
انتحار الأرض: هل يقف العالم على شفير حرب نووية؟
بعبارة “لقد كنا محظوظين للغاية حتى الآن، لكن الحظ ليس استراتيجية، ولا يحمي من التوترات الجيوسياسية التي تغلي على صفيح نزاع نووي”، حذر الأمين العالم للأمم المتحدة، “أنطونيو جويتيريش”، خلال افتتاح مؤتمر الدول الموقعة على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية 1 أغسطس، من أن العالم تفصله خطوة واحدة غير محسوبة عن حرب نووية مدمرة.
ولقد تواتر الحديث، بوجه عام، عن احتمالات نشوب حرب نووية قائمة على المواجهة بين الولايات المتحدة وروسيا منذ تاريخ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا في أواخر فبراير الماضي. واختلفت التكهنات بين مؤيد لإمكانية اندلاع هذا النوع من الحروب المقيدة بمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية التي تم التوقيع عليها 1968، وبين معارض يستبعد هذه الفكرة. بشكل يحث على ضرورة النظر والتباحث أملًا في الحصول على إجابة حول ما إذا كان العالم يقف على أعتاب حرب نووية أم لا؟
آراء متضاربة: حرب نووية أم لا؟!
تصاعدت الأقاويل بين الخبراء والمحللين السياسيين حول العالم فيما يتصل بإمكانيات نشوب الحرب النووية. غير أن أكثر ما لفت الانتباه في هذا السياق كانت كلمات وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، “هنري كيسنجر”، والذي صرح خلال مقابلة أجراها مع صحيفة “الفاينانشيال تايمز”، 10 مايو 2022، بأنه من الصعب التنبؤ خلال المرحلة الحالية ما إذا كانت روسيا ستتجه إلى ترسانتها النووية من أجل إنهاء الحرب أم لا، مؤكدًا أننا “نعيش الآن في حقبة جديدة تمامًا من الحرب الباردة”. ورأى “كيسنجر” أن الظروف تغيرت كثيرًا –فيما يخص تجنب وقوع كارثة نووية- في العقود الأخيرة، لدرجة أنه صار يلزم إجراء نقاشات جديدة تمامًا حول الآثار المحتملة لاستخدام الأسلحة النووية.
وعلى الصعيد الشعبي، فإن ردود فعل الأوربيين تحديدًا على الحرب كانت كفيلة بإثبات مدى قناعاتهم بإمكانية نشوب حرب نووية أم لا؛ فقد اجتاح القارة جنون الإقبال على شراء وتجهيز المخابئ النووية بشكل غير مسبوق منذ عقود. ووفقًا لما أوردته صحيفة “نيويورك تايمز”، 12 مارس، إن الطلب على الملاجئ النووية وصل إلى أرقام غير مسبوقة منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. فقد عبر “ماتيو سيران”، مؤسس شركة ” Artemis Protection”-وهي شركة فرنسية للمخابئ الفاخرة المزودة بأنظمة تنقية هواء والتي تكلف ما لا يقل عن نصف مليون يورو لكل مأوى- عن أنه في الماضي كان الأثرياء فقط هم من يهتمون بها، ولكن شركته بدأت في تلقي أعداد كبيرة من الطلبات من أشخاص عاديين منذ بدء الحرب في أوكرانيا.
من ناحية أخرى وبالتزامن مع توتر الأوضاع، بدأت الجهات المعنية على المستوى الدولي في إجراء دراسات حول النتائج التي من المتوقع أن تترتب على اندلاع حرب نووية. ووفقًا لدراسة نشرتها مجلة “Nature Food”، 15 أغسطس، فإن حربًا نووية واسعة النطاق بين روسيا والولايات المتحدة قد تؤدي إلى مجاعة عالمية، وتودي بحياة أكثر من 5 مليارات شخص. وتُشير الدراسة إلى أنه حتى حرب نووية محدودة ستكون كفيلة بأن تقتل المليارات؛ ويرجع ذلك إلى أن عملية إطلاق السخام في الغلاف الجوي بعد تبادل نووي من شأنها أن تقضي على إنتاج المحاصيل الزراعية بسبب حجبه لأشعة الشمس وانخفاض درجات الحرارة.
وقدّمت الدراسة سيناريوهات عدة لعواقب الحروب النووية، منها الحرب النووية المحدودة التي وجدت الدراسة أنها ستؤدي إلى عواقب بعيدة المدى من ضمنها نقص حاد في الغذاء لدرجة تودي حياة المليارات من الناس. ومنها ما ينظر في شأن السيناريو الأكثر تطرفًا، ويتمثل ذلك في حرب نووية واسعة النطاق بين الولايات المتحدة وروسيا؛ ويتوقع أن يترتب عليها انخفاض حاد في الإنتاج الزراعي بشكل سيموت معه أكثر من 75% من سكان الكوكب من فرط الجوع في غضون عامين بعد الحرب. وأشارت الدراسة إلى أن هذه التأثيرات ستنال من كل العالم تقريبًا باستثناء أستراليا وعدد قليل من الدول الواقعة في أفريقيا وأمريكا الجنوبية.
هناك أيضًا ظاهرة الشتاء النووي الذي تُرجح الدراسة حدوثه بالاقتران مع اندلاع الحرب، فيعتقد الباحثين أن السخام النووي الذي يُلقى في الغلاف الجوي بعد التبادل النووي من شأنه أن يحجب أشعة الشمس فيتسبب في انخفاض درجات الحرارة. ولن يؤثر الشتاء النووي على الأمن الغذائي العالمي فحسب، بل إنه سيؤدي أيضًا إلى تغييرات جذرية في كيمياء المحيطات، والتي من شأنها أن تكون قاتلة بالنسبة للنظم الأيكولوجية البحرية مثل الشعاب المرجانية، وربما يغرق العالم في عصر جليدي جديد.
وعلاوة على ذلك، فإن الحرب النووية من الممكن أن تؤدي أيضًا إلى ما هو أبعد من الشتاء النووي؛ إذ أنه من الممكن أن يؤدي تسخين الغلاف الجوي عن طريق التفجيرات النووية إلى تدمير طبقة الأوزون والسماح بمزيد من الأشعة الفوق بنفسجية على سطح الأرض، مما يترتب عليه أن تتأثر مناطق شاسعة بالتلوث الإشعاعي.
موقف موسكو من استخدامات الأسلحة النووية
يرجح معهد ستوكهولم لأبحاث السلام في تقريره الصادر عن عام 2022 أن إجمالي ما يملكه العالم من أسلحة نووية يتجاوز 12 ألف قنبلة نووية. وبالنسبة لروسيا، يُعتقد أنها تمتلك حوالي 2000 سلاح نووي تكتيكي من الممكن أن يتم تركيبها على أنواع مختلفة من الصواريخ التي عادة ما تستخدم لإيصال المتفجرات التقليدية. وتم تطوير هذه الأسلحة للتواؤم كذلك مع الطائرات والسفن. ومن جهته، عبر الرئيس الروسي، خلال خطابه الترحيبي أمام المشاركين والضيوف في المؤتمر العاشر لمراجعة معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، 1 أغسطس، “أنه لا يوجد منتصر في حرب نووية ولا ينبغي إطلاق العنان لها”. مضيفًا أن بلاده التزمت بشكل كامل باتفاقياتها الثنائية مع الولايات المتحدة بشأن خفض الأسلحة النووية والحد منها.
وبالنسبة للموقف النووي في العقيدة العسكرية الروسية؛ فلقد مر ذلك بعدة مراحل واتخذ تطورات مختلفة عبر السنوات. وإجمالًا، يظل في مقدور روسيا استخدام الأسلحة النووية في سياق استراتيجي قسري؛ ففي 2014، وبموجب التغييرات التي طرأت على العقيدة العسكرية الروسية وقتها، “يحتفظ الاتحاد الروسي بالحق في استخدام أسلحة نووية ردًا على استخدام الأسلحة النووية أو الرد على أنواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل، إما ضد روسيا أو ضد حلفائها. وكذلك في حالة حدوث عدوان على الاتحاد الروسي باستخدام أسلحة تقليدية، عندما يكون وجود الدولة ذاته تحت التهديد”.
ويُعد هذا البند خروجًا عن عقيدة روسيا العسكرية لعام 2000 التي كانت تنص على أنه لا يجوز استخدام الأسلحة النووية إلا في المواقف الحرجة للأمن القومي للاتحاد الروسي. فيما حددت العقيدة العسكرية، 2020، أشكالًا أكثر وضوحًا للحق في استخدام الأسلحة النووية؛ مثال على ذلك أنه “يحق لروسيا استخدام الأسلحة النووية إذا اكتشفت إطلاق صواريخ باليستية على أراضيها أو أراضي حلفائها، أو إذا تعرضت هياكلها النووية للهجوم، أو إذا كان وجود الدولة ذاته مهددًا باستخدام أسلحة تقليدية من قِبَل أحد الأعداء”. ووفرت هذه العقيدة إمكانية الاستخدام المرن والمحدود للأسلحة النووية.
موقف واشنطن من استخدامات الأسلحة النووية
عبّر الرئيس الأمريكي، “جو بايدن”، الاثنين 1 أغسطس، خلال خطابه في مؤتمر عدم انتشار الأسلحة النووية عن استعداده لمتابعة صفقة أسلحة نووية جديدة مع روسيا، ودعا نظيره الروسي إلى التصرف بحسن نية حيال هذا الأمر. وقال “بايدن”: “إن إدارتي مستعدة للتفاوض على وجه السرعة بشأن إطار جديد للحد من الأسلحة ليحل محل نيو ستارت عندما ينتهي في عام 2026″. لكن التفاوض يتطلب وجود شريك راغب في أن يعمل بحسن نية”. وكانت الخارجية الأمريكية، قد كشفت عن حجم المخزون الأمريكي من الرؤوس النووية الحربية في يونيو 2020. وأوضحت أن الجيش الأمريكي يمتلك نحو 3750 رأسًا نوويًا مفعلًا وغير مفعل.
وفيما يتصل بالاستخدامات النووية في العقيدة العسكرية الأمريكية، ففي 2019، نشر البنتاجون وثيقة تشير إلى أن الأسلحة النووية من الممكن أن “تخلق الظروف لتحقيق النتائج الحاسمة واستعادة الاستقرار الاستراتيجي”. ووفقًا لتلك العقيدة النووية، والتي حملت عنوان “العمليات النووية”، ونشرت بتاريخ 11 يونيو، فإن “استخدام سلاح نووي سيغير بشكل أساسي نطاق المعركة ويخلق الظروف التي تؤثر على كيفية انتصار القادة في الصراع”.
علاوة على ذلك، استهلت الوثيقة الفصل الخاص بالتخطيط والاستهداف النوويين بكلمات “هيرمان كان”، الخبير الاستراتيجي خلال فترة الحرب الباردة، والتي قال فيها: “أعتقد أن الأسلحة النووية ستستخدم في وقتٍ ما خلال المائة عام القادمة”. لكنه استدرك قائلًا إنه “من المحتمل أن تكون استخداماتها صغيرة ومحدودة”. ومن الجدير بالذكر أنه كان جادل بأن الحرب النووية من الممكن أن تكون بالفعل شيئًا تستطيع الولايات المتحدة تحقيق الفوز به.
وأزيلت هذه الوثيقة من على موقع البنتاجون بعد تاريخ نشرها بأسبوع واحد فقط، وأعلن المسؤولون الأمريكيون أن هذه الوثيقة لا تمثل إلا ردود فعل الولايات المتحدة في أسوأ السيناريوهات. وسبقت هذه الوثيقة، عقيدة العمليات النووية، التي تم نشرها خلال فترة إدارة الرئيس الأمريكي، “جورج دبليو بوش”، عام 2005. ولقد تسببت هذه أيضًا بإثارة القلق؛ نظرًا إلى أنها كانت تتناول إمكانيات شن ضربات نووية استباقية، وتتيح للولايات المتحدة استخدام ترسانتها النووية ضد جميع أسلحة الدمار الشامل، وليس فقط كرد على الأسلحة النووية.
فيما لم تنشر إدارة الرئيس الأمريكي السابق، “باراك أوباما”، أي وثائق تخص عمليات نووية. وسعت إدارته خلال مراجعة للموقف النووي تم تقديمها في العام 2010، إلى التقليل من دور الأسلحة النووية في التخطيط العسكري الأمريكي. لكنها في الوقت نفسه لم تذهب إلى حد نزع الأسلحة النووية بالشكل الذي طمح إليه نشطاء مجابهة الانتشار النووي.
هل يشهد العالم حربًا نووية في المستقبل القريب؟
رغم أن هناك الكثير من الترجيحات التي تؤكد أن روسيا قد تلجأ إلى استخدام ترسانتها النووية إذا واجهت هزيمة وجودية على يد الناتو، أو تم تهديد سلطتها في العالم كـ “دولة عظمى”، أو حتى تم تهديد سيطرتها على ما ضمته لنفسها في الصراع الأوكراني؛ إلا أنه يظل من المستبعد في اللحظة الراهنة الحديث عن حرب نووية مؤكدة بين الدول الكبرى.
والأسباب وراء هذا الاستبعاد عديدة؛ من ضمنها عدم رغبة الولايات المتحدة أو الناتو بوجه عام في تقديم أسلحة أو دعم عسكري لأوكرانيا يخول لنوع المواجهات مع روسيا إلى أن يرقى لمواجهة مسلحة مباشرة بين روسيا والغرب. بشكل يعكس الرغبة الغربية في تكبيد روسيا أمرّ الخسارات في معاركها بأوكرانيا ولكن في إطار محدد فقط لا يرقى لاستفزاز قد يؤدي إلى خروج “بوتين” عن مساره والاضطرار إلى اللجوء للنووي.
بالإضافة إلى ذلك، تظل مخاطر استخدامات الأسلحة النووية مرتفعة للغاية على روسيا نفسها قبل أي شيء آخر، وقبل حتى احتساب الإنجازات المحتملة من وراء هذه الأسلحة؛ إذ أن الصواريخ التي تحمل رؤوسًا نووية -حتى وإن كانت تكنولوجية متطورة- لا يوجد ما يمنع أن تنفجر بشكل مباشر في مجال قريب من أراضي الاتحاد الروسي، أو في المجال الجوي نفسه، خاصة في ظل حرب محتدمة بين جانبين. والأكثر مرارة بشأن خطورة الانفجارات النووية يتمثل في أن مساوئها تستمر ولا تتوقف لسنوات عديدة بعد الانفجار. لذلك، فإنه ربما لا ترغب روسيا في إشعال فتيل حرب نووية قد تكون هي نفسها من ضمن المتضررين منها.
غير أن ذلك لا يمنع النظر في احتمالات استخدام روسيا للأسلحة النووية غير الاستراتيجية –على ارتفاعات عالية عن سطح الأرض- كوسيلة نهائية بغرض تحقيق أهداف حاسمة. لكن تظل هناك صعوبات أيضًا تتخلل هذا النمط من الاستخدام؛ نظرًا إلى أنه لم تتم تجربته فعليًا في أي حرب أو معركة سابقة، ولا تزال هناك خلافات بين العلماء على تأثيراتها الإشعاعية ولم يتفق بعد على النتائج النهائية لها، ولا يزال العلماء يرون أن تفجيرًا بسلاح نووي غير استراتيجي سيترتب عليه حدوث اتحاد في المواد المشعة في الفضاء قبل سقوطها وعودتها مرة أخرى للأرض. مما يعني أن الضرر الحقيقي لهذه الأسلحة “لا يمكن في الحقيقة التنبؤ به”.
وختامًا، فإن البت في احتمالات وقوع انفجار نووي من عدمه تظل مسألة صعبة في غضون حرب جارية لا يمكن التنبؤ بنهاياتها أو شكل تطوراتها بعد. وبينما تذهب ترجيحات البعض إلى أن هذا النمط من الحروب مستبعد، فإنه يظل هناك احتمال انفلات الأمور عن زمام المحسوب وحدوث أخطاء غير مدروسة، خاصة وأن الحرب نفسها بصفتها عملية قائمة على قرار نابع عن عقلية بشرية تخطئ وتصيب، تكون هي نفسها بطبيعة الحال عملية تتخللها أخطاء قد تصبح في أحيان كثيرة “فادحة”، خاصة في ظل التوترات المحدقة بالمحطات النووية الواقعة في مناطق الصراع، مثل ما يجري في محيط محطة “زابوريجيا” النووية.
باحث أول بالمرصد المصري