
هيروشيما اليابانية: ذكرى الدمار وتحذيرات التكرار
لا شك في أن استخدام القنبلة الذرية في مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، قد مثل حدثًا فارقًا ليس فقط في تاريخ اليابان وإنما في تاريخ العالَم أجمع. وأصبح يومي السادس والتاسع من أغسطس لعام 1945، تاريخًا حفر بأجساد آلاف الأبرياء من القتلى والجرحى وضحايا التأثيرات اللاحقة لقنبلة “الصبي الصغير” التي ألقيت أولًا على هيروشيما، وتبعتها قنبلة “الرجل السمين” التي ألقيت بعدها بثلاثة أيام على مدينة ناجازاكي.
بعد أن ذاقت اليابان مرارة القنبلة الذرية، ورأى العالَم سحابتها التي تكونت في السماء؛ أصبح واضحًا للجميع مقدار الدمار والخراب الذي يمكن أن يسببه تقدم علمي نتج عن انشطار نووي، لم يحسن ضمير العالم وحكمته توظيفه بالشكل الصحيح. ويأتي إحياء اليابان للذكرى الثامنة والسبعين لهيروشيما ليذكر الجميع بما مضى، ويحذر مما هو قادم في ظل عالم يموج بالصراعات، ولديه تخوفات من أن يشهر الدب الروسي سلاحه النووي في أي لحظة. لذا، كان تنديد رئيس الوزراء الياباني “فوميو كشيدا” بالتلويح الروسي بإمكانية استخدام السلاح النووي، والتأكيد على سعي اليابان الدؤوب من أجل عالم خالٍ من الأسلحة النووية.
الذكرى الثامنة والسبعون لهيروشيما
لم تقم اليابان هذا العام بدعوة كل من روسيا وبيلاروسيا للعام الثاني على التوالي لحضور مراسم إحياء ذكرى هيروشيما، الذي يُذكّر بما حدث في السادس من أغسطس عام 1945 حينما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإلقاء قنبلة الصبي الصغير على المدينة، مما تسبب في وفاة 140 ألف نسمة ووفاة ما يزيد على 70 ألفًا آخرين بعدها بثلاثة أيام في مدينة ناجازاكي، فضلًا عن آلاف المتضررين من الإشعاع جراء تعرضهم لجرعات عالية منه.
كان الهجوم النووي على هيروشيما هو أول استخدام لسلاح نووي في التاريخ. وكان السلاح النووي الأمريكي نتاجًا لجهود علمية عالمية حُشد لها نخبة من ألمع العلماء على مستوى العالم في مشروع “مانهاتن” الأمريكي، الذي كان سباقًا علميًا وعسكريًا قادته واشنطن من أجل التغلب على المعسكر الألماني، ووفرت له التأمين والسرية والدعم المالي اللازم، والذي وُصف وقتها بأنه “أكبر مقامرة علمية في التاريخ”.
التأثيرات الضارة الناجمة عن الإشعاع
يعتمد نوع الضرر الذي يلحقه الإشعاع بجسم الإنسان على الجرعة الإشعاعية التي يتعرض لها، وهنا يمكن التمييز بين نوعين من التأثيرات:
- التأثيرات الحادة (الحتمية).
- التأثيرات العشوائية.
يؤدي التعرض المفرط للإشعاع إلى تلف الأنسجة والأعضاء الحية، ويمكن للإشعاع إذا تخطى حدودًا معينة أن يؤدي إلى آثار حادة مثل: احمرار الجلد، وفقدان الشعر، والحروق الإشعاعية، ومتلازمة الإشعاع الحادة. وتجدر الإشارة إلى أنه كلما زادت الجرعة الإشعاعية كانت الآثار الناتجة أكثر حدة. ويتوقف مدى الضرر المحتمل على عدة عوامل، تشمل ما يلي:
- نوع الإشعاع (ألفا، بيتا، جاما، نيوترون).
- مدى حساسية الأنسجة والأعضاء المتأثرة.
- طريقة التعرض ومدته.
- النظائر المشعة المستخدمة.
- سمات الشخص المتعرض للإشعاع (العمر، والنوع، والحالة الصحية).
بالإضافة إلى التأثيرات الحادة للإشعاع، فإن هناك نوعًا آخر من التأثيرات يسمى بـ”التأثيرات العشوائية”؛ وهو نوع من التأثيرات قد لا تظهر نهائيًا أو تظهر بعد مدة زمنية طويلة من التعرض للإشعاع، مثل: لوكيميا الدم والأمراض الوراثية، ولا يتطلب حدوث مثل تلك التأثيرات تعدي الحد المسموح به.
بداية ونهاية
بدأت القصة من ألمانيا، حينما نجح عالم الكيمياء الألماني “أوتو هان” في عام 1938 بإجراء تجربة بحثية قام فيها مع رفاقه بقذف نواة ذرة اليورانيوم بنيوترون (شادويك مكتشف النيوترون)، مما أسفر عن تكون نواتين أقل في الكتلة وانطلاق طاقة، الأمر الذي يحتاج تفسيرًا، وبالتالي اندفعت جهود “هان” ورفاقه لتفسير ما حدث على أنه انشطار لنواة الذرة. وتوصل العلماء إلى أنه يمكن أن تُستخدم الطاقة الناتجة من هذا الانشطار للحصول على قنابل نووية يمكن استخدامها كسلاح فتاك.
في خضم تلك الأحداث، تسارعت الاستنباطات العلمية ووصلت رسالة عالم الفيزياء الأمريكي “ألبرت أينشتين” الشهيرة للرئيس الأمريكي “فرانكلين روزفلت” برعاية عالم الفيزياء “ليو زيلارد”، للتحذير من أن سلاحًا جديدًا قد يمثل خطرًا على العالم إذا وقع في يد الألمان قبل الحلفاء.
تسارعت الجهود في ألمانيا بمشروع “نادي اليورانيوم” الذي فشل بمرحلتيه الأولى والثانية في الوصول إلى نتائج قد تكون حاسمة للسباق الذي دخله الأمريكان، ليس وحدهم بل من خلال توحيد كل الجهود المتاحة والاستعانة بنخبة من العقول المستنيرة في العالَم، من أجل الفوز في السباق الذي بدأه الألمان.
وبالفعل نجح العالِم “روبرت أوبنهايمر” ورفاقه في الوصول إلى السلاح الجديد قبل أن يصل إليه عالم الفيزياء الألماني “فيرنر هايزنبرج” ورفاقه، الذين سلكوا طريقًا أطول بحسابات جانبها الصواب وجهود شابتها آفة “عدم التنسيق، وسوء الإدارة، ونقص التمويل”. وقد مثل اختبار “ترينيتي” حدثًا أضاء صحراء نيومكسيكو وأعاد توزيع خريطة القوى في العالم فيما بعد. ويمكن الجزم بأن اختبار “ترينيتي” وما تلاه من إلقاء القنابل الذرية على مدينتي هيروشيما وناجازاكي، حدثًا غير العالم أو كما وصفه البعض بأنه “ليس سلاحًا جديدًا بل عالمًا جديدًا”.
اختبارات وترسانات نووية
نظرًا لأن اليابان تعي جيدًا الآثار الضارة للإشعاع جراء التعرض لسلاح نووي، فضلًا عن الدمار والخراب الناجم عن طبيعة وحجم الانفجار وشدته والموجات الانفجارية المصاحبة له، كونها الدولة الوحيدة التي تم استخدام السلاح النووي ضدها؛ فهي تحرص طوال الوقت على تبني فكرة أن يكون العالم خاليًا من الأسلحة النووية، خاصة مع نجاح بعض الدول في حيازتها، وعدم نجاح المعاهدات والاتفاقيات النووية التي صيغت وأبرمت لاحقًا، مثل معاهدة الحد من انتشار السلاح النووي (NPT)، واتفاقية الضمانات الشاملة (CSA)، من أن تحد أو تمنع الانتشار، أو تلك المعاهدات التي تعمل على تشجيع الدول الكبرى على التقليل والحد من ترساناتها النووية.
فعلى الرغم من الآثار الكارثية للقنابل الذرية التي شهدها العالَم، والمبادرات التي تلتها من أجل نشر الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، وعلى رأسها المبادرة الأشهر على الإطلاق والتي تمثلت في نداء الرئيس الأمريكي “أيزنهاور” الذي حمل عنوان “الذرة من أجل السلام” عام 1953، إلا أن العالَم لم يتوقف عند هذا الحد بل أعقب حدث اليابان الكارثي وكذلك المبادرة الأمريكية، تفجيرات نووية لدول أخرى من أجل حيازة السلاح النووي.
ويشير الجدول رقم (1) إلى حصر بالدول التي نجحت في امتلاك السلاح النووي على مستوى العالم والتاريخ الذي وصلت فيه لذلك.
بجانب هذه الدول الخمس، فقد نجحت دول أخرى، مثل: الهند، وباكستان، وكوريا الشمالية، وإسرائيل، في أن حيازة السلاح النووي. وتشير بيانات الموقع الرسمي للأمم المتحدة إلى أنه في العقود الخمسة بين يوم 16 يوليو 1945 (يوم اختبار “ترينيتي”) وفتح باب التوقيع على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (CTBT) في عام 1996، تم إجراء أكثر من 2000 تجربة نووية في جميع أنحاء العالم، كما يلي:
- أجرت الولايات المتحدة 1032 اختبارًا بين عامي 1945 و1992.
- أجرى الاتحاد السوفييتي 715 اختبارًا بين عامي 1949 و1990.
- أجرت المملكة المتحدة 45 اختبارًا بين عامي 1952 و1991.
- أجرت فرنسا 210 اختبارات بين عامي 1960 و1996.
- أجرت الصين 45 اختبارًا بين عامي 1964 و1996.
- أجرت الهند اختبارًا واحدًا في عام 1974.
ومنذ فتح باب التوقيع على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية في سبتمبر 1996، أجريت 10 تجارب نووية في دول أخرى:
- أجرت الهند اختبارين في عام 1998.
- أجرت باكستان اختبارين في عام 1998.
- أجرت كوريا الشمالية تجارب نووية في أعوام: 2006، و2009، و2013، و2016، و2017.
وتشير رابطة الحد من التسلح في تقريرها المؤرخ في يونيو 2023 إلى أن عدد الرؤوس النووية في العالم قد بلغ 12500 رأس نووي، 90% منها تمتلكه كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، ويوجد من هذه الرؤوس في الخدمة حوالي 9600 رأس نووي، في حين أن العدد المتبقي من هذه الرؤوس قيد التفكيك. ويشير الشكل رقم (1) إلى توزيع الرؤوس النووية في دول العالم المختلفة.
ونتيجة لما سبق، من تجارب نووية تم إجراؤها وأسلحة نووية متنوعة ما بين تكتيكية واستراتيجية وترسانات نووية ضخمة تم تطويرها وحيازتها من قبل الدول الكبرى، كفيلة بتدمير العالم أكثر من مرة وإنهاء الحياة عليه؛ فإن اليابان نظرًا لأنها قد عانت من ويلات السلاح النووي لا ترغب في تكرار سيناريو استخدامه مرة أخرى حتى وإن لم يكن على أراضيها، وتأتي كل هذه التخوفات خاصة بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية التي تزامن معها تصعيد عالمي في اللهجة النووية وتلويح من حين لآخر لاستخدام السلاح النووي.
ختامًا، إن استخدام السلاح النووي ليس بالأمر الهين أو القرار السهل الذي يمكن أن تتخذه أي دولة؛ وذلك لعدة أسباب، يأتي على رأسها التداعيات الكارثية التي تكبدها الإنسان والبيئة والممتلكات من إلقاء القنابل الذرية في اليابان، بالإضافة إلى حالة التوازن بالردع التي حدثت في العالم جراء عدم هيمنة دولة واحدة على القنبلة الذرية والتي حدت بقدر كبير من استخدام السلاح النووي.
لذا فإن إحياء ذكرى هيروشيما للمرة الثامنة والسبعين، يأتي هذا العام وسط تصعيدات نووية لا تعدو كونها كلامية حتى هذه اللحظة، بلغت ذروتها على فترات زمنية مختلفة من الحرب الروسية الأوكرانية إلا أنها لم تتعد مرحلة التلويح لتصل إلى الاستخدام. فالكل يتذكر ما حدث، وتقتضي المصالح المشتركة أو تقتضي من الجميع الحفاظ على حالة السلم بالردع الحالية؛ لأن تحريك هذه الحالة من قبل أحد الأطراف سيستدعي تحريكًا مقابلًا من قبل الطرف الآخر وهو ما سيحمل تداعيات كارثية على العالم.
باحث ببرنامج السياسات العامة