الأزمة الأوكرانيةروسيا

عقائد وحروب: دور الشعوب في صراعات القادة

منذ لحظة خروج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، 21 سبتمبر، لتوجيه نداء متلفز لشعبه يُعلن من خلاله قرار التعبئة العسكرية الجزئية، شهدت مناطق شتى من المدن الرئيسة في البلاد احتجاجات واسعة النطاق، نتج عنها أن وقعت السلطات الروسية حملة اعتقالات بحق أعداد هائلة تقدر بالمئات على خلفية ضلوعهم في تنظيم احتجاجات غير مصرح بها. وفي غضون يومين من قرار التعبئة العسكرية، وقع “بوتين”، 23 سبتمبر، قرارات جديدة تقضي بالسجن لمدة تصل إلى 10 سنوات لكل شخص يرفض الانصياع لقرارات التعبئة العسكرية، أو يحاول حتى الاستسلام أو الفرار من التجنيد. 

وبينما كان من المفترض أن تكون هذه القرارات والقوانين الصارمة كفيلة بأن ترغم الجميع على الانصياع في صمت إجباري، إلا أن الشواهد تدل على أنها تأتي بنتائج عكسية، خاصة بعد أن أوردت صحف روسية وغربية على حد سواء، 26 سبتمبر، أنباء حول قيام شاب روسي يبلغ من العمر 25 عامًا بإطلاق النيران على مركز تجنيد عسكري محلي في بلدة تابعة لسيبيريا. ونتج عن ذلك إصابة المفوض العسكري بإصابات بالغة الخطورة. فيما تعرض العديد من مراكز التجنيد العسكري في روسيا لهجمات متكررة خلال الأسبوع الماضي، وفقًا لما نشرته صحيفة الجارديان البريطانية. 

وبما أنه ليس ثمة شك في أن التاريخ سيقف كثيرًا عند هذه الحرب بالتأمل والتمعن نظرًا إلى كونها حرب تمثل دلالة محورية في إعادة الحروب البرية بين جيشين نظاميين مرة أخرى إلى طليعة الاشتباكات العسكرية في العالم السياسي المعاصر، فإنه من الضروري في السياق نفسه الوقوف للبحث وعقد المقارنات بين سلوك الشعب الروسي تجاه هذه الحرب، وسلوكه تجاه نزاعات أخرى مماثلة شاركت فيها بلاده. بالإضافة إلى العودة إلى مواقف تاريخية للمقارنة بين مواقف ظهرت فيها العقيدة القتالية عند شعوب خاضت بلادها حروب بين جيشين تختلط فيها القوات النظامية وشبه النظامية؛ أملًا في تقديم قراءة للخطوط العريضة في المشهد الاحتجاجي الداخلي لدى الروس. 

الشعب والعقيدة القتالية في الحرب: حرب الخليج الأولى نموذجًا 1980-1988

ثمة محطة يجب المرور عليها قبل التمعن في أسباب وبواعث الشعوب للوقوف مع أو ضد رغبات قياداتها أثناء الحروب. الحديث هنا يدور عن لفظة “العقيدة القتالية”؛ ويمثل هذا المصطلح الأسلوب الذي تتبعه القوات لتنفيذ مهامها القتالية التي تكلف بها من قبل قياداتها العليا، ويشتمل كذلك على العقيدة التي تتحلى بها هذه القوات؛ أي الأيدولوجية الفكرية والدينية على حد سواء بما في ذلك الأهداف والغايات الوطنية من وراء الحروب. وعادة ما ينتج عن هذه الجوانب اختلافات بين الدول بعضها البعض إبان خوضها للحروب. وعليه، نقرأ في السطور التالية نماذج عن بعض هذه التباينات.

العقيدة القتالية للجيشين “العراقي والإيراني” خلال حرب الخليج الأولى 1980-1988: عُرفت الحرب آنذاك في العِراق باسم “قادسية صدام”، بينما عُرفت في إيران باسم “حرب الدفاع المقدس”. وهي الحرب التي تجدر الإشارة إلى أنها لم تنتهِ إلى منتصر أو مهزوم؛ فكلا الطرفين خسر ما خسر وخرج من الحرب لا يحمل شيئًا يذكر سوى أوزارها. 

