الأزمة الأوكرانيةروسيا

بعد أن شبّه نفسه بالقيصر بيتر العظيم.. كيف نفهم تهديدات بوتين للسويد وفنلندا؟

تعيش دول بحر البلطيق بالإضافة إلى الدول الاسكندنافية مخاوف متنامية منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير من العام الجاري. ومن الأجدر القول إنه مثلما جلبت الحرب العنف إلى دولة أوروبية، فإنها بالمثل تكون قد حملت معها درجة من القلق والمخاوف باتت تؤرق مضاجع قادة أوروبا الذين لطالما ظنوا أن حالة السِلم لن تنتهي أبدًا، وأن الصراعات المسلحة والعنيفة من هذا النوع ستظل مدى الحياة حبيسة القارة الأفريقية ودول النزاع في الشرق الأوسط. ومن هذا المنطلق وفي ضوء الحرب المستعرة، نبحث الآن في مدى جدية التهديدات المبطنة التي أرسلتها روسيا مؤخرًا بشكل غير مباشر لكُل من السويد وفنلندا، في محاولة للإجابة عن سؤال حول كيف نفهم رسائل الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” الأخيرة للبَلدان؟

تصريحات بوتين المثيرة للجدل

التقى الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، الخميس 9 يونيو، مجموعة من رواد الأعمال الشباب في موسكو. وألقى في هذه الأمسية عددًا من التصريحات المهمة التي أثارت الجدل ورأتها صحف غربية تهديدًا مبطنًا للسويد وفنلندا؛ فقد شبه “بوتين” نفسه بالقيصر “بيتر العظيم”، وقال “بيتر الأكبر شن حرب الشمال لمدة 21 عامًا، ويبدو أن هناك اعتقاد بأنه قاتل مع السويد واستولى على شيء ما منها، لكنه لم يستول على شيء، فهو استعاد [الأرض] فقط”.

وأعاد “بوتين” إلى الأذهان ذكرى تاريخ الأرض التي تأسست عليها مدينة سانت بطرسبرج الروسية، والتي كانت فيما مضى جزءًا من الأراضي السويدية. وقال “بوتين”: “عندما تأسست مدينة سانت بطرسبرج، عندما أسس العاصمة الجديدة، لم تعترف أي دولة أوروبية بهذه المنطقة على أنها روسية، الجميع اعترف بها على أنها السويد، وعاش السلاف هناك منذ زمن سحيق مع الشعوب الفنلندية الأوغرية. وكانت هذه المنطقة تحت سيطرة الدولة الروسية”.  

واستطرد “بوتين”، مُتابعًا، “لم يكن يستولي على أي شيء بل كان يستعيدهم”. وأشار “بوتين” في حديثه إلى معركة “نارفا”، وهي المعركة الافتتاحية التي وقعت في إستونيا الحديثة، 30 نوفمبر 1700، ثم طرح تساؤلًا حول “لماذا ذهب إلى هناك؟ لماذا؟ لقد ذهب إلى هناك لاستعادتها وتقويتها، هذا ما كان يفعله”. وقال، “لقد تحتم علينا أن نستعيدها ونقويها، وإذا أخذنا هذه القيم على أنها أساسية لوجودنا فسننتصر في القضايا التي نواجهها”. 

ومن ناحية أخرى، تحدث “بوتين”، قائلاً، “إن أي دولة، أي أمة، أي مجموعة عرقية تدعي القيادة، يجب أن تضمن سيادتها أولاً”. وتابع مؤكدًا أنه إما أن تكون الدولة ذات سيادة أو مستعمرة، لا توجد دولة وسيطة. وقال بوتين، “إذا كانت دولة أو مجموعة من البلدان غير قادرة على اتخاذ قرارات سيادية، فهي بالفعل مستعمرة بدرجة معينة. بعد كل شيء، ليس للمستعمرة مثل هذه الآفاق التاريخية، وليست هناك فرصة للبقاء على قيد الحياة في مثل هذا الصراع الجيوسياسي الأصعب”. 

