
حركة النهضة وتسلق جدارية المنظمة الشغيلة.. قلق حول مستقبل الدولة التونسية
رغم عدم وجود أوجه تشابه بين نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل أثناء قيادته مظاهرة الاتحاد يوم السبت الماضي، وبين الحبيب عاشور الأمين العام السابق للاتحاد إبان أحداث يناير عام 1978. إلا أن ثمة سياق اقتصادي واجتماعي يضرب بجذوره العميقة فيما بين التاريخين، ويضغط بشدة على طرف حبل مشدود يلف أطر العلاقة بين المنظمة الشغيلة ورئاسة الجمهورية، من خلال مواجهة سياسية لا يمكن المجازفة بوضع سيناريوهات مرجحة لواقعها أو التنبؤ بمستقبلها في الأفق المنظور.
يختبر المجتمع التونسي الآن تجربة عرفها الأولون خلال عقد السبعينات من القرن الماضي. حيث في تلك الفترة لم يكن مضى سوى عقدان على استعادة البلاد أرضها من الاستعمار، وأطلق خلالها التونسيون آمالهم نحو الوعود التي أطلقها الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة ببناء دولة تستجيب لأحلامهم، وكان ذلك في عهد الجمهورية الأولى من حيث ارتفاع منسوب العمل النضالي داخل المنظمة الشغيلة، وذلك على خلفية ارتفاع نسبة الشباب الذين تلقوا تعليمًا مرموقًا داخل الاتحاد، بحيث أضحى مظلة المعارضين وقاطرة المنظمة في مواجهة السلطة آنذاك.
اليوم وبعد عقد من تجربة أحداث ما عرف بـ”الربيع العربي”، وعامين من إطلاق مسار الخامس والعشرين من يوليو، ثم تصاعد حدة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، تبدو أقواس المواجهة بين نور الدين الطبوبي والرئيس قيس سعيد ضاغطة على وعي المواطن التونسي نحو درجة تدفعه للقلق والتوتر على أكثر من مستوى. إذ يبدو الأول منها مبعثه الخوف على وطن، ينقب عن مرتكز مستقر لينطلق منه بعد سنوات عجاف كادت معه أنساق الدولة أن تتحلحل عن بعضها، وتنشد حلمًا سعيدًا يأمن معه المواطن وجه حلو للحياة.
بينما الثاني يشعر بالقلق على مؤسسة نقابية عتيدة، تمثل نواة صلبة يحتمي من خلالها العامل والموظف من بطش الإدارات العليا، وعبوس الظلم وخشونة الرأسمالية وعنفوانها، خاصة مع توغل المؤسسة في الشأن السياسي وتقاطعها غير المباشر مع بعض قوى المعارضة، خاصة حركة النهضة والحركات الرديفة، كجبهة الخلاص وتبتعد بذات القدر عن مهامها النقابية.
بدا ذلك صادمًا في تقدير البعض، عبر الأحداث التي خبرتها العاصمة التونسية خلال يومي السبت والاحد الماضيين، حيث كان اليوم الأول مسيرة الاتحاد التونسي للشغل التي شهدت مشاركة لافتة للقيادي في حركة النهضة محمد القوماني، وتصريحه أن مشاركته في المسيرة جاءت دعمًا لحرية العمل النقابي، وتضامنًا مع الاتحاد العام التونسي للشغل، ودفاعًا عن حرية التعبير والتظاهر وتنديدًا بالاعتقالات السياسية.
وفي نفس الوقت، جاء تصريح الأمين العام نور الدين الطبوبي يحمل الرؤية ذاتها وقال: “أحيي الحقوقيين والسياسيين في سجن المرناقية”، في إشارة للموقوفين في الآونة الأخيرة مما يشير إلى اصطفاف قيادة الاتحاد مع شخصيات معارضة اتهمت بالتآمر من قبل سلطات الدولة.
وفي اليوم التالي، جاءت تظاهرات جبهة الخلاص التي تمثل حركة النهضة الإخوانية، ورددوا شعارات ضد الرئيس قيس سعيد، وجاءت تصريحات زعيم الجبهة أحمد نجيب الشابي على النحو الذي يبين أن ثمة تقاطع يتم صياغته عن عمد، حين قال خلال الاحتجاج إن “الاعتقالات جزء من سياسة عشوائية طالت الجبهة والأحزاب والاتحاد العام للشغل”، مضيفًا “لن نتوانى في النضال من أجل كسر قيود المعتقلين وتحريرهم”.
بائس ذلك السيناريو الذي يمكن أن يضع الاتحاد التونسي للشغل، بتاريخه الطويل والممتد بتجربة الاستقلال والنضال نحو نسق الجمهورية الأولى، في خدمة الإسلام السياسي وظيفيًا وتتقاطع بينهما، أو بالأحرى تسقط داخل هذه التقاطعات الملتبسة أهداف مشتركة، لا سيما أن حركة النهضة تقبض على حلم العودة للحكم من جديد، وتسعى للسلطة والتمكين عبر تسلق جدارية المنظمة الشغيلة.
من الصعوبة بمكان تصور صياغة أي مقاربة تحالف تجمع بين النقيضين، حتى وإن بدت الظروف تجمع بينهما؛ فلا ينبغي أن تسمح قيادات الاتحاد التونسي للشغل، أن تمارس النهضة تأويلاتها التكتيكية على هامش تاريخهم أو الظهور معهم في بنيان مرصوص، كون ذلك بالحتمية نزيف يصعب ضبط شرايينه وقبض أوعيته الدموية.
المساجلات السياسية التي دارت خلال الأيام الأخيرة جاءت عبر الرئيس قيس سعيد، ممثلة في رئاسة الجمهورية ونور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد، وأحمد نجيب الشابي معبرًا عن كتلة الجبهة ومضمونها في المجمل، وموجه ضد بعضها البعض. بيد أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها تونس، تمثل نقطة الانطلاق التي يراهن عليها الجميع. وعليه، ثمة فوارق عميقة؛ إذ إن الرئيس يدرك تمامًا كونه سيتحرك خطوة للأمام، مع انتظام مجلس نواب الشعب، وهو الأمر الذي سيمكنه من تخفيف ضغط الازمة الاقتصادية على المواطنين إذا ما استجابت له المنظمات الدولية في تقديم القرض.
وفي المقابل، يضغط الاتحاد التونسي على الرئيس من خلال الأزمة الاقتصادية، ويعمل على تحريك التظاهرات في الشارع باعتبارها نقطة قوته، بغية تموضع داخل تركيبة السلطة ورقمًا في معادلتها الراهنة.
إلى ذلك، ترقب مرة حركة النهضة وحدها وأخرى من خلال جبهة الخلاص تلك التحركات، وتضبط أدائها التكتيكي، على تخوم الاتحاد وهامش المساحات المتاح، بغية ربط المسارين والاستقواء بجذوره، والسعي لتبييض صورته من خلال الظهور داخل نسق المنظمة الشغيلة.
ويجب أن يدرك الرئيس قيس سعيد ورئيسة الحكومة نجلاء بودن، أهمية تفعيل نقاط التوافق مع المنظمة الشغيلة وكيف يمكن البناء عليها وفقًا لقواعد الدولة وسياساتها، ويتحرك خطوة نحو ذلك، ويستجيب الاتحاد بل ويمهد الطريق لتحقيق ذلك سيكون الخطوة الناجزة نحو الجمهورية الثالثة، ودرجة عليا في سلم التراتبية المنطقية لاحتشاد العقل وسلامة الهدف.
لا ينبغي بأي حال من الأحوال، أن نمنح لتراكم التناقضات المركبة فرصة أن تصيغ شبه جملة في سياق حلم الاجيال القادمة، بل ينبغي فعلًا صحيحًا يعوز فاعلًا يرفع الآمال بضمة ظاهرة على ثغر الانسان.