1 – الجيش الإيراني: كان الجيش الإيراني النظامي جيشًا متطورًا يتبع العقائد القتالية الغربية، وصولًا إلى قيام الثورة الإسلامية 1979، والتي كان من أحد أبرز نتائجها إعدام وسجن العديد من القيادات العسكرية الإيرانية ذات الخبرة الواسعة. عملت بعد ذلك الثورة على رأب هذا الصدع من خلال إنشاء قوة أخرى مسلح سميت بالحرس الثوري الإيراني. وكانت دفتا القوة العسكرية الإيرانية تشاركان بطبيعة الحال في الحرب، غير أن شراسة القتال وجسامة الخسائر البشرية أدت إلى ضرورة لجوء القيادة الإيرانية لفتح باب التطوع. 

وفيما بعد، أثر الخليط المكون للقوة العسكرية الإيرانية في الحرب بدرجاته الثلاثة على اتباع عقيدة هجومية تقوم على أساس تدفق القوات وهي عقيدة عادة ما تلجأ إليها الدول ذات الكثافة السكانية الضخمة وتسمى “بالموجات البشرية المتتالية”. وحققت هذه العقيدة نجاحًا مبدئيًا في الحرب؛ نظرًا إلى أن الشعب الإيراني كان ذا حماسة مشتعلة وقناعة راسخة بأهمية وقداسة ووطنية المشاركة والدفاع عن مبادئ ثورته. وعليه؛ تسنى للقيادة دائمًا طلب ما تشاء من المتطوعين والدفع بهم إلى ساحات القتال بعد تلقيهم تدريبات عسكرية خفيفة. ولكن في مرحلة متقدمة من الحرب، تآكل هذا التفوق العددي على العراق، وفقدت العقيدة بهذه الطريقة أهم أركانها. وكان من أهم الدروس المستفادة من هذه التكتيكات هو عدم تكليف القوات الشبه نظامية بمهام قتالية رئيسية، وقصرها على مهام خفيفة. 

2 – الجيش العراقي: اتبع الجيش العراقي عقيدة قتالية شرقية مستمدة من المدرسة العسكرية التي كان يترأسها بطبيعة الحال الاتحاد السوفيتي، وكانت القوات العراقية النظامية أكثر تنظيمًا وأكفأ من الناحية التدريبية من نظيرتها الإيرانية. ومن الجدير بالذكر أن الجيش العراقي كان مزودًا أيضًا بقوات شبه نظامية. وكانت القوات النظامية العراقية هي التي وقع عليها العبء الرئيس في تغطية جبهة القتال. 

وبالنسبة للقوات شبه النظامية فهذه كانت تتألف من المتطوعين المقسمين إلى وحدات يقودها ضباط “سياسيون من حزب البعث”. وهؤلاء لم يكونوا من ذوي التدريب العالي. لكن عندما قررت القيادة العسكرية العراقية الدفع بهم إلى المواقع الأمامية لم يحققوا نتائج ملموسة، لذلك ركز العراق فيما بعد على تدريبهم ووضعهم تحت قيادة ضباط أكفاء. ومن الجدير بالذكر كذلك، أن التطوع الشعبي للانضمام في الحرب فتح بابًا مواتيًا للسلطات في وقتها، لكنه لم يكن يتميز بنفس التدفق الذي حصلت عليه القيادة في الدولة العدو. 

موقف الشعب الروسي من صراعات الكرملين العسكرية: سوريا نموذجًا

قبل بدء النظر في إجابات عن سؤال حول كيف رأى الشعب الروسي تدخل بلاده العسكري في سوريا؟ ينبغي أولًا الإجابة عن سؤال حول كيف قدم الكرملين صياغة لحربه في سوريا أمام الشعب؟ وكيف أيضًا شارك الجيش الروسي الذي يكون بطبيعة الحال قوامه رجال تركوا عائلات خلفهم في الاتحاد الروسي في الحرب، من حيث المهام ومن حيث التعداد؟ وذلك نظرًا إلى ارتباط إجابات كل هذه الأسئلة ببعضها البعض. 

نشر مركز الاقتراع المستقل “نيفادا” استطلاع رأي حول مدى موافقة سكان الاتحاد الروسي على التدخل العسكري في سوريا، بتاريخ أكتوبر 2015. ووفقًا لنتائج الاستطلاع، وافق نحو 72% على التدخل العسكري. ولمعرفة أي نوع من أنواع التدخل الذي كان الشعب الروسي يوافق عليه، يجب علينا النظر إلى الطريقة التي قدم بها الكرملين المسألة برمتها في ذلك الوقت، إذ ساقها بوصفها لمحاربة الإرهاب؛ فالكرملين قدم التدخل لشعبه بوصفه حربًا على تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي المتطرف. 

ذلك علمًا بأن الشعب الروسي لديه باع طويل وتاريخ دموي ومعاناة سابقة من الهجمات الإرهابية التي شنها متطرفون محسوبون على الإسلام السياسي بحق مدنيين روس. لذلك يفسر هذا الموقف بأنه استجابة طبيعية لتجربة مريرة سابقة لا تزال عالقة بذهن السواد الأعظم من الشعب الروسي. وفي عام 2017، أعاد نفس المركز الاستطلاع ليكشف عن رغبة نصف المستجيبين له تقريبًا في إنهاء الصراع. ويأتي ذلك أيضًا كشكل من أشكال الاستجابة لحقيقة وقوع وفيات –بأعداد غير مؤكدة- في صفوف العسكريين الروس على الأراضي السورية. 

ننتقل الآن إلى مناقشة طبيعة التدخل الروسي العسكري في الأراضي السورية ومضاهاته بنظيره لدى الجارة الأوكرانية. وعند هذه النقطة نجد، أن الاتحاد الروسي اعتمد في تدخله في الحرب السورية على عدة محاور: (القوة الصاروخية، القوة الجوية، البحرية، والشرطة العسكرية، وعناصر الفيلق الخامس وهو عبارة عن فرقة عسكرية من المرتزقة تستمد تعليماتها من القيادة الروسية). بمعنى، أن عدد الأفراد العسكريين الذين احتاجت روسيا إلى الاعتماد عليهم في سوريا قليل للغاية بشكل لا يمكن مضاهاته بأي مشاركة نظامية من جيش فعلي. 

ومن الممكن الاعتماد في التقفي الفعلي أو المقارب لتعداد إجمالي العسكريين هناك على عدد العسكريين الروس اللذين أدلوا بصوتهم في انتخابات الرئاسة الروسية 2018، من منطلق مقراتهم الموجودة في سوريا والذي بلغ وفقًا لما هو معلن عنه 2954 فردًا فقط. مما يعني أن معدلات الخطر المحدق على حياة هؤلاء في حرب سوريا تعد ضئيلة للغاية، بجانب أي غضب عكسي أو احتقان قد ينتج عن فقدان حياة واحد منهم كان ولا يزال من الممكن احتواؤه بالنسبة للقيادة في الكرملين. 

علاوة على ذلك، استخدمت روسيا الحرب السورية كحقل تجارب للأسلحة وللتكتيكات العسكرية الخاصة بها. وتعاملت مع أهدافها العسكرية هناك من منطلق قواعد مادية بحتة لا تأبه بأي اعتبارات من شأنها الحفاظ على حياة المدنيين السوريين، واعتمدت على تكتيكات خاصة تقوم في الأساس على الضربات الجوية الواسعة للمناطق المستهدفة حتى وإن كانت مدنية، الأمر الذي زاد من عدد الضحايا المدنيين السوريين في الحرب، التي قدرتها منظمة “آيروارز” الاستقصائية المختصة بإحصاء عدد الضحايا المدنيين في الحروب بأكثر من 6389 من المدنيين خلال ست سنوات من التدخل الروسي النشط في سوريا.

لكن مع ذلك، لم يكن هناك اهتمام عام بفتح نقاشات جادة من جانب الشعب الروسي حول عدد الوفيات في صفوف المدنيين السوريين جراء التدخل العسكري في سوريا، رغم أن هذا العدد وصل في الأشهر الأربعة الأولى من التدخل إلى عدد لا يقل عن 1000 شخص. حتى أن أشهر زعماء المعارضة الروسية، “أليكسي نافالني”، وأتباعه عندما كانوا يوجهون انتقادات سابقة للتدخل الروسي في سوريا، كانت انتقاداتهم في الغالب تركز على الثمن الاقتصادي الذي تكبدته بلادهم من وراء الحرب، بدون الإتيان على ذكر التكلفة الإنسانية على السوريين. 

