دول المغرب العربيأوروبا

فرنسا والجزائر… بوادر انفراج الأزمة

مثٌلت المحادثة الهاتفية التي أجراها الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في التاسع والعشرين من يناير 2022، عدولًا عن حالة التصعيد التي شهدتها العلاقات منذ منتصف عام 2021، وتدفع في طريق فتح مجال لإعادة تقييم ملفات التجاذب والحساسيات السياسية التي خلفتها أزمة ذاكرة الاستعمار وحرب الجزائر، خاصة وأن تلك المحادثة هي الأولى من نوعها منذ الأزمة الدبلوماسية بين البلدين.

ولعل تلك المحادثة الرامية إلى تهدئة الوضع الثنائي لم تكن الخطوة الأولى من نوعها في خضم التوتر الحادث، بل كانت هناك خطوات أخرى تبرز أن فرنسا لا يمكن أن تتخلى بأي حال من الأحوال عن حليفها في شمال إفريقيا وشريكها الاستراتيجي في مواجهة الإرهاب داخل منطقة الساحل والصحراء، كان أهمها عودة السفير الجزائري لمباشرة مهامه في فرنسا بعد حوالي ثلاثة أشهر من استدعائه.

سياق داعم ودوافع متباينة

إن المباحثات الثنائية التي أجراها ماكرون مع الرئيس تبون لم تكن الأولى من نوعها منذ اندلاع الأزمة الدبلوماسية، بل سبقها خطوات مماثلة تستهدف بالأساس تهدئة التوترات، وبرزت بشكل كبير على خلفية التصريحات التي أطلقها الرئيس الفرنسي في نوفمبر 2021 نحو سعي فرنسا لتجاوز الأزمة والعمل على التهدئة مع الجزائر.

وأردف ذلك زيارة وزير الخارجية الفرنسي “جان لودريان” إلى لجزائر في مطلع ديسمبر 2021 لإحياء العلاقات الثنائية، ونتج عنها إعلان فرنسا رفع السرية عن أرشيف ما يسمى بالتحقيقات القضائية للحرب الجزائرية كأحد محاولات فرنسا للتهدئة مع الجزائر وإجراء مصالحة مع النظام الجزائري، وهو ما يعد تراجعًا محسوبًا في ضوء سياق متغير كالآتي:

  • الانتخابات الرئاسية الفرنسية:  لم تخلُ إجراءات التهدئة من جانب فرنسا تجاه الجزائر من حسابات الانتخابات بالنسبة للرئيس ماكرون، في ضوء اقتراب فرنسا من إجراء الاستحقاق الرئاسي المزمع عقده في أبريل القادم، الأمر الذي دفع الرئيس ماكرون إلى التراجع عن حالة التصعيد تجاه الجزائر؛ إذ إن هناك تصاعدًا لدور ووزن اليمين، خاصة وأن عددًا ليس بالقليل من المتسابقين على الانتخابات من التيار الشعبوي اليميني كما هو الحال بالنسبة لــ”إريك زمور” الذي يعد من أصل جزائري، إلى جانب عدد آخر من المرشحين ذوي الأصول الجزائرية (أرنو موتونب رئيس جمعية فرنسا الجزائر من أصول جزائرية – جاك لوك ميلانشون من أصول جزائرية).

هذا بجانب الدور الجزائري المؤثر في المشهد الانتخابي لكونها موضع الحملات الانتخابية في فرنسا، ولاعب مهم في خضم ذلك السباق الرئاسي لكون الجالية الجزائرية القوة الأولى في فرنسا بمقارنتها بمختلف الجاليات العربية ويبلغ عددها قرابة (5 ملايين ونصف)، من بينهم نحو أكثر من مليوني يحملون الجنسية المزدوجة التي تسمح لهم بالمشاركة في التصويت لاختيار الرئيس الفرنسي المقبل، وهو رقم مهم وليس بالقليل في معادلة الانتخابات، ويؤثر بصورة كبيرة في ترجيح كفة مرشح على آخر. وهناك مستجد آخر داعم لحتمية عودة العلاقات الفرنسية الجزائرية، وهو تولي باريس رئاسة الاتحاد الأوروبي وأهمية إعادة ترتيب سياساتها الخارجية ودورها في علاقات أوروبا المغاربية وجنوب الصحراء الأفريقية.

  • تزاحم دولي في الشمال الإفريقي وتراجع الدور الفرنسي: ولعل الرغبة الفرنسية في إعادة العلاقات مع الجزائر قائمة على المتغيرات الإقليمية التي حدثت في شمال إفريقيا ودائرة الساحل والصحراء، فعلى مستوى الدائرة الأولى وفي ضوء ما شهدته العلاقات المغربية الإسرائيلية من تطور غير مسبوق وصل ذروته بتوقيع اتفاقية تعاون عسكري لأول دولة إفريقية عربية تتخذ إسرائيل معها تلك الإجراء، وما يعكسه من دعم التصنيع العسكري المغربي والتعاون الاقتصادي والطاقوي المشترك بينهم، مما يؤثر على موازين القوى التقليدية بتلك المنطقة الحيوية لفرنسا، ويُحدث تقليصًا في دور باريس في تلك المنطقة.

وذلك خاصة في أعقاب تزاحم القوى الدولية داخل ذلك المسرح الاستراتيجي ومن بينها أمريكا في ضوء دعمها للتحركات الإسرائيلية وكذلك الروسية التي تسعى إلى إعادة ترتيب أوراقها على ساحل البحر المتوسط بتوطيد العلاقات مع الجزائر، فضلًا عن الصين عبر الاستثمارات والتجارة الممتدة مع تلك الدول.

لذا وفي ضوء التشابك الجزائري الفرنسي في ملف الهجرة وكذلك ملف الإرهاب في الساحل والصحراء – خاصة في ظل تأثر نشاط عملية برخان في الساحل نظرًا لإغلاق فرنسا لمجالها الجوي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية المشاركة في تلك العملية-  والملف الليبي كان لزامًا تغيير تلك النبرة التصعيدية مع الجزائر.

فمؤشر التراجع الاقتصادي الفرنسي على مستوى الشراكة مع الجزائر وليبيا وخاصة فيما يتعلق بقطاع الطاقة وتعثر عدد من المشاريع الأخرى، إلى جانب تراجع المؤشر الأمني والعسكري في ضوء اختراق روسي أمريكي إسرائيلي في تلك المنطقة، يستوجب بلورة سياسة واستراتيجية تحرك للتهدئة مع الجزائر، في إطار من لعبة الرابح –الرابح.

  • الحفاظ على الصورة الذهنية الفرنسية: إن الرغبة الفرنسية في تسويق صورة دبلوماسية الوساطة لتعميق وجودها في القارة الإفريقية، وذلك من خلال الانخراط المبكر في الصراعات داخل الدول الإفريقية كما هو الحال بالنسبة لأزمة مالي، هذا التوجه لا يمكن نجاحه بدون الاعتماد والتنسيق مع دول ذات تأثير كما هو الحال بالنسبة للجزائر والتي تُعد دولة مالي محيطها الإقليمي. وفي ضوء وساطة الجزائر داخل تلك الدولة وللحيلولة دون تفاقم الأوضاع الأمنية بالمنطقة، كان على فرنسا استمرارية التنسيق في هذا الملف مما تطلب معه حلحلة الأزمة بين الجانبين.

مصالح مشتركة ومسار التقارب

إن الجزائر وفرنسا تجمعهما مصالح مشتركة ذات طابع استراتيجي، يتمثل في العديد من الملفات أهمها رغبة فرنسا في استمرارية وضمان مصالحها في منطقة شمال إفريقيا، وعدم الإطاحة بها في الملفات الحيوية كما هو الحال بالنسبة للملف الليبي في ضوء الترتيبات والتفاهمات الأخيرة حول العملية السياسية الليبية، علاوة على ملف الإرهاب داخل الساحل والصحراء والذي تأثر على ضوء غلق المجال الجوي أمام القوات الجوية العسكرية الفرنسية المشاركة في عملية برخان داخل مسرح العمليات الأفريقي.

والجزائر بحاجة إلى إعادة تدوير ملف الصحراء الغربية بالاستناد إلى المواقف الغربية وخاصة الأوروبية منها، لإحياء قرار الأمم المتحدة نحو إقرار الاستفتاء للشعب الصحراوي، في ظل افتقاد الجزائر للموقف الألماني الذي تبدل بصورة واضحة في أعقاب تولي حكومة مستشار ألمانيا الجديد “أولاف شولتس” ودعوته للعاهل المغربي إلى زيارة برلين، مع إعلان وزارة الخارجية الألمانية بأن ألمانيا “تعتبر مخطط الحكم الذاتي بمثابة جهود جادة وذات مصداقية من قِبل المغرب وأساس جيدًا لاتفاق حول قضية الصحراء”.

تلك التصريحات تمثل اعترافًا ضمنيًا من جانب برلين بالحلول المغربية للقضية الصحراوية، يضاف إلى ما سبق من نجاحات دبلوماسية من جانب الرباط في إقرار الوضع الراهن لمسألة الصحراء، لذا فإنه من الأهمية بمكان التنسيق مع فرنسا فيما يتعلق بذلك الملف.

هذا علاوة على أن ملف مواجهة الهجرة والإرهاب واحدة من بين الملفات ذات الطبيعة المشتركة؛ فالتنسيق الجزائري الفرنسي حول ملف الهجرة بمثابة ضرورة مُلحة للجانب الفرنسي، بينما مواجهة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء وما يُمثله من ضغط على الأمن القومي الجزائري وتأثير على المصالح الفرنسية، فإن هناك احتياج متبادل بينهما فيما يتعلق بالتنسيق الاستخباراتي والعسكري والعملياتي لقوة برخان لتقويض انتشار الإرهاب في تلك المنطقة.

ومن ثٌم، يمكن القول إنه وفي ضوء المصالح المشتركة المهمة والحيوية لكل من الجزائر وفرنسا، وفي ضوء المستجدات المشار إليها أعلاه، فإن هناك حاجة إلى انتهاج سياسة أكثر تعاونًا وتفاعلًا بينهما، ولعل العلاقات التاريخية تُرسخ لهذا الطرح، خاصة وأن كل محطة تشهد توترًا يعقبها حالة من تزايد التبعية والعلاقات المتبادلة في إطار من تفاعل براجماتي تحكمه قواعد اللعبة والمصالح الاستراتيجية للجزائر وفرنسا.

وفي التقدير؛ إن سياسة المحاور التي تُشكَّل في القالب المغاربي وتزايد التجاذبات في تلك المنطقة والتقارب المتزايد للجزائر مع الصين وإيران وروسيا تُمثل تهديدًا متناميًا لأمن الضفة الأوروبية الشمالية، علاوة على أن المتغيرات الراهنة داخل فرنسا بالتزامن مع تولي فرنسا رئاسة الاتحاد الأوروبي والاقتراب من السباق الرئاسي، تُمثل ضرورات مُلحة لإعادة التهدئة مع الجزائر. ولعل إعادة تنشيط السياسية الخارجية الفرنسية في إطار شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء بات من بين أولويات فرنسا الخارجية في القارة الإفريقية، ويستند بصورة كبيرة إلى الجزائر؛ الحليف الاستراتيجي لها في المنطقة.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى