الأزمة الأوكرانيةمقالات رأي

معادلة الحرب تتغير.. روسيا تتراجع وأوكرانيا تتقدم

بدأت دفة الحرب الروسية الأوكرانية تتغير لصالح أوكرانيا، وتتمثل نقطة التغير الاستراتيجية في تحول أوكرانيا من موقع الدفاع إلى الهجوم المضاد، ودفع روسيا إلى التراجع في مسار عكسي بعد أن كانت تتقدم ببطء خلال الأشهر الستة الماضية منذ اندلاع الحرب في 24 فبراير 2022، حيث تمكنت القوات الأوكرانية من استقطاع مساحات هائلة من مواقع السيطرة الروسية تقترب من 6 آلاف كلم في مدى زمني قصير على مدار الأسبوعين الأخيرين، وفق أحدث تقديرات معهد دراسات الحرب الأمريكي ISW.

فقد كانت القوات الروسية تسيطر على خُمس المساحة الإجمالية الأوكرانية، فيما يبلغ اجمالى ما استعادته القوات الأوكرانية منذ بداية الحرب أكثر من ثُلث مساحة السيطرة الروسية، أخذًا في الحسبان الانسحاب الروسي من محيط العاصمة “كييف” أواخر مارس الماضي، ومؤخرًا التراجع عن مناطق “خاركيف” في الشرق و”خيروسون” في الساحل الجنوبي. 

وفي واقع الأمر، فإن القيمة الاستراتيجية للمواقع التي استعادتها أوكرانيا تبدو أكثر أهمية من الحسابات الكمية؛ فقد وصلت القوات الأوكرانية إلى خط الحدود السياسية مع روسيا في خاركيف، وباتجاه الجنوب مع إقليم الدونباس. ومن بين عشرات البلدات، تمكنت من استعادة بلدتين استراتيجيتين هما إيزيوم وكوبيانسك، مسيطرة بذلك خط السكة الحديد الواصل ما بين روسيا والدونباس والذي يمر عبر خاركيف، وهو خط الأمداد الرئيس للقوات الروسية. وبالتالي أصبح الدونباس إقليمًا معزولًا لوجستيًا عن مصادر الإمداد، ما يضعه الهدف التالي للقوات الأوكرانية، لاسيما وأن البدائل المتاحة لدى روسيا لتعويض هذه الخسائر ستضعها في مأزق التكلفة وطول الوقت. 

وينصب تفسير هذا التقدم الميداني النوعي من الجانب الأوكراني حول عدد من المؤشرات، يأتي في مقدمتها فجوة الفراغ الميدانية عندما أقدمت موسكو على القيام بعملية اعادة انتشار لقواتها تضمنت سحب نحو 10 آلاف جندي من الخطوط الأمامية في خاركيف لحسم الموقف في الدونباس وخيرسون، وبالتبعية نجحت القوات الأوكرانية في ملء هذا الفراغ سريعًا، بالتحرك خلف خطوط الانسحاب الروسي بل وتوسيع دائرة الانسحاب. 

المؤشر الآخر هو حالة الإنهاك التي تعاني منها القوات الروسية مع طول أمد الحرب، في ظل التحدي الذي تفرضه عملية التعبئة العسكرية لدى الجانب الروسي من قوة الاحتياط؛ فمنذ بداية الغزو الروسي، أعلنت موسكو أنها تخوض عملية عسكرية وليست حربًا، ما يفرض عليها قيد تعبئة قوة الاحتياط أو المجندين الجدد. وفي حال لجأت إلى عملية تعبئة ستؤكد على حالة الانكشاف الميداني، ومن ثم ستخاطر بقاعدة التأييد الداخلي لهذه الحرب، بخلاف أن تعبئة المزيد من القوات يعني فتح المزيد من مخازن الأسلحة في الوقت الذي يضع فيه حلفاء كييف في حسبانهم أن المعركة في أوكرانيا هي حرب استنزاف سيتغلب فيها صاحب النفس الأطول.  

ومن جانب آخر، استفادت أوكرانيا كذلك من عامل التصدع في قيادة العمليات الروسية، وهو ما كشفت عنه تصريحات الرئيس الشيشاني رمضان قديروف التي انتقد فيها أسلوب إدارة المعركة وهدد باللجوء إلى القيادة العليا لتدارك الخسائر.  على العكس من ذلك، أظهرت القوات الأوكرانية تحسنًا غير مسبوق في إدارة العمليات؛ ففي المرحلة السابقة، كان التصور السائد أن العمليات العسكرية تدار من خارج أوكرانيا عبر دائرة مستشاري الناتو، وهو ما تسبب في إرباك القيادة الأوكرانية، لكن يبدو أن القيادة الأوكرانية أصبحت تمتلك زمام القيادة والسيطرة حاليًا بشكل نسبي، مع الاستفادة من التسليح الغربي، وهي الصيغة التي كان يركز عليها الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي حينما كان يخاطب الغرب بأنه لا يحتاج منهم سوى السلاح. 

ومع استعادة القيادة، باتت هناك قدرة على التنسيق ما بين التشكيلات المختلفة، وهو ما انعكس في تحسين الأداء التكيتكي القتالي في الميدان؛ ففي المرحلة السابقة، ركزت القوات الأوكرانية على تكتيك حرب العصابات لاستنزاف القوة الروسية الزاحفة بجيش جرار من المدفعية، معتمدة على استخدام المنظومات الهجومية المحمولة مثل ستينجر وجافلين، أما في المرحلة الحالية، أصبح ممكنًا رؤية دبابات (تعود إلى الحقبة السوفيتية) أجريت عليها عملية صيانة إلى جانب تزويدها بأجهزة تواصل مع بقية الآليات في الميدان الأرضي والجوي، مع نشر آليات استطلاع متقدمة لاسيما الطائرات المسيرة ( الدرونر).على التوازي، شهدت القوة الجوية من طائرات الميج تحسينات مماثلة.

وبالنسبة للموقع في خيرسون، من الممكن الإشارة إلى أن الأسلحة الأحدث مثل منظومات (هيمارس) الأمريكية باتت تلعب دورًا مهمًا في التغطية الدفاعية والهجومية، إلى جانب العوامل التكتيكية الخاصة باستهداف الجسور، ما شكل عائقًا للحركة أمام مساعي القوات الروسية الانتقال إلى ميكولايف ومن ثم عبور نهر الدنيبر إلى الضفة الغربية الأوكرانية، أو حتى مواصلة الزحف الروسي غربًا على الخط الساحلي باتجاه أوديسا.

في الأخير؛ ربما لا يزال من المبكر القول إن كييف قادرة على حسم المعركة في المدى المنظور، لكنها بدأت تقلب المعادلة التي تطمح فيها إلى حد استعادة شبه جزيرة القرم التي احتلها روسيا عام 2014. إلا أن لهجة موسكو المتغيرة بشأن المفاوضات (ربما الاكتفاء باحتلال الدونباس) وتستغل فيها إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا كورقة الضغط مع حلول فصل الشتاء في أوربا، وسط تلميحات روسية بأن على الأوربيين وقف الإمدادات العسكرية لأوكرانيا؛ ينقلنا إلى الرهان الآخر لدى الجانب الروسي وهو أن فصل الشتاء قد يمنح روسيا فرصة أفضل في الحركة على المياه الممتدة في الشتاء، لاسيما تعويض الجسور المدمرة على الأنهار.

لكن فى واقع الأمر، لا يمكن اختزال إمكانية استعادة روسيا دفة الأمور اعتمادًا على هذه الجزئية، ربما تندفع القوات الأوكرانية إلى الاسراع في المزيد من العمليات، حيث سيتعين على الجانب الأوكراني تثبيت الأقدام في المناطق المحررة؛ بهدف الحفاظ على المكتسبات الميدانية أولًا في خاركيف، دون المغامرة بالتقدم السريع في الدونباس قبل أن تقلص مساحة التواجد الروسي في الساحل الجنوبي من خيرسون باتجاه القرم، وزيادة العوائق البحرية أولًا بأول في البحر الأسود، مع الوضع في الحسبان حسابات المغامرة الروسية غير المتوقعة على نحو ما جرى في معركة المفاعل النووي في “زابوريجيا” مؤخرًا. 

نقلًا عن صحيفة المصري اليوم

+ posts

رئيس وحدة التسلح

أحمد عليبة

رئيس وحدة التسلح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى