية وجنوب لبنان منذ اليوم التالي لعملية “طوفان الأقصى”، تنفيذًا لسياسية وحدة ساحات المقاومة، التي تقف وراء تنفيذ الحزب منذ 8 أكتوبر 2023 وحتى الشهر الجاري أكثر من 1020 عملية ضد الأهداف الإسرائيلية، وشملت مواقع ونقاط عسكرية إسرائيلية وكذلك مستوطنات إسرائيلية على الحدود التي تمتد لنحو 140 كيلومترًا من رأس الناقورة غربًا وحتى الجولان السورية المحتلة  شرقًا، والتي اسفرت -وفقًا لتقديرات حزب الله- عن جرح أكثر من ألفي إسرائيلي، في ظل غياب إحصائية مؤكدة حول عدد قتلى ومصابي الجيش الإسرائيلي ؛ حيث أعلن الجيش الإسرائيلي في 4 فبراير 2024 أن عدد قتلاه منذ 7 أكتوبر قد بلغ 562 قتيل، قتل منهم نحو 225 ضابط وجندي في غزة .

لكن على الجانب الآخر، نشرت صحيفة يديعوت احرونوت تقرير في 10 ديسمبر 2023، أشارت فيه إلى أن عدد الجنود الجرحى قد بلغ نحو 5 آلاف، من بينهم ألفان على الأقل أصبحوا في عداد المعاقين، لكن الصحيفة ما لبثت أن سحبت تقريرها، ونشرت أعدادا أقل من ذلك بكثير. لكن في نفس اليوم، كشفت صحيفة هآرتس الإسرائيلية عن ثمة فجوة كبيرة بين عدد الجنود الجرحى الذي يعلنه الجيش الإسرائيلي والبالغ نحو 1600 مصاب، وما هو مسجل في سجلات المستشفيات بأن عدد مصابي الجيش قد بلغ 4591 جريحًا خلال الفترة نفسها، وهو ما تزامن مع حديث وسائل الإعلام الإسرائيلية عن خسائر فادحة في الجيش الإسرائيلي غير متسقة مع الاحصاءات الصادرة عنه، بما يُشير إلى حرص تل أبيب على التكتم عن حجم خسائر جيشها في ظل فرض تل أبيب حظر على نشر معلومات حول عدد قتلى ومصابي الجيش الإسرائيلي. 

ومن ثم، باتت القيادة العسكرية أمام حتمية اتخاذ سياسة ردع فعالة تُجنبها سقوط مزيد من القتلى والمصابين في الجيش الإسرائيلي على أيدي حزب الله، في حين يبدو أن الضربات العسكرية المتوالية لمواقع وتمركزات عسكرية لحزب الله في جنوب لبنان، والتي بلغ عددها منذ بدء الحرب على غزة حتى 3 فبراير أكثر من 3400 هدف، بالإضافة إلى ضرب أكثر من 50 هدف للحزب في سوريا، وفقًا للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي- لم تحقق هدفها الرئيس الممثل في تحييد الحزب، وفك ارتباط جبهة جنوب لبنان عن تطورات الحرب في قطاع غزة. 

ففي جبهة جنوب لبنان، حيث يتمركز عناصر حزب الله والنقطة الرئيسية لشن الهجمات على شمال إسرائيل والهدف الأول في الاستهدافات الإسرائيلية، اتخذت تل أبيب عدة تكتيكات في لمحاولة استعادة توازنها في شمال إسرائيل، والحفاظ على فعالية عنصر الردع الاستراتيجي ضد حزب الله، تمثلت أولها؛ في تنويع بنك أهداف الضربات الإسرائيلية لتشمل استهداف عناصر وقادة الحزب الميدانيين البالغ عددهم حتى 17فبراير نحو 187 عنصر، ناهيك عن مقتل 11 عنصر من حركة أمل، بالإضافة إلى استهداف بنيتهم التحتية العسكرية وتدميرها.

علاوة على ذلك، اتجهت إسرائيل مؤخرًا إلى تكتيك جديد تمثل في استهداف المدنيين كآلية ضغط لتأليب الشارع اللبناني على حزب الله وسياسته الداعمة لغزة، ومحاولته توريط لبنان في حرب وصراع إقليمي واسع؛ حيث نفذت تل أبيب ضربات ضد مواقع في جنوب لبنان يوم 14 فبراير، أسفرت عن مقتل   15 شخصًا، بينهم 10 مدنيين على الأقل، 7 منهم من عائلة واحدة في ضربة استهدفت مدينة النبطية، بينما قُتل 5 عناصر من حزب الله ضمت  قائد قوات الرضوان التابعة للحزب، لتسجل تل أبيب أكبر حصيلة من القتلى في يوم واحد منذ بدء التصعيد على الجبهة اللبنانية، وذلك عقب مقتل جندية إسرائيلية في صفد بصاروخ أطلق من جنوب لبنان، ليبلغ إجمالي عدد الضحايا في لبنان منذ بداية عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر الماضي من مدنيين وصحفيين وعناصر من حزب الله وحركة أمل إلى 268 بالإضافة إلى عنصر في الجيش اللبناني، ونحو 40 مدنيًا من بينهم 3 صحفيين، بينما أسفرت ضربات حزب الله على الجانب الإسرائيلي عن مقتل 10 جنود و6 مدنيين، وفقًا لإحصاءات فرانس برس.

خريطة (1): نقاط التماس بين حزب الله وإسرائيل

أقسام منطقة جنوب الليطاني

وتهدف تل أبيب من هذا التصعيد وما تفرضه من ضغط على حزب الله، إلى دفع الحزب عن التخلي عن سياسة وحدة الساحات، وفك الارتباط بين الجبهة اللبنانية وقطاع غزة، وإجبار الحزب على الانصياع لمطلب تل أبيب الرئيس المتمثل في انسحاب عناصر الحزب من حدود جنوب لبنان إلى شمال نهر الليطاني الذي يبعد حوالي 18 ميلًا شمال الحدود الإسرائيلية اللبنانية، تنفيذًا للقرار الأممي 1701 الخاص بوقف القتال بين حزب الله وإسرائيل. 

بل وضعت تل أبيب انسحاب عناصر حزب الله لشمال نهر الليطاني، كشرط رئيس لعودة ما يقرب من 100 ألف إسرائيلي من سكان البلدات والقرى الحدودية الذين نزحوا بسبب عمليات القصف المتبادل عبر الحدود، وكضمانة رئيسة لعدم تنفيذ الحزب أي هجوم عسكري مفاجئ على بلدات شمال إسرائيل على غرار طوفان الأقصى.

خريطة (2): المدى الإسرائيلي المطلوب لانسحاب حزب الله من الحدود اللبنانية جنوبًا لشمال نهر الليطاني

إسرائيل تصر على دفع حزب الله للتراجع لما وراء نهر الليطاني

بل يبدو أن المخطط الإسرائيلي تجاه جنوب لبنان يتجاوز انسحاب حزب الله لشمال نهر الليطاني، ليشمل إنشاء منطقة عازلة جنوب نهر الليطاني، بعدما برز في الفترة الأخيرة الحديث عنها، مما دفع الحكومة اللبنانية إلى اتهام إسرائيل بمحاولة إنشاء منطقة عازلة بحكم الأمر الواقع، من خلال تدمير عشرات الآلاف من الأشجار لحرمان حزب الله من الغطاء.

2- تصريحات إسرائيلية تؤكد تنفيذ عملية عسكرية جنوب لبنان 

تتعدد التصريحات الصادرة عن سياسيين وعسكريين إسرائيليين التي تبعث برسالة واضحة بأن تل أبيب تُخطط لتنفيذ عملية عسكرية جنوب لبنان، ولكن الجدل يدور حول توقيت تنفيذها، في خضم اشتعال الحرب الإسرائيلية على غزة، والتخطيط لتنفيذ عملية عسكرية في رفح الفلسطينية، إلى جانب اشتعال الوضع في الضفة الغربية؛ فلقد صرح وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس، خلال زيارة لوزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورن إلى تل أبيب في 5 فبراير: “إن الوقت ينفد لإيجاد حل دبلوماسي لجنوب لبنان”، مع تصاعد التوتر بين الجانبين، مُضيفًا : “إذا لم يتم التوصل لحل سياسي فسيكون هناك تحرك عسكري لإعادة سكان البلدات الإسرائيلية على حدود لبنان”. 

بينما أفاد وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت يوم 29 يناير خلال زيارته للجنود المتمركزين قرب الحدود مع غزة، بأن “الجيش سيتحرك قريبًا جدًا على الحدود الشمالية.. إذا ستُعزز القوات في الشمال “، كما أبلغ غالانت الجنود بأنهم سيغادرون المنطقة للانتقال إلى الشمال، مُضيفًا أن جنود احتياط سيتركون مواقعهم استعدادًا لهذه العمليات المستقبلية. وفي تصريح آخر، قال غالانت إن “احتمال وقف الحرب في غزة لن يعني بالضرورة وقف إطلاق النار مع حزب الله، مُضيفًا “أن تحقيق الأمان في الشمال -عسكريًا أو عبر تسوية- هو ما سيجعل إسرائيل قادرة على التحلي بالهدوء”، كما أطلق غالانت تحذيرًا لحزب الله في 4 فبراير “من أن لدى إسرائيل العديد من الأدوات الهجومية التي يمكن أن تستخدمها في لبنان إذا لزم الأمر، حيث تواصل الجماعة الإرهابية هجماتها على طول الحدود”.

كما سبق وأن أعلن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي بأن احتمالات الحرب على الجبهة الشمالية الحدودية مع لبنان أعلى مما كانت عليه في الماضي. مع ارتهان القادة العسكريين الإسرائيليين استعادة الهدوء على الجبهة بانسحاب عناصر حزب الله من الحدود إلى شمال نهر الليطاني.

على الجانب الآخر، لم يهدد زعيم حزب الله حسن نصر الله ببدء الحرب، لكنه حذر من قتال “بلا حدود” إذا فعلت إسرائيل ذلك، معلنًا رفضه فك الارتباط بين جبهة جنوب لبنان وقطاع غزة، مؤكدًا على أنه لن يوافق على وقف إطلاق النار على الحدود الإسرائيلية اللبنانية قبل أن يكون هناك اتفاق في غزة، كما رفض الحزب اقتراحًا أمريكيًا بتحريك قوات الحزب على بعد عدة كيلومترات من الحدود، وفقًا لمسؤولين لبنانيين.

3- تقارير استخباراتية تُشير عزم تل أبيب تنفيذ هجوم بري جنوب لبنان

صدرت عدة تقارير استخباراتية في ديسمبر 2023، تُفيد بأن إسرائيل تُخطط لحرب برية جديدة ضد حزب الله في جنوب لبنان، كالتقرير الصادر عن صحيفة “ذا تايمز” البريطانية، الذي يؤكد أن الجيش الإسرائيلي وضع خططًا لغزو جنوب لبنان، بهدف دفع قوات الحزب المتمركزة على الحدود الجنوبية اللبنانية إلى الانسحاب شمالًا نحو نهر الليطاني، مما يُهدد بتصعيد أكبر للحرب في المنطقة، وسط دعوات من حلفائه الغربيين لضبط النفس.

كما نقلت الصحيفة عن مسؤول إسرائيلي كبير قوله إن ما حصل في جنوب إسرائيل لا يُقارن بما يمكن أن يقوموا به هنا (في الشمال)، لافتًا إلى أن العقيدة الإسرائيلية هي نقل الحرب إلى الجانب الآخر. وهو ما يأتي في ظل تأكيد المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي جوناثان كونكريس بأنه لا يمكن العودة إلى الوضع الذي كان سائدًا قبل 7 أكتوبر، في ظل تقديرات إسرائيلية بأن حزب الله أخطر وأقوى من حركة حماس، لافتًا إلى أن الجيش الإسرائيلي مستعد، ويستعد، وأن رئيس أركان الجيش وافق على الخطط وحدد جداول زمنية للاستعداد. 

كما أفادت قناة “LBCI” اللبنانية بأن “إحدى الدول العربية أبلغت حزب الله معلومات استخباراتية تشير إلى أن تل أبيب ستشن عملية كبيرة في العمق اللبناني قد تؤدي إلى تصعيد الوضع”. يأتي ذلك، بعدما أفادت هيئة البث الرسمية الإسرائيلية “كان” نقلا عن مسؤول غربي في لبنان بأنه لا يوجد أي تقدم بالجهود المبذولة للتوصل لتسوية على الجبهة الشمالية.، وأنه “بالنسبة للجانب اللبناني، فإن مفتاح التسوية موجود حاليًا في غزة، أي في وقف القتال هناك، وليس في بيروت”.

4- تحركات على المستوى الميداني والتكتيكي

تتعدد المؤشرات الدالة على وجود تحركات عسكرية في ميادين عدة، سواء في قطاع غزةـ أو شمال إسرائيل أو في جنوب لبنان، تُنذر بإعداد تل أبيب مخطط لتنفيذ عملية عسكرية جنوب لبنان، ويُمكن تناولها كالتالي:

أ- التحركات العسكرية في قطاع غزة 

أكد شهود عيان يوم 1 فبراير، أن هناك انسحاب لآليات الجيش الإسرائيلي لأول مرة منذ بدء توغلها البري من محاور الشمال الغربي في مدينة غزة بشكل كامل، وتحديدًا في مناطق الكرامة والمخابرات والشيخ رضوان والسودانية والتوام والعامودي وبيت لاهيا وحي النصر ومنطقة شارع الرشيد في مدينة غزة، بينما لم يتم التحقق بشأن ما إذا كان الانسحاب دائمًا أم أنه مجرد إعادة تمركز وتموضع في تلك المناطق، أو إعادة تمركز في شمال إسرائيل.

ومنذ منتصف ديسمبر2023، بدأ جيش الاحتلال بالانسحاب التدريجي من مناطق بمحافظة شمال القطاع، ليتبعها في بداية يناير2024 انسحابات جزئية من أحياء ومناطق قطاع غزة. بينما أعاد توغله في بعض المناطق بغزة والشمال منتصف يناير 2024، لتنفيذ عمليات سريعة، حيث يغير أماكن التوغل بين الفينة والأخرى فيما يتراجع بعد انتهاء عملياته إلى أماكن تموضعه قرب الأطراف الشرقية والشمالية من محافظة الشمال، والشرقية والجنوبية الغربية في غزة.

ب – التحركات العسكرية في شمال إسرائيل

تتعدد المؤشرات الدالة على التحركات العسكرية الإسرائيلية في شمال إسرائيل، والتي تكشف عن ترتيبات غير اعتيادية قد تتضمن تنفيذ عملية عسكرية جنوب لبنان، أولها؛ تصدر وسائل الإعلام اللبنانية في 11 فبراير نبأ قيام الاحتلال الإسرائيلي بنقل الفرقة المدرعة 36 من منطقة قطاع غزة إلى الحدود مع لبنان، مما عزز التكهنات اللبنانية بشأن احتمال تنفيذ إسرائيل عملية عسكرية جنوب لبنان، مع ارتفاع وتيرة العمليات في الأيام الأخيرة.

وفي 19 يناير 2024، قال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي إن الجيش الإسرائيلي يقوم بسحب المزيد من جنود الاحتياط، مع العلم أنه سيتم استدعاؤهم مرة أخرى قريبًا، بينما أكدت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية أن قرار سحب إحدى الفرق الإسرائيلية الأربعة في غزة يمنح إسرائيل إمكانية نشر قواتها في بؤر التوتر الأخرى، مثل الضفة الغربية والحدود مع لبنان.

وتمثلت ثاني المؤشرات في إعلان الجيش الإسرائيلي في بيان له صادر يوم 27 يناير 2024، عن إجراء تدريبات مكثفة على الحدود مع لبنان في إطار الجهود لتحسين الاستعداد القتالي وسط التصعيد في المنطقة، قائلًا: “أجرت القيادة الشمالية مناورات مكثفة لتحسين الاستعداد للعمليات القتالية على الحدود الشمالية”، مُشيرًا إلى أن “التدريبات تمت لإعداد القوات “للقتال في المناطق المدنية ذات الكثافة السكانية العالية، وفي الظروف الجوية الشتوية وفي التضاريس الشمالية”.

بينما كانت ثالث المؤشرات ما ورد عن مسؤول في الجيش الإسرائيلي لشبكة ABC News في يناير 2024، بأن شمال إسرائيل يعج بعشرات الآلاف من القوات النظامية وحوالي 60 ألف جندي احتياطي، بعدما تم إجلاء ما يقرب من 100 ألف إسرائيلي من البلدات الشمالية في البلاد، وفقا لتقديرات الحكومة الإسرائيلية، بينما فر ما يُقدر بنحو 76 ألف لبناني كانوا يعيشون على طول الحدود، وفقا للمنظمة الدولية للهجرة. في حين تتمثل رابع المؤشرات فيما لمحت إليه القناة 13 الإسرائيلية في 18 يناير 2024، بأن تل أبيب تتحضر لحرب مع حزب الله اللبناني، مدللة على ذلك بـ”طرود الغذاء” التي تحضرها الحكومة الإسرائيلية لتكون جاهزة لتوزيعها على سكان المناطق الشمالية، في حال اندلعت حرب مع حزب الله.

ج – التحركات العسكرية في جنوب لبنان:  

تأتي هذه التحركات ضمن أبرز المؤشرات الدالة على حالة الحراك والتأهب العسكري في جنوب لبنان، ليس فقط في إطار الضربات المتبادلة بين حزب الله وإسرائيل، وإنما استعدادًا لمواجهة أي هجوم بري عسكري إسرائيلي محتمل، وهو ما تمثل في إعلان حركة أمل برئاسة رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري في 5 فبراير،  عن انخراطها في معارك الجنوب، وذلك في أول إعلان رسمي عن المشاركة في المعارك التي بدأت في 8 أكتوبر 2023 ضد الجيش الإسرائيلي بجانب حزب الله؛ حيث إن عناصر حركة أمل ينتشرون بالفعل على طول خط الجبهة من الناقورة غربًا إلى مزارع شبعا شرقًا منذ 8 أكتوبر. 

وبهذا الإعلان الرسمي، تنضم حركة أمل إلى جانب فصيلين لبنانيين آخرين هما “الجماعة الإسلامية” و”الحزب السوري القومي الاجتماعي”، اللذان أعلنا انخراطهما رسميًا في المعارك المندلعة في جنوب لبنان، على الرغم من أن قدراتهم العسكرية أقل بكثير من إمكانات وقدرات حزب الله؛ حيث يُقدر  معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي حجم ترسانة صواريخ الحزب بامتلاكه  ما بين 150 ألف إلى 200 ألف صاروخ وقذيفة بمدى مختلف، وهي ترسانة أكبر بخمس مرات على الأقل من ترسانة حماس وأكثر دقة بكثير، ويُمكن أن تصل إلى المناطق السكنية الإسرائيلية ذات الكثافة العالية. 

ثانيًا: المحفزات الإسرائيلية لتنفيذ عملية عسكرية جنوب لبنان 

تتعدد المحفزات الإسرائيلية لتنفيذ عملية عسكرية إسرائيلية ضد حزب الله في جنوب لبنان، والتي تخفف بطبيعتها من وطأة الكُلفة الاقتصادية من تنفيذ عملية عسكرية برية جديدة في جنوب لبنان، قد يتسع مداها في لبنان، وإقليميًا. ويُمكن تناول المحفزات/ الاعتبارات الإسرائيلية على النحو التالي:

1- الدعم الغربي، لا سيما الأمريكي لتل أبيب اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا، فمن الشاهد من الحرب الإسرائيلية على غزة، وما أسفر عنها من انتهاكات إنسانية، لم تثنٍ الغرب عن دعم تل أبيب، أن إسرائيل قادرة على جذب دعم وتأييد غربي اقتصادي وعسكري، خصوصًا وأن حكومة نتنياهو تنجح في استمالة الموقف الأمريكي والغربي تجاهها في كل مرة، مثلما يتضح في حقيقة الموقف الأمريكي بشأن مد تل أبيب عمليتها العسكرية إلى رفح الفلسطينية، بدعوى حق إسرائيل في حماية أمنها القومي مع توظيف هجوم 7 أكتوبر المفاجئ، وتغليب لغة الاستعطاف والترويج بأن حزب الله يُخطط بالفعل لتنفيذ هجوم مماثل على شمال إسرائيل.

فمع تصاعد التهديدات الإسرائيلية باستخدام القوة لإبعاد الحزب عن الحدود، يبدو أن القادة الإسرائيليين نجحوا في جذب الدبلوماسيين الأمريكيين والفرنسيين إلى محاولة تهدئة الوضع على الحدود؛ حيث قدمت باريس يوم 13 فبراير مقترحًا مكتوبًا إلى بيروت يهدف إلى إنهاء الأعمال القتالية مع إسرائيل والتوصل لتسوية بشأن الحدود المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل عبر ثلاث خطوات تُتخذ على مدار 10 أيام، تتضمن وقف القتال، ثم انسحاب حزب الله على الأقل لمسافة 10 كيلومترات من الحدودـ يتبعها نشر الجيش اللبناني نحو 15 ألف جندي في الجنوب، مع توقف إسرائيل التحليق فوق الأراضي اللبنانية، يتبعها استئناف بيروت وتل أبيب المفاوضات حول ترسيم الحدود البرية “بطريقة تدريجية” وبدعم من قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (يونيفيل). كما سيخوض الجانبان مفاوضات حول خارطة طريق لضمان إنشاء منطقة خالية من أي جماعات مسلحة غير تابعة للدولة بين الحدود ونهر الليطاني (المنطقة العازلة).

ولا يختلف مضمون المقترح الفرنسي عن صيغة واشنطن للتسوية اللذان يأتيان وفقًا للرؤية الإسرائيلية، حيث تناول المقترح الأمريكي التسوية عبر مرحلتين، الأولى، تشمل انسحاب حزب الله لشمال نهر الليطاني وتعزيز انتشار قوات اليونيفيل وقوات الجيش اللبناني في المنطقة، بينما تهدف المرحلة الثانية، لبدء مفاوضات بين لبنان وتل أبيب لترسيم الحدود البرية وحل الخلافات حول المناطق المحتلة من قبل إسرائيل والمناطق المتنازع عليها في المنطقة الحدودية. ولقد قوبل المقترحان برفض من قبل حزب الله الذي أكد على ربط الساحة اللبنانية بقطاع غزة. 

2- توظيف ساسة وقادة إسرائيل دعم الداخل الإسرائيلي للحرب مع حزب الله من أجل تحقيق مصالح شخصية، صحيح أنه ليس في صالح تل أبيب وحزب الله إشعال حرب، لكن يسود اعتقاد في الداخل الإسرائيلي وبين القادة العسكريين والساسة بأن الحرب مع حزب الله أمر لا مفر منه، في ظل التأييد الشعبي الإسرائيلي للحرب مع حزب الله، مع تصاعد المخاوف من إعادة تكرار سيناريو الهولوكوست، أو في أقل تقدير تنفيذ هجوم مماثل لطوفان الأقصى؛ حيث توصل استطلاع للرأي أجراه معهد الديمقراطية الإسرائيلي مؤخرًا ، إلى أن حوالي نصف الإسرائيليين يؤيدون الحرب مع حزب الله كملاذ أخير لاستعادة أمن الحدود، بعدما حظيت الحرب على غزة بدعم داخلي واسع النطاق عقب  هجوم 7 أكتوبر، حتى في ظل الجدل المتزايد حول اتجاهها. 

كما أوضح استطلاع للرأي أجرته صحيفة “معاريف” العبرية أن نحو 71 % من الإسرائيليين، يعتقدون أنه على إسرائيل شن عملية عسكرية واسعة ضد لبنان على الحدود الشمالية، والتي ستعمل على إبعاد الحزب عن السياج، بالإضافة إلى رغبة بعض الساسة والعسكريين الإسرائيليين لاستمرار الحرب وتوسعها إلى جنوب لبنان؛ بحثًا عن إنجاز ما قد يمنحهم الحصانة الشعبية من المساءلة القانونية والشعبية بشأن هجوم 7 أكتوبر.

3- تفكيك أهم الأذرع الإقليمية لإيران في المنطقة؛ حيث إن حزب الله اللبناني يُعد بمثابة خط دفاع طهران الأول وقوتها الضاربة الأولى على حدود إسرائيل، والممتد كذلك لسوريا والعراق، ومن ثم فإن محاربته وتفكيك بنيته العسكرية يعني خفض مستوى التهديد من الجبهة الشمالية لإسرائيل، وإضعاف باقي الأذرع الإيرانية في المنطقة، وهو ما يتسق في مضمونه مع السياسة الأمريكية في المنطقة، التي تعمل على استعادة توازنها في الشرق الأوسط من جانب، وإضعاف التكتل الروسي الصيني الإيراني من جانب آخر، وما لذلك من انعكاسات على الحرب الأوكرانية.

ومن ثم، تتعدد المحفزات التي تدفع تل أبيب لتنفيذ هذه العملية العسكرية على الرغم من تداعياتها الخطرة على الأمن الإقليمي بشكل عام وعلى لبنان بشكل خاص، وهو ما يستدعي للتساؤل؛ حول مدى قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على تحمل الكُلفة الاقتصادية لتنفيذ هذه العملية، في خضم ما يتكبده الاقتصاد الإسرائيلي من خسائر جراء الحرب في غزة، ما يجعل من الكُلفة الاقتصادية محدد رئيس لتنفيذ عملية عسكرية في جنوب لبنان أو التراجع عنها والاكتفاء بتنفيذ ضربات عسكرية؟

ففي 15 يناير، صوت أعضاء مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر (الكابينت) على ميزانية 2024، بزيادة 55 مليار شيكل (15 مليار دولار) كمبلغ إضافي للإنفاق على الحرب. ولقد أظهرت الأرقام الرسمية الأخيرة الصادرة عن وزارة المالية الإسرائيلية عقب مرور أكثر من 100 يوم على الحرب، ارتفاع العجز في الميزانية الاقتصادية بنسبة 4.2 % من الناتج المحلي الإجمالي في 2023، نتيجة ارتفاع الإنفاق الحربي في الربع الأخير من العام، وانخفاض الدخل الضريبي. وارتفع العجز المستهدف في موازنة 2024 إلى 6.6 % من الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن كان 2.25 %. 

كما أوضحت رويترز أن الحرب ستُخفض النمو الاقتصادي لعام 2024 بنسبة 1.1 نقطة مئوية ليبلغ نحو 1.6 %، وأن الأثر المالي للحرب يقدر بنحو 150 مليار شيكل (40 مليار دولار تقريبًا) في 2023-2024، على افتراض انتهاء القتال العنيف خلال الربع الأول من العام 2024. في حين ذكر تقرير موديز أن التكلفة الإجمالية للحرب قد تتراوح ما بين 150 مليار شيكل و200 مليار شيكل، أي ما يعادل حوالي 10 % من الناتج المحلي الإجمالي.

ومن ثم، تكشف التقديرات الاقتصادية عن حجم التداعيات الخطرة على الاقتصاد الإسرائيلي مع طول أمد الحرب على غزة، والتي قد تقف عائق أمام إسرائيل لفتح جبهة قتالية جديدة في شمال البلاد، غير معروف مداها، خاصة أن الكُلفة الاقتصادية للحرب تتجاوز البُعد العسكري لتشمل أبعاد أخرى تثقل كاهل الاقتصاد الإسرائيلي، مثل تأمين بدل سكن وتعويضات للنازحين من المنطقة الشمالية، إلى جانب تكلفة إعادة إعمار المنازل والمناطق المتضررة، وتكلفة توقف العديد من الأعمال التجارية، وتضرر القطاع السياحي.

إلا أنه بالنظر إلى المحفزات الإسرائيلية المتعددة، لا سيما ما يتعلق بما تتلقاه تل أبيب من دعم غربي عسكري واقتصادي وسياسي، إلى جانب قدرة تل أبيب على توظيف هجوم 7 أكتوبر لاستعطاف العالم بأن العملية العسكرية المحتملة في جنوب لبنان تأتي لحماية أمن إسرائيل القومي من أي هجوم مماثل قد ينفذه حزب الله على إسرائيل على غرار عملية طوفان الأقصى، معتمدة في ذلك على حجم الخسائر في الجانب الإسرائيلي والتي بلغت نحو 10 جنود و6 مدنيين، فتتراجع أهمية التكلفة الاقتصادية للعملية العسكرية في جنوب لبنان كمحدد رئيس لها.

نهاية القول، يبدو أن قادة وساسة إسرائيل باتوا على قناعة رئيسة بحتمية انسحاب حزب الله من الحدود اللبنانية إلى شمال نهر الليطاني، ونشر لبنان قواتها في الجنوب، إلى جانب قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (يونيفيل)، كشرط أساسي للتراجع عن تنفيذ عملية عسكرية واسعة في جنوب لبنان، تهدف من خلالها إلى تحقيق مطلبها بالقوة، وهو القرار الذي تعمل تل أبيب على تهيئة القوى الغربية، لا سيما الأمريكية لتقبله. ومن ثم، يكمن الجدل الحقيقي في موعد تنفيذ العملية العسكرية المحتملة في جنوب لبنان، وهل بالفعل ستفتح تل أبيب جبهتي للقتال في آن واحد، في حال الاتفاق على تنفيذها في ظل استمرار الحرب على قطاع غزة، ناهيك عن التصعيد في الضفة الغربية، أم أن العملية مؤجلة لحين انتهاء الحرب على غزة، وذلك مع استمرار القصف على جنوب لبنان واستهداف عناصر الحزب، والعمل على تدمير بنيته التحتية العسكرية.

Website |  + posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى