
هل يمثل اقتناء الذهب حاليًا ملاذًا آمنًا؟
أصبحت أسعار الذهب موضع اهتمام بعد أن تخطى سعر جرام الذهب عيار 24 حاجز 2000 جنيه مصري، في ظل سوق يشهد تقلبات عنيفة في سعر ذلك المعدن النفيس، وهو ما استدعى اتخاذ قرار بوقف تسعير الذهب في مصر بشكل مؤقت لحين استقرار السوق. تتفاوت التحليلات بين الخبراء في تحليل سبب ذلك الارتفاع، البعض يشير إلى زيادة الطلب عليه كأصل آمن في ظل المخاوف التضخمية عالميًا ومحليًا، والبعض الآخر يشير إلى أن تسعير الذهب بعيد تمامًا عن السعر العالمي. يحاول هذا التقرير كشف الالتباس في سوق الذهب في مصر، والإجابة على تساؤل إلى أي مدى يمكن للذهب أن يكون ملاذًا آمنًا للحفاظ على الثروات؟
قبل الإجابة على التساؤل المذكور، يجب التطرق لبعض الأسس المالية، وهي حقيقة أنه توجد قيمتان لأي سلعة: القيمة العادلة أو القيمة الحقيقية وهي تمثل مقدار الاستفادة التي يمكن تحقيقها من استهلاك سلعة معينة وغالبًا ما يطلق عليها البعض القيمة العادلة؛ والقيمة الأخرى هي القيمة السوقية، وهي السعر الذي يتم به تداول هذه السلعة في الأسواق بين المتعاملين.
وبالرغم من أن نظريات التمويل وكفاءة السوق تشير إلى ضرورة أن تكون القيمة الحقيقية للسلعة هي نفسها القيمة السوقية، حيث يقوم المشتري بدفع القيمة التي يحصل عليها من منفعة كسعر للسلعة والأمر نفسه للبائع الذي يدرك قيمة هذه السلعة مثل المشتري، وعليه تعكس تلك القيمة كافة المعلومات والحقائق التي يعرفها جميع المتعاملين بالسوق؛ أي تتساوى القيمة الحقيقية مع القيمة السوقية نظريًا، إلا أنه في الواقع الفعلي نادرًا ما تتساوى هاتان القيمتان؛ فغالبًا ما تختلف القيمة الحقيقية عن القيمة السوقية للعديد من الأسباب التي يحتاج ذكرها إلى مساحات أكبر للحديث عنها، ولذا سنركز على حقيقة وجود اختلاف بين القيمتين كنقطة بداية، يمكن البناء عليها لتحليل ماذا يحدث في سوق الذهب في مصر!
الحالة الأولى للسوق هي حالة الفائض، وهو الوضع الذي يترتب عليه وجود معروض كبير من السلعة بالسوق، ومن ثم فإن في هذه الحالة يكون السعر السوقي للسلعة أقل من قيمتها العادلة؛ إذ تتسبب الفجوة بين السعرين السوقي والعادل، وبطبيعة قوانين الاقتصاد فإنه من المفترض أن تؤدي حالة الفائض من المعروض إلى انخفاض السعر ومن ثم زيادة الطلب على السلعة، تلك الزيادة في الطلب تتسبب في ارتفاع السعر السوقي مرة أخرى ليصل إلى القيمة العادلة وقد يتخطاها.
أما الحالة الثانية فتسمى حالة العجز، وهي الحالة التي تتوافر فيها السلعة بكميات أكبر من الطلب، وهو ما يترتب عليه تداول السلعة بسعر أعلى من قيمتها العادلة، ومن المفترض أيضًا وبتطبيق قوانين الاقتصاد أن يتسبب ذلك الوضع في انخفاض الطلب على تلك السلعة، ومن ثم العودة إلى السعر العادل مرة أخرى. وعليه، نتيجة للحالات السابقة فإن الدورة الاقتصادية تعالج نفسها تلقائيًا، وهو ما يترتب عليه العودة إلى السعر العادل مرة أخرى، لكن لماذا تعود الأسعار مرة أخرى إلى التوازن؟
السبب الرئيس في عودة السوق إلى حالة التوازن هو مصطلح يمكن تسميته اقتصاديًا “المرونة السعرية”، يمكن تعريف المرونة السعرية بشكل مبسط على أنها رد فعل المتعاملين في السوق للتغير في الأسعار؛ هناك طرفان: الأول المشتري والذي غالبًا ما يكون له رد فعل عكسي فكلما ارتفعت الأسعار انخفض مستوى طلبه على السلع، والآخر البائع والذي غالبًا ما يكون رد فعله إيجابيًا فكلما ارتفعت الأسعار يسعى إلى عرض (محاولة بيع) المزيد من السلع.
وبناء عليه، تتوقف إعادة التوازن للسوق على درجات المرونة (رد الفعل) المختلفة، فكلما ارتفعت درجات المرونة المذكورة كلما سارع السوق في الرجوع إلى نقطة التوازن. وأبسط مثال على هذا الوضع لنتخيل سلعة أساسية مثل الدواء، لا يستطيع البعض تخفيض جرعتهم من الدواء نظرًا لارتفاع سعره، بل يصبحون مجبرين على شرائه بأسعار أعلى بنفس الكمية؛ أي أن الطلب (الشراء) لا يتغير مع تغير السعر، وليس هناك رد فعل لزيادة الأسعار، وعليه يصبح السعر الجديد هو سعر السوق ولا يعود إلى سعره القديم.
والعكس صحيح لسلعة مثل السلع الكمالية أو غير الضرورية، وترتفع تلك المرونة حال وجود بدائل لتلك السلع. ذلك الاختلاف في الطبيعة الخاصة بالسلع يضع مسؤولية على الجهات الرقابية في بعض الأحيان للتدخل لوضع سقف سعري لسعر منتج ما مثلما يحدث في سوق الدواء في مصر.
خصوصية الذهب
لكن سلوك المستهلكين تجاه الذهب يختلف عما سبق ذكره؛ إذ إنه سلعه تحتفظ بقيمتها أي أنها مخزن للقيمة، وهو ما يعني أن هناك نوعًا آخر على الطلب علي الذهب يسمى بالطلب الاستثماري، وهو الطلب الذي يركز فيه المستثمرون على تحقيق ربح من خلال ارتفاع سعر قيمته وإعادة بيعة بقيمة أعلى. ولأن الذهب سلعة استثمارية، يوجد طلب آخر عليها يمكن تسميته بالطلب لغرض المضاربة؛ أي أنه يتم شراء الذهب بغرض التربح من الاستفادة بفرق حركة الأسعار بالسوق بصرف النظر عن قيمته الحقيقية، وهو ما يدفع إلى حقيقة أنه في حال ارتفاع سعر الذهب قد يقبل بعض المضاربين الذين يتوقعون المزيد من الاستمرار في ارتفاع أسعاره للشراء مع توقعهم بتحقيق أرباح ناتجة عن فروق السعر في المستقبل.
لكن ذلك النوع من السلوك الاستهلاكي “الاستثماري” عادة ما يتسبب في أزمات بالسوق، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هي أزمة القطاع العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2008، حيث ارتفعت أسعار العقارات بشكل مبالغ فيه نظرًا للمضاربة في الأوراق المالية المرتبطة بالرهن العقاري، وعند انخفاض أسعارها تسارع المضاربون في بيع هذه الأصول محدثين الأزمة المالية العالمية التي تسببت في انهيار أحد أكبر المؤسسات المالية آنذاك بنك Lehman Brothers. وعليه، فيمكن القول إن المبالغة في المضاربة تتسبب في أزمات مالية؛ نتيجة لزيادة الفجوة بين القيمة الحقيقية والقيمة السوقية للأصول، يوضح الشكل التالي سلوك المتعاملين بالأسواق المالية والسلع والتي يمكننا أن نصنف الذهب ضمنها.
فغالبًا ما تشهد عددًا من المراحل على النحو التالي: المرحلة الأولى الحدث Displacement وهي المرحلة التي يحدث فيها تغير مفاجئ في توقعات حول قيمة أصل ما نتيجة إما للابتكار أو حدث خارجي قد يؤثر على توقعات المتعاملين حول القيمة العادلة، أما المرحلة الثانية فهي التوسع Expansion or Boom والتي تكون نتيجة لزيادة الأسعار فيسعى المضاربون إلى تحقيق الأرباح من خلال شراء الأصل بهدف إعادة بيعه بسعر أعلى في المستقبل.
أما المرحلة الثالثة فهي النشوة Euphoria فهي أشبه بالنشوة الناتجة عن استخدام المواد المخدرة نتيجة لتحقيق الأرباح في مرحلة التوسع السابق الإشارة إليها، يصبح الجميع يسعى لتحقيق الأرباح من خلال المضاربة على هذا الأصل وتنتقل عدوى المضاربة من شخص لآخر، مما يزيد الطلب على هذا الأصل وبالتالي تستمر الأسعار في الارتفاع محققة أرباحًا تسهم في تكرار ذات الدورة مرة أخرى.
أما المرحلة الرابعة فهي جني الأرباح Profit Taking وهي تحدث نظرًا لتوسع الفجوة بشكل كبير جدًا بين القيمة العادلة وبين القيمة السوقية، يبدأ المضاربون في جني الأرباح محدثين انخفاضًا مفاجئًا في الأسعار. تلك المرحلة تقودنا إلى المرحلة الخامسة والتي تسمى الذعر Panic وهي المرحلة التي يتسبب الانخفاض المفاجئ في الأسعار في ذعر المشترين حديثًا في هذه الأسواق، مما يجعلهم يتسارعون في بيع هذا الأصل، مما يساهم في انهيار مفاجئ في سعر الأصل أقل من القيمة الحقيقية له.
ويتوقف حجم الأزمة التي تحدث على العديد من العوامل، منها: مدى انتشار نشاط المضاربة، ومدى كفاءة السوق، ومستوى مرونة الطلب والعرض، ومستوى الاستدانة بذلك السوق (الاقتراض من أجل شراء ذلك الأصل). ذلك العرض السابق يمثل القاعدة التي يمكن الانطلاق منها لفهم سوق الذهب في مصر.
سوق الذهب في مصر
ليس هناك شك في أن ما يحدث في سوق الذهب في مصر الآن سببه الأساسي هو المضاربة، ولكن في حقيقة الأمر المضاربة هنا ليست على الذهب، ولكنها مضاربة غير مباشرة على الدولار الأمريكي؛ إذ إن مصر تستورد الذهب، وبدلا من إقبال الافراد على شراء الدولار الممنوع تداوله محليا خارج القنوات المصرفية الرسمية وفقًا للقانون المصري، فقد اتجه المتعاملون إلى سوق الذهب كبديل لشراء دولار.
تعود تلك المضاربة إلى حالة التخوف من جانب المواطنين في أداء النقد الأجنبي بالبلاد، واحتمالية انخفاض سعر صرف الجنيه المصري، خاصة بعد إعلان البنك المركزي المصري عن تطبيقه لسياسة تسعير مرنة تسمح للجنيه المصري بالتسعير وفقًا لمعطيات السوق. ما عزز من تلك المضاربة هو مستوى كفاءة سوق الذهب في مصر؛ إذ إنه لا توجد منصة تداول رسمية للذهب مثل الأوراق المالية على سبيل المثال، وهو ما جعل ذلك المعدن النفيس تحت سيطرة تجار السوق في تسعيره بأي سعر يرغبون فيه.
أما عن مستوى المرونة في العرض والطلب، فبسبب ما يمر به العالم من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية والتي ألقت بظلالها على الأسواق الناشئة ومنها السوق المصري، فقد انخفضت المرونة السعرية لجانب الطلب بشكل كبير، وهو ما ترتب عليه استمرار الطلب على الذهب حتى بعد ارتفاع الأسعار. وبشكل واضح وبدراسة بسيطة عن سعر الذهب عالميًا ومصريًا (عيار 24) فإن أونصة الذهب عالميا يتم تداولها وفقا ليوم الثامن من ديسمبر 2022 بسعر 1790 دولارًا، وحيث ان الأونصة الواحدة تزن 31.1 جرام من الذهب فإن سعر جرام الذهب من عيار 24 يبلغ 57.55 دولارًا، وبسعر صرف الجنيه المصري المعلن من جانب البنوك المصرية الذي يبلغ في متوسطة 24.60 فإن سعر الجرام يبلغ 1415 جنيهًا مصريًا، وهو أقل من سعر السوق بمبلغ يتراوح بين 400 إلى 600 جنيه للجرام الواحد، إذ يبلغ سعر الجرام الواحد من الذهب (1839 جنيهًا، وفي بعض المنصات الأخرى 2000 أو 2200 جنيه)، وهو ما استدعى وقف تسعير سوق الذهب في مصر، لحين استقرار السوق.
وترتيبًا على ما سبق، نستخلص أن الارتفاع في أسعار الذهب في مصر في الفترة الأخيرة غير مبرر، ويعود بشكل كامل إلى عمليات المضاربة التي تستند إلى العشوائية في التسعير. وندلل على ذلك بأن سعر الجرام من الذهب يوم تحرير سعر صرف الجنيه المصري بلغ 1500 جنيه للجرام من عيار 24، المسعر على أساس سعر دولار 24.50، لكن ذلك السعر ارتفع بشكل عشوائي ليصل إلى 2200 جنيه للجرام، على الرغم من استقرار سعر الصرف عند 24.50 جنيه لكل دولار، وهو ما ينذر بخطر الاستثمار في الذهب وفقًا للأسعار الحالية.
وعلى سبيل المثال، ففي زمن قدره ثلاثة أيام انخفضت أسعار الذهب من 2200 جنيه للجرام إلى 1840 جنيهًا للجرام، وهو ما يعني انخفاضًا بحوالي 16%، على الرغم من أن سعر الذهب في السوق العالمية لم يتغير وسعر الدولار في السوق المحلية والعالمية لم يتغير. ولذلك، نوصي المتعاملين على سوق الذهب بالرجوع الي السعر الاسترشادي العالمي لأونصة الذهب وتحويلها إلى مُعادلها بالجنيه قبل اتخاذ أي قرار تجاه ذلك المعدن النفيس؛ إذ إن اقتناء الذهب في مصر بالسعر الحالي ليس ملاذًا آمنًا.