رسائل “بوتين” بين السطور

قبل أن ننظر في انعكاسات تصريحاته على الأوضاع السياسية التي يشهدها العالم حاليًا بكل ما فيها من متغيرات متسارعة، ينبغي -قبل أي شيء- إلقاء نظرة تاريخية على شخصية قيصر روسيا، “بيتر العظيم”، وحجم إنجازاته التي يتباهى بها “بوتين”، أثناء مقارنته لنفسه به، ولماذا هذا التشبيه.

أولاً: حَكم القيصر الروسي “بيتر العظيم” في الفترة ما بين “1672- 1725”. ويعرّفه تاريخ بلاده بوصفه واحدًا من أعظم حُكام روسيا؛ فقد حكم مملكة مترامية الأطراف، ونجح خلال حكمه في إخضاع أطراف إستونيا ولاتفيا وفنلندا، ومن ناحية الجنوب أمّن طريق الوصول للبحر الأسود بعد أن خاض حروبًا عديدة مع تركيا. وشهد العام 1709، انتصاره الساحق على الجيش السويدي بعد أن أوقعت قواته السويديين في مصيدة شتاء روسيا وقضت عليهم تمامًا في مدينة بولتافا. 

ثانيًا: يتحدث “بوتين” هذه المرة، ليس عن حقوقه التاريخية في أوكرانيا كما جرت العادة من حينٍ إلى آخر طوال سنوات حكمه الماضية. بل يتحدث عن امتداده التاريخي في بقاع أخرى جديدة. يريد “بوتين” أن يقول للسويد وفنلندا إنه من الضروري عليهما الابتعاد عن الناتو وعدم الإصرار على استفزاز روسيا، وإلا ستكون مبررات غزوهما موجودة بنفس الطريقة التي حدثت مع أوكرانيا بعد الانتهاء من هذه المعركة. 

ثالثًا: إن “بوتين” لا يُبالغ في تشبيه نفسه بـ “بيتر العظيم”؛ إن هذه في الحقيقة تكون هي صورته عن نفسه، وهدفه الأسمى، والطريقة التي يود أن تُكتب بها مسيرته في التاريخ الروسي بعد رحيله عن السلطة في الكرملين من جهة، وعن الحياة برمتها من جهة أخرى. يريد أن يُعرفه التاريخ بصفته الرجل الذي استعاد مجد روسيا، الرجل الذي استعاد أراضيه المفقودة بسبب أخطاء السوفييت. 

والجديد هذه المرة أنه لا يشرح للناس سبب خوضه الحرب في أوكرانيا فحسب، بل أنه يبعث رسائل للسويد وفنلندا في المقام الأول، ودول بحر البلطيق في المقام الثاني، بضرورة الكف عن مد أي نوع من أنواع العون لأوكرانيا، لأنها أرضه التي لن يتنازل أبدًا عن فكرة الحصول عليها كاملة. 

نُلاحظ أيضًا، في غضون ذلك، تحديدًا يوم 8 يونيو، أي قبل تصريحات “بوتين” بيوم واحد فقط، أن النائب الروسي “يفجيني فيدوروف” في مجلس الدوما تقدم بمشروع قرار يلغي اعتراف روسيا باستقلال ليتوانيا بحجة انتهاك هذا الاعتراف للقانون السوفيتي. مع الأخذ في عين أن ليتوانيا كانت بدورها جزءًا من الاتحاد السوفيتي وأعلنت استقلالها عنه في مارس 1990. 

رابعًا: عندما يتحدث “بوتين” مُتباهيًا بتاريخ بلاده العريق وخبراتها الممتدة مع الحروب الاستنزافية طويلة الأمد، فهو بهذه الطريقة يؤكد مرة أخرى على فكرة أن طول أمد الحرب لن يضير بلاده ولن يستنزفها في شيء، لكنه على العكس سيستنزف أوروبا والغرب في المقام الأول. ويبعث كذلك برسالة مفادها أن الهدف لن يتغير مهما طال أمد الحرب وتعددت الصعوبات. 

خامسًا: فيما يتعلق بتصريحاته حول سيادة الدول المذكورة أعلاه، ينبغي هنا لفت الانتباه إلى تصريحات سابقة لرئيس مجلس الدوما الروسي، “فياتشيسلاف فولودين”، موجهًا حديثه لدول الاتحاد الأوروبي، ومطالبًا إياهم بالانسحاب من الاتحاد حفاظًا على السيادة. إذًا، “بوتين”، لا يتحدث في هذا المقطع مدافعًا عن حق بلاده في التصرف كدولة مستقلة لها سيادة مثلما كان الحال في خطابات سابقة له، بل على العكس، يُنذر أوروبا، موجهًا لها رسالة مفادها أن أي دولة تفقد بالتأكيد شرعيتها كدولة وتتحول إلى مستعمرة لو أدانت بالتبعية لطرف آخر. 

وبناءً عليه، ومن منطلق حديثه في المناسبة نفسها عن الروابط التاريخية بين روسيا ودول أوروبية مستقلة حاليًا، فإن رسالته النهائية للغرب من وراء ذلك ستكون؛ “تصرفوا كدول لها سيادة وإلا لن تستطيعوا النجاة في عالم اليوم، وستصبحون مستعمرة يجوز استردادها وضمها لدولة قوية وعظيمة مثل روسيا”. 

وردًا على سؤال ختامي حول مدى جدية التهديدات الروسية للسويد وفنلندا تحديدًا بوصفهما الدولتين الساعيتين الآن إلى الانضمام إلى حلف الناتو، عدو روسيا الأول، فإنه من الأجدر القول إن الاحتمالات تميل إلى كون جدية هذا التهديد شيئًا لا يتجاوز نسبة 10% بحد أكثر، إن لم يكن أقل؛ والأسباب وراء ذلك كثيرة، يأتي على رأسها عدم وجود عنصر ثقافي ولغوي وعرقي مشترك بين الشعوب السلافية، “روسيا، بيلاروسيا، أوكرانيا” من جهة، وبين الاسكندنافية من جهة أخرى.

ونستطيع أن نفهم من منطلق لقاءات سابقة لـ “بوتين” أنه لطالما كان مؤمنًا بفكرة العالم الروسي الموحد، ولطالما عمل على توحيد صفوفه مرة أخرى عبر سنوات حكمه الممتدة. لذلك، نميل إلى فهم تهديداته الأخيرة، كحديث يندرج تحت بند مستقبل الواقع في فترة ما بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا لصالح روسيا، وضمها بالكامل. مما ينقلنا، في هذه الحالة، إلى الحديث عن واقع جديد ينطوي على حدود روسية جديدة، تحمل معها متطلبات أمن قومي جديدة، سيأتي على رأسها مطالبة حلف الناتو بالمزيد من التراجع؛ لأن وجوده على مقربة من الحدود الروسية الجديدة سيشكل خطرًا يتطلب من موسكو ردًا حتميًا! 

وعندها، يُتخيل أن تدور العجلة الزمنية بالأحداث نفسها مرة أخرى، لذلك يستبق “بوتين” الأحداث ويُنذرهم بعدم رغبته في وجود الناتو بالقرب من حدود واقعه الجديد، لأن ضم أوكرانيا إلى روسيا من وجهة نظره بات أمرًا مفروغًا منه. وعلى هذا الأساس، هو لا يريد في الحقيقة ضم السويد وفنلندا، هو يريد فقط ألا يتقدم الناتو إلى الأمام ولا خطوة واحدة في أوروبا وفقًا لمعطيات الحدود الروسية المستقبلية الجديدة.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى