
قدوة بوتين.. من هو بطرس الأكبر؟
أثار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نقاشًا سياسيًا وتاريخيًا وثقافيًا، وذلك في الاحتفالية الروسية بالذكرى الــ 350 لميلاد الإمبراطور الروسي بطرس الأكبر الذي يعد وكاترين العظيمة أهم قياصرة روسيا ومؤسسي الحداثة الروسية في وجه الاتهامات الثقافية الأوروبية لروسيا بعدم الالتحاق بعصور الإصلاح والنهضة والتنوير الأوروبية.
ولد بطرس الأكبر في 9 يونيو 1672، هو ابن القيصر اليكسي الأول بن ميخائيل رومانوف (ميخائيل الأول)، وميخائيل الأول هو مؤسس أسرة آل رومانوف التي حكمت الإمبراطورية الروسية خلفًا لـ آل روريك منذ عام 1613 وحتى انهيار حكم الإمبراطورية الروسية عام 1917.
في القرن السابع عشر وتحديدًا عام 1682، جرى تحول فريد في الكرملين؛ إذ للمرة الأولى والأخيرة في تاريخ روسيا القيصرية يعتلي العرش أخوان، هما بطرس الأول (الأكبر لاحقًا) وإيفان الخامس، وكلاهما ابن الإمبراطور أليكسي الأول، ومع ذلك كانت أختهم صوفيا هي الحاكمة الفعلية حتى عام 1689، قبل أن يتمكن بطرس من إزاحة أخيه إيفان من العرش عام 1694 ويعلن قيام الإمبراطورية رسميًا. وفي عام 1696، توفي إيفان فانتهت فكرة النزاع على العرش بين الأخوين.
يعد بطرس الأكبر مؤسس النهضة الروسية الحديثة، فكان يرى روسيا جزءًا من الأمة الأوروبية، ويرى حتمية تحويل روسيا إلى دولة صناعية لا زراعية تملك جيشًا قويًا، وبدأ في تأسيس جيش وطني من أبناء البلد؛ فأدخل نظام التجنيد، وأنشأ البحرية الروسية، وأسس نظرية التحالف بين روسيا وأوروبا من أجل تطويق الدولة العثمانية.
أكبر عقبة واجهت بطرس أثناء تأسيس الجيش الروسي النظامي هو قوات ستريليتس Streltsi العسكرية والتي كانت تشبه الإنكشارية في الدولة العثمانية أو المماليك في مصر في زمن محمد علي، حيث تأسست عام 1545 ولعبت دورًا كبيرًا في الحياة العسكرية الروسية منذ هذا التاريخ، ووصل عددها إلى 55 ألف مقاتل منهم 23 ألف مقاتل متمركزين في موسكو العاصمة.
بدأ تمرد ستريليتس مبكرًا خلال القرن السابع عشر بالانتفاضة ضد الإقطاعيين، ثم بدأ الستريليتس في ثورتهم الخالصة عام 1682 فيما أطلق عليه تاريخيًا انتفاضة موسكو 1682، وكان بطرس الأكبر وقتذاك يبلغ من العمر عشر سنوات فحسب، وتقف هذه الاضطرابات وراء الترتيب غير المسبوق في العرش والحكم الذي جرى في البلاط الروسي، وأخمد النبلاء تلك الانتفاضة بعد الترتيبات التي جرت داخل الأسرة الحاكمة.
حينما تولى بطرس الأكبر السلطة منفردًا وبدأت إصلاحاته الاجتماعية والعسكرية تفصح عن نفسها، ظهر تيار رجعى داخل المجتمع والميلشيات العسكرية مضاد للحداثة التي أرادها بطرس الأكبر، وتجمعت الأسباب الكافية لقيام ثورة من غضب ستريليتس ضد الإقطاع الروسي، بالإضافة إلى غضب المجتمع وبعض النبلاء، بل وحتى ولي العهد أليكسي من إصلاحات والده.
وتواصل ستريليتس مع الأميرة صوفيا المحدد إقامتها في أحد الأديرة، وقبل ولي العهد بقيادة الثورة التي اندلعت عام 1698، ولكن بطرس الأكبر أظهر الوجه العنيف، فلم يرحم أحدًا، وأعدم ابنه، وقام بنفسه بتعذيب وقتل رجالات ستريليتس في الميادين العامة في موسكو، حتى أخمد الثورة التي قامت ضده، بعد أن أثبت للعسكرية الروسية والنبلاء الروس أن وجهه الإصلاحي ليس ضعفًا بل يوجد خلفه رجل دولة حازم يمكن أن يجتاح العمل السياسي وقتما يشاء.
حرب الشمال العظمى
بدأ بطرس في حربه لاستعادة الأراضي التي خسرتها روسيا امام السويد في السابق، وذلك بمنطقة بحر البلطيق، وقد استمرت الحرب 21 عامًا ما بين عامي 1700 و1721، وقد تحولت إلى حرب إقليمية، حيث دخلت بريطانيا والعثمانيين الحرب بجانب السويد، إضافة إلى كومنولث بولندا، وبقايا حكم التتار المسلمين وتحديدًا “خان القرم” و”خان القوقاز”، إضافة إلى امارة والشيا الواقعة اليوم ضمن جمهورية رومانيا.
أما روسيا فقد انضمت لها مولدوفا والدانمارك والنرويج، إضافة إلى بعض الإمارات الألمانية وعلى رأسها بروسيا وساكسونيا وهانوفر. وانتصرت روسيا وحلفاؤها في الحرب، وحصلت روسيا وبروسيا وهانوفر والدنمارك على أراضٍ جديدة في شرق أوروبا، ولكن ما ميز تلك الحرب في تاريخ روسيا وجعل بوتين يستشهد بها هو أنها جعلت البلطيق تحت السيطرة الروسية منذ عصر بطرس الأكبر وحتى تاريخ تفكيك الاتحاد السوفيتي عام 1991.
وما ميز هذا الانتصار الروسي وجعله حاضرًا في الحرب الأوكرانية الجارية اليوم أن المنطق الروسي في كليهما كان متطابقًا؛ إذ ذهب بطرس الأكبر إلى الشمال بدعوى أنه يستعيد الأراضي التي انفصلت عن روسيا حينما سادت اضطرابات ما بعد وفاة القيصر عام 1584، وهي مرحلة الاضمحلال الروسي التي لم تنته إلا مع تولي ميخائيل الأول السلطة عام 1613، وفى تلك المرحلة توسعت السويد وبولندا على حساب روسيا؛ استغلالًا للاقتتال الداخلي على السلطة بين النبلاء الروس.
لهذا السبب ينظر بوتين إلى ما فعله بطرس الأكبر اليوم بوصفه قدوة له؛ إذ إن بطرس الأكبر حينما ذهب إلى البلطيق شمالًا كان يسترد ما ذهب من روسيا في فترة الانهيار ما بين آل روريك وآل رومانوف، تمامًا مثلما تنظر روسيا الاتحادية اليوم إلى الحرب الأوكرانية بوصفها ليست غزوًا ولكن –من وجهة نظر الكرملين– هي استعادة ما انفصل عن روسيا في فترة الاضمحلال التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي.
وبالعودة إلى ما قاله بوتين لمجموعة من رواد الأعمال الشباب في سانت بطرسبرج نجد هذا التأثير واضحًا، فيقول الرئيس الروسي: “زرنا للتو معرضًا مخصصًا للذكرى الـ 350 لولادة بطرس الأكبر. إنه أمر مدهش، وكأن شيئا لم يتغيّر، بطرس الأكبر خاض حرب الشمال على مدى 21 عاما. يسود انطباع بأنه من خلال حربه ضد السويد استولى على شيء ما. هو لم يستولِ على أشياء بل استعادها.. كان علينا أيضا أن نعيد ما هو لروسيا ونقوي الدولة.. عندما أسس بطرس الأكبر مدينة سانت بطرسبرج لم تعترف أي دولة في أوروبا بهذه المنطقة على أنها تابعة لروسيا.. إذا انطلقنا من حقيقة أن هذه القيم الأساسية تشكل أساس وجودنا، فسننجح بالتأكيد في حل المهام التي تواجهنا”.
روسيا الأوروبية
أمّن بطرس بهذه الحرب وصول روسيا إلى خليج فنلندا، وهناك قام ببناء العاصمة الروسية الجديدة سان بطرسبرج لتحل محل موسكو التي طالما كانت المركز الثقافي في روسيا. وسعى بطرس الأكبر إلى سياسة “روسيا الأوروبية” وليس “روسيا عدو أوروبا”؛ فسارع إلى الانضمام إلى الحلف المسيحي المقدس الذي أسسه البابا اینوسنت الحادي عشر لفرملة الانتصارات العثمانية في جنوب شرق أوروبا وفك الحصار عن فيينا فيما يعرف بالحرب العثمانية الكبرى (1683 – 1699) وما لحقها من الحرب الروسية – العثمانية الثالثة (1686 – 1700) والرابعة (1710 – 1711).
وقد أسهمت روسيا في هزيمة العثمانيين في عصرهم الذهبي، فكان فك حصار فيينا هو انتكاسة تاريخية للعثمانيين، وانتهاء الحقبة الذهبية للانتصارات العثمانية على جيرانهم الأوروبيين. وحاربت روسيا في الحرب العثمانية الكبرى جنبًا إلى جنب مع القوى العظمى في أوروبا وقتذاك، ممالك إسبانيا والنمسا والمجر وبولندا، إضافة إلى جمهورية فينسيا (البندقية) التي تعد أهم دولة إيطالية في هذا العصر.
ارث بطرس الأكبر
لم يكتف بطرس بإلغاء ظاهرة الميلشيات خارج الجيش، أو وضع روسيا على خارطة الدول الكبرى دوليًا وأوروبيًا، وترتيب الأسرة الملكية، ولكنه أسس شكل الدولة الروسية القيصرية والذي استمر لسنوات طويلة، خاصة فيما يتعلق بالتوازن مع الجار العثماني، فافتتح مبدأ قيام أوروبا بدعم روسيا من أجل تفكيك هيمنة الجار العثماني على أوروبا الشرقية والوسطى.
وتوفى بطرس في 8 فبراير 1725 وخلفه على العرش زوجته الإمبراطورة كاترين الأولى، ثم اثنان من أحفاده هما بطرس الثاني والثالث، قبل أن تتولى كاترين الثانية (العظيمة) زوجة بطرس الثالث حفيد بطرس الأكبر عرش روسيا وتكمل المسيرة التاريخية لبطرس الأكبر.
باحث سياسي