أوروبامصر

استدعاء الصداقة … خلفيات توثيق العلاقات بين القاهرة وبلجراد

ربما لا يخفى على أي مصري العلاقة القوية التي جمعت بين مصر ويوغوسلافيا خلال حقبة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر والزعيم اليوغسلافي جوزيف تيتو، والتي رسمت حدود إقليمية ودولية مهمة -بمعية الهند- أفضت إلى تكوين كيان من أهم الكيانات الدولية التي نشأت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهي “حركة عدم الانحياز”، التي رسخت مبدًا مهمًا من مبادئ العلاقات الدولية، وهو مبدًا “الحياد الإيجابي” الذي يوفر لأي دولة فرصة التعاطي مع كافة الدول الإقليمية والدولية بصورة ندية وموضوعية، دون الحاجة إلى اتخاذ موقف منحاز إلى هذه الدولة او تلك، وبالتالي تتجنب تلك الدول -وهي في مجملها من دول العالم الثالث- وقوعها تحت وطأة ضغوط القوى الكبرى، وفي نفس الوقت منحت هذه الدول الفرصة للاستفادة من الفرص المتاحة من تعاونها مع دول “عدم الانحياز” الأخرى.

مواقف يوغسلافيا مع مصر خلال حقبة الستينيات كانت عنوانًا لهذه العلاقة المميزة مع مصر، وبلغت حدًا كانت فيه بلجراد من اوائل العواصم الدولية التي أدانت العدوان الإسرائيلي على مصر وسوريا عام 1967، وبادرت خلال حرب أكتوبر بتزويد الجيش المصري بأعداد من الدبابات والأسلحة الخفيفة، لتظل العلاقات بين بلجراد والقاهرة تتمتع بزخم مستمر كانت لها آثاره على التعاون السياسي والاقتصادي بينهما، دام حتى انهيار الاتحاد اليوغوسلافي، والذي تم على مراحل، بداية من استقلال البوسنة والهرسك، وحربها مع صربيا، وصولًا إلى حرب إقليم كوسوفو عام 1999.

بطبيعة الحال، تأثرت علاقة مصر بيوغسلافيا خلال تلك الفترة، وتراجع التعاون بين الجانبين بشكل كبير نتيجة لإرهاصات هذه الحروب، لكن عاد الجانبان إلى تفعيل العلاقة بينهما -بشكل مبدئي- عبر بدء تواصل مسؤولي مصر وجمهورية “صربيا والجبل الأسود” عام 2005، عبر أربعة لقاءات، الأول تم في شهر يناير، ووقع خلاله مساعد وزير الخارجية المصري للشؤون الأوروبية في العاصمة الصربية، بروتوكول للتشاور السياسي بين مصر وصربيا، ليتم بذلك استئناف التواصل على المستوى السياسي والدبلوماسي بين الجانبين. اللقاء الثاني كان في شهر مايو، خلال زيارة وزيرة التعاون الدولي الصربية إلى القاهرة، وهي الزيارة التي تم خلالها التوقيع على اتفاقية تشجيع وحماية الاستثمارات.

اللقاء الثالث بين الجانبين تم في شهر يوليو من نفس العام، التقى خلاله وفد برئاسة وزير العلاقات الاقتصادية الصربي، عدة وزراء مصريين في العاصمة القاهرة، ووقع معهم اتفاقات اقتصادية أهمها اتفاقية لمنع الازدواج الضريبي. اللقاء الرابع والأهم خلال هذا العام، تم خلال زيارة وزير الخارجية الصربي إلى القاهرة في شهر نوفمبر، وتم خلاله التوقيع على اتفاقية تنظم التزام الطرفين بالاتفاقيات التي كانت موقعة بينهما خلال حقبة ما قبل انهيار الاتحاد السوفيتي. عام 2010 شهد توقيع حزمة أخرى من الاتفاقيات بين الجانبين، شملت مذكرات تفاهم في المجال الدبلوماسي والاقتصادي والعلمي والسياسي والجوي والبيطري، بجانب اتفاقية للتعاون في مجال الثروة المعدنية.

في فترة ما بعد ثورة 30 يونيو في مصر، عادت بلجراد إلى محاولة استطلاع امكانية استئناف تحسين العلاقات بينها وبين مصر، فزار مساعد وزير خارجيتها لشؤون التعاون الثنائي، جوران اليكسيش، القاهرة في أغسطس 2013، سلم خلالها وزير الخارجية المصري رسالة من الرئيس الصربي، توميسلاف نيكوليتش، إلى المستشار عدلي منصور، احتوت على بنود تؤكد على اهتمام صربيا بتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين في مختلف المجالات، وعن استعداد بلجراد لدعم مصر خلال المرحلة الانتقالية آنذاك.

العودة إلى إرث الماضي بين القاهرة وبلجراد

تبدو مصر منذ عام 2014، في طور الاستدعاء التدريجي للعلاقات القوية السابقة مع يوغسلافيا، أو بشكل أدق مع وريثتها الشرعية “صربيا”، وهو ما تحصد ثماره اليوم عبر الزيارة المهمة التي قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى العاصمة الصربية، وهي الأولى لرئيس مصري إلى هذا النطاق المهم من نطاقات البلقان منذ نحو 35 عامًا. هذه الزيارة يمكن عدّها بمثابة تدشين فعلي لعودة العلاقات بين الجانبين إلى مستويات تقارب إلى حد كبير علاقات الصداقة والتحالف التي جمعت بين مصر ويوغسلافيا، خلال حقبة مهمة من حقب التاريخ المعاصر.

الجانب السياسي والدبلوماسي كانت نقطة البداية في هذا المسار، ففي سبتمبر 2014، التقى الرئيس السيسي -للمرة الأولى- بنظيره الصربي، تيموسلاف نيكوليتش، على هامش أعمال الدورة التاسعة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة، وحينها توافق كلا الجانبين على أهمية توثيق التعاون الثنائي في المجالات ذات الاهتمام المشترك، ومن بينها الصحة والزراعة وصناعة الدواء، فضلًا عن أهمية الحفاظ على دورية عقد اللجان الاقتصادية والثقافية والعملية المشتركة بينهما. 

هذا اللقاء تلته على مدار السنوات اللاحقة لقاءات أخرى بين السيسي والرؤساء الصرب خلال دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث التقى السيسي نيكوليتش مرة اخرى عام 2015، والتقى عام 2017 بخلفه ألكسندر فوتشيتش، وهي لقاءات كانت لها آثار واضحة على تطور العلاقات بين الجانبين على كافة المستويات.

التواصل الدبلوماسي بين الجانبين استمر منذ ذلك التوقيت، سواء عبر زيارات الوزراء المصريين إلى بلجراد، مثل زيارة وزير الخارجية المصري إلى بلجراد عام 2018، أو استقبال القاهرة لمبعوثي الرئيس الصربي. يضاف إلى ذلك تأسيس كلا الجانبين عام 2018، مجموعة للصداقة البرلمانية، مهدت لسلسلة من الزيارات البرلمانية المتبادلة، على رأسها زيارة رئيس مجلس النواب المصري إلى بلجراد عامي 2018 و2019، وافتتاحه معرض للوثائق التاريخية الخاصة بالعلاقات الدبلوماسية بين البلدين، داخل مقر البرلمان الصربي.

يلاحظ هنا أن الزيارات المتبادلة بين الجانبين قد ارتفعت وتيرتها بصورة ملحوظة منذ أوائل عام 2021  وحتى الآن، بفضل النشاط الملحوظ للسفير المصري السابق في بلجراد، السفير عمرو الجويلي، والسفير الحالي، باسل صلاح، سواء عبر التواصل المستمر مع الرئيس الصربي ورئاسة الوزراء الصربية، وكذا وزراء السياحة والاقتصاد والنقل والصحة والثقافة والطيران المدني، أو زيارة البرلمان الصربي، ناهيك عن استقبال وزير الخارجية المصري نظيره الصربي في أغسطس الماضي، وهو استقبال مهد بشكل كبير لزيارة الرئيس السيسي الجارية إلى بلجراد.

تطوير الجوانب الاقتصادية والثقافية في علاقة القاهرة وبلجراد

التحسن المطرد في الجانب السياسي من العلاقات بين الجانبين، ألقى بظلاله على الجوانب الاقتصادية والثقافية من هذه العلاقة، على أساس أن القاهرة تعتبر المحطة الأفريقية الوحيدة لصربيا داخل القارة السمراء، في حين تعد بلجراد المحطة الوحيدة لمصر في البلقان. لذا كان من أهم النتائج التي ترتبت على إيجابية العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وبلجراد، استئناف الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين في يونيو 2019، بعد تعليق دام ثلاثة عشر عامًا لأي انشطة جوية بين مطاري البلدين. 

هذه الخطوة، التي جاءت بعد مفاوضات تمت على مدار عامين، عُدّت حينها مؤشرًا على المنحنى التصاعدي للعلاقات بين الجانبين، خاصة أنها تضمنت مباحثات موسعة تمت بين وزارات الخارجية والسياحة والتجارة والصناعة، وممثلي مؤسسات الأعمال بالقطاع الخاص من كلا الجانبين.

بطبيعة الحال، كان لهذه الخطوة تأثير على التبادل التجاري وقطاع السياحة، فقد بات السائح الصربي قادرًا على الوصول إلى مصر بشكل مباشر بدلًا من اللجوء للسفر إليها عبر دول أخرى مثل رومانيا. القاهرة من جانبها عملت على دعم العلاقات مع المقاطعات والمدن الصربية الرئيسية، لفتح المجال للترويج للسياحة المصرية، لذا أقامت اتفاقيات للتوءمة بين المدن المصرية والصربية، مثل الاتفاقية الموقعة بين مدينة شرم الشيخ ومدينة “نيش” الصربية، والاتفاقية الموقعة بين مدينة مرسى علم المصرية ومدينة “ياجودينيا” الصربية. 

يضاف إلى ذلك عدة رحلات قام بها مسؤولون مصريون إلى صربيا، للترويج للمواقع الأثرية المصرية، مثل الرحلة الترويجية التي قامت بها نائبة وزير السياحة والآثار، غادة شلبي، في ديسمبر 2020، إلى صربيا، والجولة التي قام بها محافظ جنوب سيناء في يوليو 2021 في عدة مدن صربية، خاصة مدينة “نيش”، التي تتميز بموقع جغرافي متميز، يعزز من فرص السياحة الإقليمية من الدول المجاورة في إقليم البلقان نحو مصر.

يلاحظ أن التعاون بين الجانبين في المجال الثقافي، يشهد تطورات لافتة خلال الفترات الأخيرة، وتحديدًا منذ دعم بلجراد عام 2017، ترشح السفيرة مشيرة خطاب لليونسكو. من أمثلة ذلك مشاركة مصر في معرض بلجراد الدولي للكتاب كضيف شرف في أكتوبر 2019، تلبية لدعوة من صربيا، مرورًا بتعاون الجانبين في مجال المكتبات والترجمة، ضمن حملة مصرية تمت تسميتها “صربيا تقرأ بالعربية”، تضمنت إنشاء أقسام للكتب المصرية بعدد من المكتبات العامة والمتخصصة في صربيا، واستكمال الترجمات المتبادلة بين الهيئة وعدد من الناشرين الصرب، وصولًا إلى تنظيم مصر عدة فعاليات موسيقية وثقافية مصرية في عدة مدن صربية، خلال عامي 2021 و2022.

على المستوى التجاري، أطلقت القاهرة وبلجراد عام 2017 جولات من المباحثات بين رجال الأعمال من كلا الجانبين، تكرست عبر تأسيس مجلس الأعمال المصري- الصربي المشترك، والذي يعمل بشكل دوري على بحث التعاون في مجال استيراد وتصدير الأثاث والأخشاب، وصناعة الأغذية والسيارات والملابس والكيماويات الوسيطة، وهو مسار مستمر حتى الآن لزيادة حجم التبادل التجاري بين الجانبين، والذي يبقى في حدود أقل بكثير من الحدود المستهدفة. تعد الخضراوات والمواد الوسيطة في صناعة الأخشاب من أهم بنود الصادرات المصرية إلى صربيا، في حين تستورد مصر منها بعض أنواع الأخشاب، بجانب المواد المتعلقة بصناعة السيارات، وكذا بعض أنواع المعدات الزراعية مثل الجرارات.

علاقات عسكرية واعدة بين صربيا ومصر

تحتل صربيا، على مستوى الصناعات العسكرية، مكانة مهمة على المستوى الدولي، وكان واضحًا خلال السنوات الأخيرة، رغبتها القوية في التعاون مع مصر في المجال التسليحي. هذا يتضح بشكل أكبر من خلال التواصل المستمر بين القادة العسكريين والمدنيين المصريين، مع القيادات العليا في أكبر الشركات الصربية العاملة في مجال التصنيع العسكري، فقد التقى وزير الدولة السابق للإنتاج الحربي، محمد سعيد العصار، مرتين عامي 2017 و2019، بالمديرين التنفيذيين لشركة “يوجو إمبورت”، إحدى أكبر الشركات الصربية العاملة في مجال تصنيع الأسلحة.

يضاف إلى هذه الشركة شركة “ترايال” الصربية، التي التقى كبار قادتها مع محمد أحمد مرسي، وزير الدولة للإنتاج الحربي، في نوفمبر 2020، وهي من أقدم الشركات الصربية العاملة في مجال تصنيع منتجات المطاط والكيماويات وتصنيع الإطارات ومعدات الحماية للأفراد والمتفجرات الصناعية والقنابل المسيلة للدموع، وحينها كان النقاش دائرًا حول توطين بعض الصناعات الصربية الخاصة بالمجال العسكري في مصر. 

الوزير محمد أحمد مرسي عاد والتقى مع مدراء شركة صربية أخرى، وهي شركة “إي دي برو”، خلال زيارتهم جناح وزارة الإنتاج الحربي في معرض “أيديكس” الإماراتي عام 2021، وهي احدى الشركات المتخصصة في مجال صناعة الذخائر والمحركات.

التعاون العسكري بين الجانبين انتقل لمرحلة جديدة في يوليو 2021، بتوقيعهما بروتوكول تعاوني في المجال العسكري، خلال زيارة وزير الدفاع الصربي، نيبوشا ستيفانوفيتش، إلي القاهرة، للمشاركة في الاجتماع الثالث عشر للجنة التعاون العسكري مصر وصربيا، وهو الإطار الأساسي للتعاون بين الجانبين في هذا المجال، علمًا بأن هذا البروتوكول، تم الانتهاء من صياغته أوائل عام 2010.

جدير بالذكر أن الشركات الصربية كانت حاضرة في معرض “إيديكس” للصناعات الدفاعية الذي أقيم في القاهرة أواخر العام الماضي، وعلى رأسها شركة “يوجو”، التي تعد من أهم الشركات الصربية العاملة في مجال الصناعات العسكرية، وتشمل منتجاتها كافة أفرع التسليح العسكري. عرضت الشركة في جناحها مجموعة من أبرز منتجاتها، على رأسها المدفع ذاتي الحركة “نورا-بي52 كي”، والصاروخ الكتفي المضاد للدروع “POS 145″، وصواريخ “مالوتيكا-2” الموجهه بالسلك المضادة للدروع، بجانب عدة أنواع من ناقلات الجند، من بينها الناقلة “لازار-3”.

خلاصة القول إن بواعث زيادة القاهرة وتيرة التواصل مع بلجراد تأتي نابعة من سياستها المتبعة منذ عام 2015 تجاه هذا البلد المهم في منطقة البلقان، وتتفرع إلى عدة أهداف منها ما هو سياسي يتعلق بإيجاد نقطة تمركز دبلوماسية مصرية في هذا النطاق الجغرافي المهم، ومنها ما هو اقتصادي يتعلق بفتح أسواق جديدة في صربيا ومحيطها، وتطوير التعاون معها في مجال السياحة والطيران المدني والنقل النهري، وغيرها من المجالات، ومنها ما هو عسكري، تستفيد فيه مصر من الخبرة الصربية الكبيرة في مجال التصنيع العسكري، سواء في ما يتعلق بإعادة تأهيل، وتطوير الأسلحة ذات المنشأ الشرقي، أو  الانتقال إلى مستويات أكبر في مجال التصنيع العسكري، خاصة فيما يتعلق بنقل تقنيات تصنيع الطائرات والمدفعية الثقيلة، وهو ما يأتي في سياق السياسة المصرية التي ظهرت نتائجها خلال معرض “إيديكس” للصناعات الدفاعية، وبالتالي يتوقع في القريب العاجل أن نشهد تعاونًا كبيرًا بين مصر وصربيا في هذا المجال تحديدًا.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى