
قراءة في التدابير المؤقتة ضد إسرائيل من قبل محكمة العدل الدولية
أصدرت محكمة العدل الدولية في لاهاي اليوم 26 يناير قرارها بشأن التدابير المؤقتة التي طلبتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، وذلك بعد أن عقدت جلستين في 11، 12 يناير الجاري لمناقشة الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بشأن “عمليات الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة”، الأولى جلسة استماع للفريق الادعاء القانوني لجنوب أفريقيا، والثانية جلسة رد لفريق الدفاع الإسرائيلي على الاتهامات الموجه إليها. وتعد التدابير الصادرة اليوم عن محكمة لاهاي “مؤقتة”، ولا يعني ذلك أن المحكمة ستوقف تحقيقها ضد الجرائم الإسرائيلية ضد شعب قطاع غزة، ومن المقرر أن تستمر المحكمة في التحقيق في القضية حتى إصدار الحكم النهائي.
وقد بدأت رئيسة محكمة العدل الدولية اليوم ” جوان إي. دونوجيو” كلمتها بالإشارة إلى أهم ما جاء في نص الدعوى المقدمة من قبل جنوب أفريقيا، حيث أشارت إلى أنه في 29 ديسمبر الماضي قدمت دولة جنوب أفريقيا طلبًا ضد إسرائيل بسبب الجرائم التي ترتكبها في قطاع غزة التي ترقى لمستوى “جرائم إبادة جماعية”، هو ما ينافي التزامها تجاه تنفيذ اتفاقية منع الإبادة الجماعية باعتبارها دولة طرف في الاتفاقية وقد وقعت عليها في 1949، وطلبت جنوب أفريقيا إصدار تدابير مؤقتة ضد إسرائيل وفقًا للمادة 41 – 73 – 74 – 75 من الاتفاقية.
محكمة لاهاي ترفض طلب إسرائيل بإلغاء قضية الإبادة الجماعية ضدها
خلال الجلسة المنعقد اليوم، رفضت محكمة العدل الدولية طلب إسرائيل بإلغاء الدعوى القضائية التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بشأن الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وأشارت رئيسة محكمة العدل الدولية أن المحكمة ترى أنها لا تستطيع الاستجابة لطلب إسرائيل بحذف القضية من القائمة العامة. وأكدت أنه من أجل الحصول على أي إجراءات مؤقتة لا تحتاج جنوب أفريقيا إلى إثبات وقوع إبادة جماعية؛ إذ إن الفلسطينيين كشعب يستوفون المعايير اللازمة التي يجب أخذها في الاعتبار بموجب المادة 2 من اتفاقية الإبادة الجماعية.
وفي وقت سابق رفض فريق الدفاع القانوني الإسرائيلي في محكمة العدل الدولية الاتهام الموجه له من قبل جنوب أفريقيا، وطلبت إسرائيل من المحكمة بشكل مباشر رفض القضية وشككت في صحة الطلب المقدم، متهمة جنوب أفريقيا بأنها الذراع القضائي “لحماس”.
وأكدت رئيسة المحكمة اليوم أن للمحكمة صلاحية للحكم بإجراءات طارئة في قضية (الإبادة الجماعية) ضد إسرائيل، وعلى كافة الدول الأعضاء الالتزام بهذا الحكم بما في ذلك إسرائيل، وأشارت إلى أن المحكمة على علم بالمأساة في غزة، وقد أعربت عن أسفها تجاه الأزمة الإنسانية المستمرة في القطاع.
وفي رد القاضية على إسرائيل أكدت أن جنوب أفريقيا وإسرائيل طرفان في اتفاقية الإبادة الجماعية، وبالتالي الدعوى مستوفية شروط المادة 9 من اتفاقية الإبادة الجماعية، مؤكدة أن ذلك يؤكد ولاية المحكمة القضائية للبت في دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل.
تأكيد محكمة العدل الدولية على “التحريض على أعمال الإبادة” في الخطابات السياسية الإسرائيلية
رفضت إسرائيل في جلسة الدفاع يوم 12 يناير الاتهام الموجه إليها من قبل جنوب أفريقيا حول التحريض على أعمال الإبادة من قبل المسؤولين والساسة الإسرائيليين، وفي ردها على هذا الاتهام نفت الرسائل التي استنتجتها جنوب أفريقيا من تلك التصريحات، كما وصفها فريق الدفاع الإسرائيلي في محكمة لاهاي، مؤكدين أنها مجرد تأكيدات عشوائية من قبل بعض المرؤوسين غير ذوي الصلة. وفيما يتعلق بتصريح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي أقتبس فيه قصة من الكتاب المقدس عن “قتل النساء والأطفال والماشية من أعدائك” فهو نص ديني لا تستوعبه جنوب أفريقيا، وهو اتهام باطل وخارج السياق على حد تعبير الفريق الإسرائيلي.
وردًا على ذلك، فقد أكدت المحكمة خلال جلسة إقرار التدابير المؤقتة اليوم على بعض التصريحات الإسرائيلية للمسؤولين التي تتضمن إشارة واضحة وتحريضًا صريحًا لأعمال العنف. وقد ذكرت المحكمة أنه في 9 أكتوبر صرح وزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف جالانت” أنه أمر بحصار كامل لقطاع غزة، وأن إسرائيل ستمنع الكهرباء والوقود، وأن كل شيء سوف يغلق، حتى القضاء على حماس بشكل نهائي.
كما أشارت المحكمة إلى تصريح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي في 10 أكتوبر والذي ذكر فيه أن إسرائيل تقاتل “حيوانات بشرية” تابعة لتنظيم داعش في قطاع غزة في إشارة إلى الشعب الفلسطيني، وسوف يسيطر الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة من أجل إعادته لما كان عليه من قبل، وسيدمر الجيش الإسرائيلي حماس وسيحكم سيطرته على كافة القطاع.
وصرح رئيس إسرائيل في 12 أكتوبر الماضي بالإشارة إلى غزة “نحن نعمل بشكل عسكري وفقًا للقانون الدولي، ويتحمل الشعب الفلسطيني المسؤولية الكاملة عما يحدث الآن، وكافة المدنيين في القطاع متورطون بشكل مباشر في هذه الحرب، حيث كان بإمكانهم وقف هجمات حماس والوقف ضدهم. ولذلك نحن في حرب، وندافع عن وطننا، وسنقاتل حتى ندمرهم”. كما سلطت المحكمة الضوء على تصريح وزير الطاقة والبنية التحتية لإسرائيل في 13 أكتوبر عبر منصة أكس والذي ذكر فيه “سندمر جماعة حماس الإرهابية، ولن يحصلوا على نقطة مياه أو حتى بطارية واحدة، حتى يغادروا عالمنا”.
التدابير المؤقتة ضد إسرائيل التي أقرتها محكمة لاهاي
في نهاية الجلسة التي عُقدت في لاهاي، أقرت المحكمة عددًا من التدابير، وذلك بعد أن حصلت على أغلبية مؤيدة من قبل قضاة المحكمة (17 قاضيًا)، والتي يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
أولًا: على دولة إسرائيل وفقًا لاتفاقية الإبادة الجماعية التي وقعت عليها أن تنفذ كافة التدابير المنصوص عليها في المادة 2، وقد حصل هذا القرار على 15 صوتًا مؤيدًا مقابل صوتين معارضين.
ثانيًا: يجب أن تضمن دولة إسرائيل بشكل عاجل أن جيشها لا يرتكب أي أعمال إبادة مذكورة في الاتفاقية، وقد حصل هذا القرار على 15 صوتًا مؤيد مقابل صوتين معارضين.
ثالثًا: يجب على دولة إسرائيل أن تتخذ كافة الإجراءات التي في سلطاتها لمنع وعقاب أي تحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية فيما يتصل بالشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وقد حصل هذا القرار على 16 صوتًا مؤيدًا مقابل صوت واحد معارض.
رابعًا: يجب على دولة إسرائيل أن تتخذ تدابير عاجلة وفورية لإيصال الخدمات والمساعدات الإنسانية من أجل التقليل من الظروف غير المحتملة التي يواجها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وقد حصل هذا القرار على 16 صوتًا مؤيدًا مقابل صوت واحد معارض.
خامسًا: على إسرائيل أن تتخذ كافة التدابير لمنع الدمار والحفاظ على أي أدلة متعلقة بالمادة 2 و3 باتفاقية منع الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وقد حصل هذا القرار على 15 صوتًا مؤيدًا مقابل صوتين معارضين.
سادسًا: يجب على إسرائيل تقديم تقرير للمحكمة بكل التدابير المتخذة في خلال شهر من جلسة المحكمة اليوم، وقد حصل هذا القرار على 15 صوتًا مؤيدًا مقابل صوتين معارضين.
جدوى التدابير المؤقتة التي أصدرتها محكمة لاهاي ضد إسرائيل
تجدر الإشارة إلى أن جلسة محكمة العدل اليوم في لاهاي قد رفضت بشكل واضح وصريح كافة أعمال الإبادة التي تقوم بها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وأقرت كافة الأدلة التي قدمتها دولة الادعاء جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، بما في ذلك كافة التصريحات السياسية التي تحرض على أعمال الإبادة، ورفضت طلب إسرائيل ببطلان الدعوى ضدها.
وأكدت المحكمة كذلك على وضع إسرائيل تحت الرقابة من قبل جنوب أفريقيا عن طريق أحقية دولة الادعاء في التعليق على التقرير الذي ستقدمه إسرائيل للمحكمة بعد شهر من جلسة اليوم حول تنفيذها للتدابير المقررة. وتعكس التدابير الصادرة التأكيد على انتصار العدالة والقانون الدولي الإنساني، وتمثل بارقة أمل لكل شعوب الأرض التي انتفضت ضد جرائم الاحتلال الإٍسرائيلي في حق الفلسطينيين العزل.
وعلى الرغم من أن قرارات محكمة العدل الدولية لم تطالب مباشرة إسرائيل بوقف إطلاق النار، لكنها طالبت إسرائيل بالتوقف عن قتل الفلسطينيين وعدم إخضاعهم لظروف معيشية صعبة تهدف لتدميرهم جزئيًا أو كليًا، مع تقديم تقرير بعد شهر حول مدى التزامها بتطبيق هذه التدابير.
وتجدر الإشارة كذلك إلى أن مطالبة محكمة العدل الدولية من إسرائيل اتخاذ جميع الإجراءات لضمان وصول المساعدات الإنسانية تؤكد كذب الادعاءات التي قدمتها إسرائيل في المحكمة يوم 12 يناير والتي حاولت فيها التنصل من مسئولية إعاقة ادخال المساعدات وإلقائها على الدولة المصرية، حيث أكدت مصر مرارًا أن معبر رفح مفتوح ولم يغلق منذ بدء هذه الجولة من الصراع، وأن من يقوم بتعطيل ادخال المساعدات هي إسرائيل، وذلك وفقًا لشهادة المنظمات والهيئات الأممية التي وثقت الانتهاكات الإسرائيلية في منع وصول المساعدات بهدف التجويع والعقاب الجماعي للفلسطينيين في قطاع غزة.
ويشار كذلك إلى أن جميع تصريحات المسئولين الإسرائيليين بدءًا من رئيس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس الدولة ووزير الآثار ووزير الخارجية السابق “وزير الطاقة حاليًا” ووزير الأمن القومي الإسرائيلي ووزير المالية وأعضاء من الكنيست، التي حرضت على إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة، تم استخدامها ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، وأن هذا ما دفع المحكمة في قرارها للتأكيد على ضرورة منع ومعاقبة أي تصريحات أو تعليقات عامة يمكن أن تحرض على ارتكاب إبادة جماعية في غزة.
وقد لاقت هذه التدابير ترحيبًا واسعًا من قبل الأطراف المحلية والدولية المختلفة، على رأسها الترحيب الواسع من قبل مصر والأردن والسعودية وتركيا والعديد من الدول العربية الأخرى، وأشادت الرئاسة الفلسطينية بفرض تدابير مؤقتة، ووصفته بأنه “قرار مصيري” لمحكمة العدل الدولية، وهو تذكير للعالم بأنه لا توجد دولة فوق القانون، وأن العدل يسري على الجميع، ويضع هذا القرار حدًا لثقافة “الإجرام والإفلات من العقاب لإسرائيل”.
خلاصة القول، تعد التدابير المؤقتة الصادرة عن محكمة العدل الدولية اليوم بمثابة “خطوة تاريخية”، حيث تعد المرة الأولى التي يصدر فيها قرار عن أعلى هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة ضد إسرائيل، وفي ذلك الإطار؛ على إسرائيل أن تقوم بالتنفيذ الفوري لكافة التدابير التي وردت في قرار محكمة العدل الدولية، والتي تمثل بداية المسار لإنفاذ قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني بشأن توفير الحماية للشعب الفلسطيني، ووضع حد للاعتداءات والانتهاكات التي تُمارس ضده من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي.
باحثة بالمرصد المصري