رؤية تحليلية

ثمة رأي شهير يتردد من حين إلى آخر مفاده “أن التاريخ لا يعيد نفسه لكن البشر هُم من يكررون نفس الأخطاء”. ونجد الآن أن دولة الاتحاد الروسي وأوكرانيا تخوضان حربًا تختلط فيها الجيوش النظامية بالقوات شبه النظامية التي إما تتشكل من متطوعين أو مرتزقة أو أي شيء يندرج في المقام الأول تحت بند دخول المدنيين غير الحاصلين على تأهيل عسكري مناسب إلى سياق حرب مستعرة يشارك فيها بالفعل عناصر نظامية. وبمراجعة المثال التاريخي المذكور أعلاه، نجد أن هذا النمط من الحروب الذي حتى وإن طال عليه الأمد، فهو في أغلب الأحوال يخرج منه الكل مهزومًا. 

ونستخلص في السياق نفسه أن إيران حصلت على دعم شعبي أكبر من قبل مواطنيها أثناء الحرب؛ نظرًا إلى اعتمادها على ربط الحرب بأهداف دينية كرست في نفوسهم أن كل من يفقد حياته سيكون شهيدًا في مرتبة أعلى من الحياة العليا في السماوات، لذلك لم يكن هناك غضب شعبي على المنضمين للحرب، دلالة على ذلك تنعكس بوضوح في اللغة الخطابية التي كانت السلطات الإيرانية تعتمد عليها في تسمية الحرب بالدفاع المقدس. على العكس، لم تجد السلطات العراقية الشغف نفسه من شعبها للانضمام والتطوع في الحرب التي قال مؤرخون عنها إن العراقيين ذهلوا من الطريقة التي كان بها شباب الإيرانيين يلقون فيها بأجسادهم أمام الدبابات العراقية لعرقلتها؛ نظرًا إلى ارتباط الدعوة إلى الحرب في العراق بشخص قائدها الرئيس الأسبق صدام حسين بنفسه، وهو الشيء الذي ينعكس بوضوح في كلمة “قادسية صدام”. 

وهو الأمر الذي نستخلص منه، أن هذا النمط من الحروب يكتسب الدعم الشعبي عندما يتم ربط الحرب بهدف أسمى؛ إما ديني أو وطني ويُكلل في نهاية المطاف بجائزة روحية تمثل عند المسلمين بمرتبة الشهادة في سبيل الدفاع عن الوطن، وليس وفقًا لارتباطاتهم بأحلام وطموحات القائد نفسه. مع الأخذ في عين الحسبان أن الحالة الراهنة التي نتناول فيها الحديث عن الحرب الروسية الأوكرانية لا تدعو المواطنين إلى الانضمام إلى صفوفها من خلال التطوع بل عبر قرارات إلزامية بالتعبئة العسكرية. وتُخبرنا حرب الخليج الأولى، التي اختلطت فيها القوات النظامية وشبه النظامية، بأن العبرة لا ترتبط بالضرورة بالكَم العددي للقوات بقدر ما ترتبط بالكيف التدريبي لهم؛ إذ إنه من البديهي فهم أن مشاركة عدد إضافي غير مدرب في حرب ستمثل عبئًا تاريخيًا يضاف على حساب دافعي فاتورة الدماء النهائية منها. 

عند هذه النقطة نعود للرد على سؤال حول أسباب الغضب الشعبي الروسي الذي لاقته السلطة في الكرملين عقب قرار التعبئة، أو بمعنى عام، الذي لاقته منذ اندلاع الحرب. نجد أن هذه الحرب جديرة بغضب الشعب الروسي لأسباب عدة نوردها، في ضوء ما تقدم شرحه، كالتالي:

ربما تنمو قناعة لدى الشعب بأن هذه الحرب هي حرب “بوتين” الشخصية في أوكرانيا. وعليه، فإن الغاضبين منهم –بغض النظر عن صعوبة وضع تقديرات عددية دقيقة لرصد أحجامهم- على قناعة بأنه ليس ثمة أي أخطار محدقة بوطنهم تحتم عليهم بذل الدم والعرق لأجل الدفاع عنها من الأساس. 

عامل تشابه التكوين العرقي والديني حاضر بوضوح في هذه الحرب؛ بحيث ينبغي الأخذ في عين الحسبان أن الجيش الروسي المراد تشكيله اليوم من وراء قرار التعبئة العسكرية هو عبارة عن مواطنين مسيحيين أرثوذكس من العرقية السلافية سيكون مطلوبًا منهم الذهاب لرفع السلاح في وجه آخرين تنطبق عليهم نفس المواصفات. وما يزيد الأمر تعقيدًا، أن نسبة ليست قليلة من الشعبين تربطهم علاقات قرابة ببعضهم البعض من خلال الزواج وغيره، وهو ما يفسر سبب الغضب الشعبي على الدمار والموت الذي لحق بأوكرانيا، وهو الشيء الذي لم نجد له مثيلًا لما حدث في سوريا. 

لم يكن الشعب الروسي ليغضب على التدخل في سوريا؛ نظرًا إلى أنه تدخل ضد “إرهابيين”. ولم يكن هناك ثمة من ينبغي عليه القلق أيضًا على مصير المدنيين السوريين؛ نظرًا لأن هؤلاء المدنيين لا يتشاركون مع الشعب الروسي في أي من السمات العرقية أو الدينية، لهذا السبب تميل العقول إلى وضعهم في إطار يجعلهم شيئًا يشبه الإرهابيين، أو ربما يتم اعتبارهم خسائر جانبية كان لابد منها للحرب على الإرهاب وليس من الضروري الالتفات إليها. 

الحرب الجارية في أوكرانيا تواجه صعوبة في الحشد من داخل روسيا؛ نظرًا إلى أنها حرب تواجه مشكلة لافتقارها إلى عقيدة ترسخ لأهميتها في نفوس مواطنيها. لذلك، ليس هناك ثمة ضامن أمام السلطة في الكرملين من أن ذلك الفرد الذي تم إجباره على الخضوع لقرار التعبئة سوف يدين بالولاء للقيادة حال مشاركته في الحرب. 

على الرغم من أن رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، “باترياك كيريل”، يقول إن الجنود الروس الذين يموتون في ساحة المعركة سيُبرأ ذنوبهم. ويؤكد أن “التضحية تغسل كل الآثام”، إلا أنه من الأجدر القول إن استخدام أساليب الحشد الديني لا تؤتي بالثمار المرجوة منها في هذه الحرب. والسبب وراء ذلك ربما يعود إلى أن رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بوصفها أعلى سلطة دينية في البلاد يعد حليفًا مقربًا من الرئيس الروسي، ومن أقوى وكبار مؤيدي فكرة الحرب.  

وجد الشعب الروسي نفسه متورطًا في الحرب بشكل لم يكن محسوبًا من قبل. وطالت العقوبات الغربية من الحياة اليومية للمواطن الروسي، مما ينتج عنه بطبيعة الحال غضب وإحساس كبير بالعزلة عملت القيادة في الكرملين على مجابهته.

القتلى في صفوف الجيش الروسي غيابهم عن عائلاتهم من المحتم أنه تسبب بحالة من الغضب الشديد التي نجم عنها أن خيم شبح الخوف من الموت على عقول كل من توجه لهم نداء التعبئة. ورغم أن وزير الدفاع الروسي، “سيرجي شويجو”، أعلن 21 سبتمبر، عن حصيلة خسائر الأرواح في صفوف العسكريين الروس جراء المشاركة في الحرب والتي بلغت 5937 وفقًا له، إلا أن التقديرات الغربية تشير إلى أن الأعداد الحقيقية تفوق ذلك بكثير. 

وختامًا، من الواضح أن الكرملين وآلته الإعلامية لم ينجح بشكل كامل في تقديم صياغة محكمة على الصعيد الداخلي لطبيعة المخاطر المحدقة بروسيا بشكل يسمح بترسيخ عقيدة دفاعية تؤكد حتمية وشرعية الحرب في نفوس المواطنين الذين يجدوا نفسهم اليوم في لحظة حرجة تحتم عليهم المشاركة في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ولكنها مع ذلك تُهدد حياتهم وليس في مقدرتهم كبحها أو الفرار منها. 

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى