
الذهب الأفريقي: صراعات داخلية ومنافسة دولية
لطالما كانت الموارد الطبيعية مصدرًا لتنمية الدول، ولكنها في الدول الأفريقية مصدر مطمع للقوى الكبرى، خاصةً مع تراجع إجمالي الطلب العالمي على المعدن الأصفر بنحو 14% خلال 2020، مع تفاقم تداعيات فيروس كورونا، وبالتزامن مع الحرب الروسية الأوكرانية. وتستحوذ القارة على إنتاج 931 طنًا 2020، وفق البيانات المتاحة على الموقع الرسمي لمجلس الذهب العالمي؛ كيف تحول المعدن النفيس من مورد تنموي إلى مصدر نزاعات في القارة؟
الدول الأفريقية الغنية بالذهب:
سيطرت الصين وروسيا وأستراليا والولايات المتحدة ثم كندا على المراكز الخمس الأولى على التوالي عالميًا لعام 2020 لإنتاج الذهب، لتظهر الدول الأفريقية ممثلة في غانا ثم عدد من دول أمريكا اللاتينية كالبرازيل ودول آسيوية كأوزباكستان وأمريكا الوسطى في المكسيك، ثم إندونيسيا كدولة آسيوية، فيما جاءت القارة الأوروبية كأقل قارات العالم إنتاجًا بالرغم ارتفاع إنتاجها إلى 35,1 طن، مع سيطرة فنلندا والسويد على الإنتاج.
وبالرغم من تراجع جنوب أفريقيا من قائمة العشر دول الأولى المنتجة للذهب في العالم بعد جائحة كورونا، ظلت غانا الدولة الأفريقية الوحيدة في قائمة العشر الأولى بنحو 138.7 طنًا، وتلتها جنوب أفريقيا بإنتاج 99.2 طنًا، ومالي بنحو ـ93.8 طنًا، وبوركينا فاسو 93.4 طنًا، ثم السودان 83,8 طنًا، والكونغو الديمقراطية بنحو 60.9 طنًا، وغينيا 56.9 طنًا، وبابوا غينيا الجديدة 53.1 طنًا، وتنزانيا 45.9 طنًا، وزيمبابوي 40.9 طنًا، وكوت ديفوار 36.4 طنًا، والسنغال 15.8 طنًا، وموريتانيا 15.6 طنًا، ومصر 14.1 طنًا، ثم إثيوبيا 13,1 طنًا، ثم ناميبيا 8.8 أطنان، فيما باقي الدول الأفريقية 117 طنًا وفقًا للبيانات المنقولة عن الموقع الرسمي لمجلس الذهب العالمي.
الذهب.. ثروات تثير الأزمات
تشير الأرقام الدولية لعملية إنتاج الذهب العالمي إلى سيطرة الدول الصناعية الخمس الكبرى على المشاركة بقوة في أنشطة التعدين، مما يجعلها متصدرة مشهد منتجي الذهب العالمي. وتؤدي قوانين الدول غير المستقرة والفساد إلى عدم الاستغلال الأمثل من أنشطة التعدين والتي تتأثر بعدة عوامل، تتمثل في:
– غانا: الدولة الأفريقية الأولى في إنتاج الذهب أو ما يطلق عليها “ساحل الذهب”، تؤدي عملية التنقيب عن المعادن إلى تلوث 60% من المسطحات المائية في البلاد من عمليات التنقيب غير القانونية، ويقوم العمال غير القانونين باستخراج ما يقرب من 35% من الإنتاج. وتسيطر على عملية الإنتاج في البلاد الواقعة في الصحراء الكبرى غرب أفريقيا الشركات متعددة الجنسيات وخاصةً الصينية التي تقدم نسبة أرباح من 3 إلى 5%، والكندية التي شهدت حادثة نتيجة الأعمال غير القانونية في البلاد مع مطلع هذا العام، وتعاني غانا من فرض الضرائب وسياسات مالية تقرها الدولة مما يخفض جاذبيتها للمستثمرين.
– غينيا: تعاني عمليات التعدين في غينيا من خطورة نسبية لظروف العمل دون حماية تذكر، مما أسفر عن تعرض العديد من العمال لحوادث الانهيار التي أودت بحياة الكثيرين، وتنشط الشركات البريطانية بجانب مجموعة “مناجم المغربية” التي رفعت حصتها من 40 إلى 70%، عبر شراء حصص إضافية، كانت في حوزة شركة “أفوسيت مايننغ” البريطانية، والتي تنشط كذلك في كل من المغرب والجابون وجمهورية أفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو ومالي وكوت ديفوار وغينيا وإثيوبيا وبوابا غينيا الجديدة التي تمتلك واحدًا من أبرز وأكبر مناجم الذهب التي لا تزال قيد العمل “منجم ليهير” بجانب السوان.
– السودان: أشارت تقارير أممية أعدتها اللجنة الاقتصادية في أفريقيا وفريق الاتحاد الأفريقي أن السودان فقد نحو 267 طنًا من الذهب على مدار أعوام (2013 إلى 2018) بسبب التهريب. ويعمل في نشاط التعدين غير المنتظم “غير القانوني” نحو مليوني شخص، وهو ما تسبب في حدوث العديد من الكوارث الإنسانية كحادث انهيار منجم بولاية كردفان غرب السودان نتيجة الفراغ الأمني الناتج من الصراعات القبلية في المنطقة.
وتنشط الشركات الروسية هناك، وتشير التقارير الأمريكية إلى سيطرة شركة فاجنر على مناجم التعدين في البلاد، وتستخدم الحكومات الأوروبية ملف تهريب الذهب كمحاولة لفرض عقوبات جديدة على روسيا لاتهامها بالمشاركة في عمليات التهريب، وتتهم مسئوليين سودانيين بالاضطلاع في عمليات التهريب من خلال سيطرة عائلة أحد القادة العسكريين على الذهب في السودان. ووفقًا لتقارير، ضاعفت موسكو أربع مرات مقدار الذهب فى البنك الروسى منذ عام 2010، وبالتالي فاقت روسيا الولايات المتحدة لأول مرة عام 2020.
– أفريقيا الوسطى: على الشريط الحدودي بين السودان وأفريقيا الوسطى شهدت عمليات روسية للسيطرة على مناجم الذهب عقب السماح بقيام جماعة فاجنر بالتدخل الأمني مقابل الحصول على حق امتياز التنقيب في البلاد، والتي تعدت على المدنيين بحسب تقارير “موقع الدفاع الأفريقي” بقيامهم بسلسلة هجمات خلال الفترة من 14 – 18 مارس الماضي في منطقة أواندجا للتنقيب عن الذهب بأفريقيا الوسطى، والتي تستهدف مناجم الماس بشكل أكبر.
دول الساحل والغرب الأفريقي: على الحدود التشادية، شهدت منطقة مناجم الذهب بـ”منطقة كوري بوجودي” في شمال دولة تشاد مجزرة راح ضحيتها حوالي 200 مواطن في مايو الماضي. وتعاني المنطقة المتاخمة للجنوب الليبي في الجزء التشادي من صحراء تيبستي الشاسعة من غياب أمني صارخ؛ في ظل انتشار الجماعات المسلحة الباحثة عن التمويل نتيجة انتشار الجماعات المعارضة للنظام التشادي، وعادةً ما تشهد منطقة المناجم في كوري بوجودي مواجهات بين قبائل متنافسة يعيش أبناؤها في تشاد وليبيا والسودان، وهو ما دفع الجيش الليبي لتعزيز التواجد الأمني في البلاد.
وشهدت بوركينا فاسو كذلك حوادث انهيارات المناجم، ويؤدي الصراع على مناجم الذهب في كوت ديفوار والإدارة غير الشرعية لها إلى خسارة ما يقرب من 30 طنًا سنويًا، وفي تقرير “رويترز” نقلًا عن الأمم المتحدة “إن المتمردين في مالي يفرضون رسوما على تجارة الذهب في مدينة كيدال الشمالية. وفي النيجر يقول مسؤولون حكوميون إن الإسلاميين يطالبون بحصة من الذهب المنتج في غرب البلاد، وهو ما لم يستبعده مسؤولون في مالي أيضًا.” وتشير تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن المناجم غير الرسمية في بوركينا فاسو ومالي والنيجر تنتج إجمالًا حوالي 50 طنًا من الذهب تبلغ قيمتها ملياري دولار كل عام.
الصراعات المسلحة والنزاعات الطائفية:
تتشابك المناطق الأفريقية المنتجة للذهب في الحدود المتاخمة. وفي ظل التنافس الدولي على السيطرة على الموارد، كان دعم عدم الاستقرار في المنطقة هو سلاح السيطرة على الأعمال غير النظامية في القارة الأفريقية، والتي تسيطر عليها القبائل الأفريقية والجماعات المسلحة والشركات متعددة الجنسيات.
وللوصول لهذه الثروات، كان دعم جماعة فاجنر للأنظمة الحاكمة العسكرية في بوركينا فاسو ومالي، وظهور حركات مناوئة للوجود الفرنسي في تشاد، وفي المقابل دعم الحركات المسلحة لاستغلال عمليات الانفلات الامني، والنزاع بين قبائل المساليت في دارفور، والوجود في أفريقيا الوسطى والسودان، مقابل الشركات الغربية والكندية في الغرب الأفريقي والتي تنافسها الشركات الصينية، وسياسة الكيل بمكيالين لدعم التحولات الديمقراطية في حال عدم ولاء النظام السياسي للجانب الغربي، مقابل دعم عسكري روسي للانقلابات في تلك الدول الأفريقية نتيجة الانسحاب العسكري الغربي منها، وهو ما وعى له الجانب الغربي مؤخرًا من خلال تزايد عدد القوات الموالية.
وفي المقابل، تشهد تلك الدول الأكثر فقرًا في العالم والتي تعاني من أزمات الغذاء والجفاف نزاعًا على الثروة، وخاصة في دارفور السودانية نتيجة الفتن الطائفية، وكذلك استمرار الخلافات في المنطقة التي تربطها بتشاد وإثارة النزاع بين قبائل المساليت الأفريقية والقبائل العربية في محاولة لإحداث نوع من الفراغ الأمني وكذلك في منطقة كردفان السودانية. وفي شمال تشاد، تنشط الجماعات المسلحة التي تسيطر على مناجم الذهب في المنطقة التي تعاني من عدم سيطرة للجيش التشادي في الحدود الجنوبية الليبية.
عمليات التهريب وكيف نواجه التعدين غير الشرعي؟
بجانب النزاعات وعدم الاستقرار الأمني والسياسي، تشهد العمليات غير النظامية للتنقيب عن الذهب -تعد عملية الاستثمار في اكتشاف منابع للذهب جديدة مرهقة ماديًا وغير مضمونة والتي قد تأخذ عشر سنوات قبل عمليات التنقيب- تناميًا مستمرًا في ظل انتشار عمليات التهريب والتي تحقق مكاسب للجرائم غير المنظمة، في ظل ارتفاع وتغير العمليات الضريبية المفروضة على البلدان الأفريقية، مما يجعلها منطقة جاذبة للعمليات غير الشرعية لتوزيع الذهب.
وهو ما يضعنا أمام ضرورة التجريم الدولي للأنشطة العابرة للحدود، والتعاون بين الدول الأفريقية في حرية تبادل المعلومات بشأن عمليات التهريب، وتفعيل القوانين التجارية بين التكتلات الاقتصادية من خلال فرض ضرائب متقاربة تعمل على جذب الأعمال الشرعية، مقابل تقديم الحماية للعاملين في المناجم من سكان الإقليم، وحرمان الشركات التي تعمل مع الجماعات المسلحة من المشاركة في عمليات التنقيب وفرض عقوبات اقتصادية عليها.
هذا إلى جانب العمل على اتفاقيات حماية البيئة والعمالة في البلدان الأفريقية، على أن تتولّاها أجندة الاتحاد الأفريقي، مع العمل على توفير التمويل للتعدين المسؤول والخالي من الصراعات في المنطقة، وهو ما يحتاج إلى التكامل والاندماج الاقتصادي بين الدول المنتجة للذهب، في محاولة لإنهاء الصراعات الداخلية المفتعلة في أفريقيا.
باحثة بالمرصد المصري