الأمريكتانروسيا

فن الممكن.. موسكو وواشنطن نحو ترتيب إطار جديد للحد من الأسلحة النووية

كان لنهاية الحرب الباردة تأثير كبير على جهود منع الانتشار النووي بين الولايات المتحدة وروسيا. ومع تراجع التوترات بين القوتين إلى أدنى مستوياتها التاريخية، انفصل الرئيسان جورج بوش الابن ودونالد ترامب عن أسلافهما وألغيا المعاهدات التي قيدت الترسانات النووية للبلدين، والتي لا تزال أكبر ترسانتين نوويتين في العالم حتى الآن. ولكن، لا يزال هناك اتفاق نووي واحد فقط بين الولايات المتحدة وروسيا: معاهدة ستارت الجديدة التي تضع سقفًا متواضعًا لقدرة واشنطن وموسكو على نشر أسلحة نووية استراتيجية.

أعادت معاهدة ستارت الجديدة التي وقعت عام 2010 التعاون والقيادة المشتركة بين الولايات المتحدة وروسيا في مجال ضبط الأسلحة النووية، وحققت تقدمًا في العلاقات بين البلدين قبل توترها وانسحاب ترامب منها والحرب الروسية الأوكرانية. وتعد هذه المعاهدة آخر عملية لمراقبة الأسلحة النووية بين واشنطن وموسكو، وجاءت على إثر معاهدة تخفيض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية لعام 2002 التي انتهى العمل بها مع دخول معاهدة ستارت الجديدة حيز التنفيذ.

بموجب الاتفاقية، تلتزم موسكو وواشنطن بخفض ترساناتهما النووية، بحيث لا تتجاوز 700 صاروخ باليستي عابر للقارات، سواء الصواريخ التي يتم اطلاقها من الغواصات أو القاذفات الثقيلة، بالإضافة إلى 1550 رأسًا حربيًا و 800 منصة إطلاق صواريخ. وقد حقق الطرفان هذا الهدف ويحافظان عليه الآن عند المستويات المتفق عليها.

وبموجب المعاهدة، تجري واشنطن وموسكو عمليات تفتيش على مواقع أسلحة بعضهما البعض، ويُسمح لكل جانب بإجراء 10 عمليات تفتيش، يطلق عليها “النوع الأول”، وتتعلق بالمواقع التي توجد فيها الأسلحة والأنظمة الاستراتيجية، و8 عمليات تفتيش يطلق عليها “النوع الثاني”، وتركز على المواقع التي لا تنشر سوى الأنظمة الاستراتيجية. 

ومع ذلك، فقد توقفت عمليات التفتيش منذ عام 2020 بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد، وظهور تعقيدات عندما حاولت الولايات المتحدة استئناف عمليات التفتيش في أغسطس الماضي. حيث علقت روسيا مؤقتًا عمليات التفتيش الأمريكية الميدانية لأسلحتها النووية الاستراتيجية، مشيرة إلى أسباب مفادها أن العقوبات الأمريكية المفروضة على روسيا بسبب أوكرانيا قد غيرت الظروف بين البلدين.

مفاوضات شاقة واتهامات متبادلة

رفضت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب البحث في تجديد الأمد الزمني للاتفاقية  التي دخلت حيز التنفيذ بمدى زمني يمتد 10 أعوام ينتهي في 5 فبراير 2021. واعتبرت أن واشنطن أخطأت في التقيد بهذه الاتفاقية، لأن 60% من الترسانة النووية الروسية من صواريخ نووية متوسطة وقصيرة المدى لم تشملها المعاهدة. وأصرت إدارة ترامب على ضرورة دمج الصين في منظومة اتفاقيات نزع الأسلحة النووية؛ حتى لا تترك حرة، فتطور ترسانتها النووية بعيدًا عن أي شفافية أو مبادئ حاكمة ضمن اتفاقيات دولية أو معاهدات ثنائية ملزمة.

وفي 2018، أكدت روسيا والولايات المتحدة في بيانين منفصلين تنفيذ التزاماتهما، حسب ما نصت عليه اتفاقية “ستارت الجديدة”. لكن وزارة الخارجية الروسية شككت في تنفيذ الولايات المتحدة التزاماتها، لافتة في بيان إلى أن آليات تنفيذ الجانب الأمريكي يجعلها غير قادرة على تأكيد التزام واشنطن ببنود المعاهدة، فيما دعت الولايات المتحدة الجانب الروسي إلى الالتزام ببنود الاتفاقية.

واتهمت الولايات المتحدة روسيا بالعمل على تحديث ترسانة تضم ألفي سلاح نووي تكتيكي، والالتفاف على التزاماتها المدرجة في معاهدة “ستارت الجديدة” التي تنطلق من أن الأسلحة الاستراتيجية لا تشكل أساسًا لمبدأ الردع. من جانبها، أكدت الولايات المتحدة أنها ملتزمة بالقيود المفروضة على ترسانتها من هذه الأسلحة بموجب المعاهدة، داعية روسيا إلى احترام التزاماتها أيضًا. 

في أغسطس 2019، انسحبت الولايات المتحدة وروسيا من معاهدة الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى، وذكرت الخارجية الروسية أنه “بمبادرة من الجانب الأمريكي، تم إنهاء المعاهدة بين اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية والولايات المتحدة الأمريكية حول حظر صواريخها المتوسطة وقصيرة المدى، الموقعة في واشنطن في 8 ديسمبر 1987. في المقابل، اعتبرت الخارجية الأمريكية، أن “روسيا لم تعد إلى الامتثال الكامل والتحقق، من خلال تدمير نظام الصواريخ الذي يخالف بنود الاتفاقية، “إس إس سي 8” (9 أم 729)، وهو صاروخ كروز يتجاوز مداه الـ500 كيلومتر، يتم إطلاقه من الأرض. ومنحت الولايات المتحدة روسيا ستة أشهر لإزالة تلك الصواريخ المحددة.

وللحد من خطر “الحرب النووية”، اقترحت إدارة الرئيس جو بايدن في مارس 2021 في “التوجيه المؤقت لاستراتيجية الأمن الوطني” أن تتخذ الولايات المتحدة الأمريكية خطوات وتدابير للتقليل التدريجي لدور الأسلحة النووية في استراتيجية الأمن الوطني. في يونيو 2021، عقد الرئيسان الأمريكي والروسي اجتماعًا وجهًا لوجه في جنيف بسويسرا، وأصدرا بيانًا مشتركًا حول قضايا الاستقرار الاستراتيجي. وتم بذلك تمديد “المعاهدة الجديدة لخفض الأسلحة الاستراتيجية”، التي كان من المفترض أن تنتهي في فبراير عام 2021، لمدة خمس سنوات، وتقرر استئناف الحوار الثنائي حول الاستقرار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.

تم عقد جولتين من هذا الحوار في يوليو وسبتمبر عام 2021، وتم إنشاء فريقي عمل من خبراء في مجالات متعددة، أحدهما مسؤول عن صياغة مبادئ وأهداف الحد من التسلح في المستقبل، والآخر مسؤول عن تخطيط بناء القدرات وخطط العمل ذات التأثير الاستراتيجي. في أعقاب اندلاع الحرب في أوكرانيا في فبراير 2022، علقت الولايات المتحدة إلى أجل غير مسمى حوار الاستقرار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وروسيا.

متغيرات حاكمة

مع تولي إدارة بايدن، توقعت التحليلات تغير العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا إيجابيًا في ظل وجود رئيس أمريكي جديد. وتعزز التفاؤل باتفاق البلدين على تمديد معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية “ستارت الجديدة” لمدة خمس سنوات أخرى. لكن التوتر استمر بين القوتين؛ بسبب: اتهامات بالتدخل في الانتخابات، والهجمات الإلكترونية، وطرد الموظفين الدبلوماسيين، وقضايا أخرى من بينها توسع حلف شمال الأطلسي شرقًا، وأخيرًا الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية المفروضة على روسيا، ووصول العلاقات إلى أدنى مستوياتها منذ الحرب الباردة.

وتشهد العلاقات الدبلوماسية بين روسيا والولايات المتحدة ركودًا بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا دون أن تلوح في الأفق نهاية للحرب، لكن المسؤولين الأمريكيين عدّوه تطورًا إيجابيًا حيث واصلت موسكو التعبير عن اهتمامها بالمعاهدة، على الرغم من تهديدات بوتين النووية المقلقة مع احتدام الصراع. وأعربت روسيا عن استعدادها لمناقشة تمديد المعاهدة، وقالت الولايات المتحدة إن المفاوضات لن تتم إلا بعد استئناف عمليات التفتيش الموقعي.

الكل يدرك تمامًا أن المحادثات تعقد في وقت بالغ التعقيد والتشابك في ظل الأزمة الروسية الأوكرانية وانعكاساتها السلبية على مجمل الأوضاع العالمية والتهديد الروسي باستخدام السلاح النووي في حالة وجود تهديد حقيقي لأراضيها ولأمنها. لذلك هذه المباحثات تأتي في ظل عدة عوامل دافعة تتمثل في:

● إحياء الأجندة المشتركة بين البلدين: تمثل المحادثات التي تجرى في القاهرة خطوة أولى لإحياء أجندتي البلدين المشتركة للحد من التسلح النووي، منذ أن أوقف الرئيس الأمريكي الحوار مع موسكو على خلفية حرب أوكرانيا. وتكشف المحادثات مدى رغبة الإدارة الأمريكية في التواصل مع الرئيس الروسي بشأن بعض قضايا السياسة الخارجية رغم فرض واشنطن عقوبات “مدمرة” على موسكو. خاصة أن إحياء المحادثات كان “هدفًا للبيت الأبيض ووزارة الخارجية تعمل واشنطن عليه منذ أشهر لعدد من الأسباب:

الأول: حفاظ الولايات المتحدة على اتصال مع الجانب الروسي ومنع العلاقات بين القوتين النوويتين الكبيرتين من الخروج عن نطاق السيطرة. وهو ما ظهر واضحًا في الموقف الأمريكي من أزمة الصواريخ التي سقطت داخل الأراضي البولندية، وكيف تعاملت الإدارة الأمريكية بضبط نفس شديد وإدراك ووعي لخطورة أن تكون هناك مواجهة مباشرة بين الناتو وروسيا على اعتبار أن بولندا طالبت بتفعيل نص المادة الرابعة من معاهدة حلف شمال الأطلسي، وهو ما قوبل برفض أمريكي.

الثاني: الحفاظ على المزاج المعادي لروسيا في الغرب، والسماح لحلفائها الأوروبيين بتقاسم المزيد من المسؤوليات من أجل استهلاك روسيا واحتوائها استراتيجيًا.

الثالث: زيادة عدد التفاعلات بين القوى العظمى لن يؤدي بالضرورة إلى أي شيء ملموس على المدى القريب، لكنه قد يسمح للدبلوماسيين باختبار مواقف بعضهم البعض ومعرفة ما إذا كان هناك مجال أكبر للتفاوض مما هو متوقع، خاصة عندما يتعلق الأمر بالصراع في أوكرانيا.

الرابع: أدى الانسحاب الروسي من خيرسون إلى زيادة الدعوات الغربية لاستئناف المفاوضات مع روسيا ووقف إطلاق النار المحتمل خلال الشتاء. مع اقتناع المسؤولين الغربيين بأن كييف وموسكو كليهما لا يمكنهما النصر بشكل مباشر في ساحة المعركة. وتشير التقارير إلى وجود ضغط أمريكي غير معلن على كييف تجاه المحادثات، وهو ما ظهر في تخلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن مطلبه بأن المفاوضات لا يمكن أن تتم إلا بعد الإطاحة بالزعيم الروسي فلاديمير بوتين من السلطة، بجانب أن المسؤولين الأمريكيين بدأوا في إخبار حلفائهم بأن استعادة خيرسون تمثل بدء المفاوضات.

● مخاوف من استخدام أسلحة نووية بأوكرانيا: وفقًا لتقييم مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي، فقد ناقش المسؤولون العسكريون الروس كيف وتحت أي ظروف ستستخدم روسيا سلاحًا نوويًا تكتيكيًا في المعارك بأوكرانيا، لكن الرئيس فلاديمير بوتين لم يشارك بها. أثارت هذه المحادثات قلق إدارة الرئيس بايدن؛ لأنها أظهرت مدى إحباط الجنرالات الروس من الإخفاقات التي تكبدتها قواتهم على الأرض، وتشير كذلك إلى أن تهديدات بوتين المبطنة باستخدام الأسلحة النووية قد لا تكون مجرد كلمات.

إلا أن المسؤولين الأمريكيين قالوا إنهم لم يروا أدلة على أن الروس يجهزون الأسلحة النووية، أو يتخذون إجراءات تكتيكية للاستعداد لشن ضربة نووية. في حين أن خطر التصعيد يظل مرتفعًا على نحو مثير للقلق، تقول إدارة بايدن وحلفاء واشنطن إن الاتصالات بين المسؤولين الغربيين والروس ساعدت في تهدئة بعض التوترات النووية. 

خلال الأشهر الأخيرة، تحدث مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان بسرية مع يوري أوشاكوف مستشار السياسة الخارجية لبوتين، ونيكولاي باتروشيف سكرتير مجلس الأمن في الكرملين؛ في محاولة للحفاظ على الاتصالات وتقليل خطر التصعيد النووي. والتقى مدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز بنظيره الروسي سيرجي ناريشكين في 14 نوفمبر في تركيا؛ من أجل ثني روسيا عن التفكير في استخدام أسلحة نووية. وعلى الرغم من أن احتمال الاستخدام النووي لا يزال منخفضًا فإنه يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها مواجهة التهديدات النووية بأقصى قدر من الجدية والإدانة.

● الاستراتيجية الأمنية الأمريكية الجديدة وخطورة روسيا: في أكتوبر الماضي، أصدر البيت الأبيض استراتيجيته الجديدة للأمن القومي. وضعت الاستراتيجية هدفًا رئيسًا للعمل على “تقييد روسيا الخطرة”، في خضم تصاعد الأزمة بين البلدين في أعقاب الحرب الأوكرانية. وتنص الوثيقة على أن “روسيا تشكل تهديدًا فوريًا للنظام الدولي الحر والمفتوح، وتنتهك القوانين الأساسية للنظام الدولي، كما ظهر من حربها العدوانية ضد أوكرانيا”. 

وتقر الاستراتيجية أيضًا بأن مكانة روسيا مقارنة بالقوى الآسيوية الأخرى، مثل الصين والهند قد تضاءلت بشدة بسبب قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خوض الحرب الراهنة. وستعتمد الولايات المتحدة في تعاملها مع روسيا على مسار الحرب في أوكرانيا، لكن بعضًا من أهدافها ثابتة وفي مقدمتها مواصلة دعم كييف، والدفاع عن كل شبر من أراضي حلف الناتو، ومواصلة بناء الشراكات مع الحلفاء لمنع موسكو من التسبب في مزيد من الضرر للأمن والديمقراطية والمؤسسات الأوروبية. 

أكدت الاستراتيجية أن واشنطن ستردع وسترد عند الضرورة على الإجراءات الروسية التي تهدد المصالح الأمريكية الأساسية. وتقول الوثيقة إن إدارة بايدن تقترح  التفاوض على إطار جديد للحد من الأسلحة النووية، كي يحل محل معاهدة ستارت الجديدة عندما تنتهي صلاحيتها في عام 2026.

● استعراض العضلات النووية بين الناتو وروسيا: مع اشتداد الأزمة الأوكرانية، تضاعفت مخاوف المجتمع الدولي من نشوب حرب نووية. وبدأ حلف شمال الأطلسي تدريباته النووية السنوية، التي أطلق عليها اسم Steadfast Noon أو “الظهيرة الصامدة”، والتي بدأها 17 أكتوبر، وهذه المناورات هي سلسلة من التمارين الحربية السنوية لاختبار مدى جهوزية الدول الأعضاء لأي ضربة نووية محتملة، شارك فيها 14 دولة من الدول الأعضاء في الحلف. وشاركت في المناورات 60 طائرة من مختلف الطرازات، بما فيها مقاتلات من الجيلين الرابع والخامس الأكثر تقدمًا، وطائرات استطلاع، وقاذفات أمريكية بعيدة المدى من طراز «بي-52» (B-52)، وطائرات تزويد بالوقود. وكشفت هذه التدريبات عن أن الناتو يوجه رسائل ردع تبين قدرته في حال فكرت روسيا في عمل نووي، وإظهار خطوة بعيدًا عن تصريحات إدانة الغرب ضد روسيا حين هددت بالنووي.

ومع انتهاء مناورات حلف “الناتو”، أطلقت روسيا مناوراتها النووية الاستراتيجية “جروم”، والتي قال وزير الدفاع سيرجي شويجو عنها إنها تمثل “توجيه ضربة نووية ساحقة من جانب قوات الدفاع الاستراتيجي ردًا على ضربة نووية من العدو”. وضمت المناورات 12 ألف جندي وقاذفات لقوات الصواريخ الاستراتيجية وعشرات الطائرات، بالإضافة إلى حاملات صواريخ استراتيجية وسفن وغواصات نووية، فضلًا عن عشرات الوحدات والمعدات العسكرية الخاصة. وأكدت روسيا من خلال هذه المناورات أن هذه خطوة تحذيرية جديدة للغرب المستمر في الدعم السخي بالأسلحة المتطورة لأوكرانيا، وأن روسيا لن تتردد في استخدام السلاح النووي حال وجود تهديد وجودي.

القاهرة وجهة المباحثات الأمريكية الروسية

من المقرر أن تستضيف القاهرة اجتماعات اللجنة الاستشارية الروسية الأمريكية بشأن تمديد معاهدة “ستارت” للأسلحة النووية بين روسيا والولايات المتحدة في الفترة من 29 نوفمبر الجاري حتى 6 ديسمبر. وهي المرة الأولى التي تعقد فيها مثل هذه المحادثات في دولة غير أوروبية. خاصة أن هذه المفاوضات معقدة للغاية ومتوقفة منذ فترة طويلة، ومن ثم فإن اختيار مصر لتكون نقطة انطلاق هذه المحادثات يعود لعدد من الاعتبارات:

● ثقل الدور المصري الإقليمي والدولي: تلعب مصر دورًا مهمًا على الصعيد الإقليمي والدولي حيث استضافت أكثر المباحثات والمشاورات تعقيدًا على مختلف المستويات بين الوفود المختلفة وبين الأطراف المختلفة، لهذا من المنطقي أن تستضيف القاهرة اجتماعات اللجنة الاستشارية الروسية الأمريكية، لا سيما بعد استضافتها الناجحة للقمة العالمية للمناخ cop27. وبالتالي، فإن وجود تلك المباحثات للمرة الأولى في الشرق الأوسط يؤكد دور المنطقة الإقليمي، ورسالة مهمة تحمل في طياتها حجم الاستقرار الذي تتمتع به مصر ودورها الريادي والمحوري على المستوى الإقليمي والدولي. ويمكن اعتباره مؤشرًا مهمًا لأن تلعب القاهرة أدوارًا أكثر تقدمًا في ملفات عالمية شائكة.

● حيادية الدور: دائمًا ما تستضيف فيينا أو جنيف أو هلسنكي مثل هذه المحادثات كدول محايدة، ولكن بعد الأزمة الأوكرانية تخلت هذه الدول عن حيادها وأصبحت تدعم أوكرانيا ضد روسيا. فكان اختيار مصر بعد أن أخذت طرفًا محايدًا من الأزمة، خاصة بعد الدعوة التي أطلقها الرئيس السيسي في قمة المناخ بضرورة إيجاد حل سياسي سلمي للأزمة الروسية الأوكرانية، وهو ما يؤكد نية القاهرة لضرورة إحلال السلم الدولي وتنامي دور الدبلوماسية العربية كمحور اتزان في العمل على حل القضايا الدولية.

● عدم التدخل في شؤون الدول: أرست السياسة الخارجية المصرية الراهنة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. لذلك تسعى روسيا إلى إيلاء مصر الدور الأكبر في قضايا الشرق الأوسط بعيدًا عن الدول الإقليمية الأخرى التي تتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة لأن مصر هي جزء من النسيج الاجتماعي والثقافي والتاريخي العربي. أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية فهي تسعي جاهدة إلى إبعاد دول إقليمية بدأت تتقرب من روسيا. 

هذا بالإضافة إلى أن عودة المسار التفاوضي بين قوتين عالميتين بحجم أمريكا وروسيا يعكس حرص الطرفين على الإدارة الحكيمة للتفاعلات، والرغبة في ألا يفلت الزمام رغم الصراع، ومحافظتهما على العلاقات بينهما، وهو ما يعطي أملًا في إمكانية إيجاد حل سياسي للأزمة الأوكرانية. واختيار مصر لاستضافة هذه المباحثات، يمثل رسالة بالغة الأهمية بشأن التقدير الثنائي للسياسة المصرية والمواقف التي اتخذتها القاهرة في الأزمة الروسية الأوكرانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى