
تحالف أوكوس: عقيدة أوستن تلقي بظلالها على الشرق الأوسط
حدثان مهمان وقعا في أجزاء مختلفة من العالم خلال شهري أغسطس وسبتمبر يصفان بدقة السياسة الخارجية الأمريكية الحالية: الخروج من أفغانستان والإعلان عن الاتفاقية الأمنية الثلاثية “أوكوس AUKUS” مع المملكة المتحدة وأستراليا لمواجهة الصين. بينما ركز العديد من المعلقين بشكل أساسي على تداعيات هذه الاتفاقية على العلاقات الأمريكية الفرنسية، فقد فاتتهم الصورة الكبيرة التي تؤكد أن الولايات المتحدة منشغلة بإعادة هيكلة قوتها على الساحة العالمية، ولن تسمح لأي طرف، حتى الشركاء المقربين، بالوقوف في طريقها.

تعود جذور التطورات الحالية إلى السياسة الأمريكية طويلة المدى التي تركز على مواجهة الصين في عالم أصبح مجددًا متعدد الأقطاب. جميع المشروعات الأخرى، مثل “الحروب بلا نهاية” التي كانت تهدف وفقًا للدعاية الأمريكية في البداية إلى تعزيز بناء الدولة الديمقراطية وتغيير الأنظمة وتأمين وجود عسكري وقواعد وضمان تدفق البترول والغاز في مناطق ساخنة مثل الشرق الأوسط، تم التخلي عنها إلى حين؛ وهناك واقع جديد يفرض علينا قراءة مختلفة لكل الملفات.
في الأول من أكتوبر الماضى توجه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى العاصمة الفرنسية؛ محاولًا نزع فتيل الأزمة التي نشبت بين واشنطن وباريس في أعقاب الإعلان المفاجئ عن تحالف دفاعي ثلاثي استراتيجي “جديد” يضم أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، في البداية لبناء فئة من الغواصات التي تعمل بالدفع النووي، ولكن أيضًا للعمل معًا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ؛ إذ يُنظر إلى صعود الصين هناك على أنه التهديد المتزايد.
وهو الأمر الذي ترتب عليه أن أستراليا أنهت العقد الممنوح لفرنسا في عام 2016 لبناء 12 غواصة تعمل بالديزل والكهرباء لتحل محل أسطولها الحالي من الغواصات Collins. هذه الصفقة هي المرة الأولى التي تشارك فيها الولايات المتحدة تكنولوجيا الدفع النووي مع حليف بعيد عن المملكة المتحدة. لم يسبق للولايات المتحدة أن خرقت معاهدات الانتشار النووي إلا مع بريطانيا عام 1958 والآن مع أستراليا بتزويدها بـ 8 غواصات تعمل بالطاقة النووية ومزودة بأسلحة نووية. يوجد في العالم الآن حوالي 129 غواصة نووية تملك الولايات المتحدة منها 68 غواصة وتملك روسيا 29 والصين 12 وبريطانيا 11 وفرنسا 8 والهند 1.
وقال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس، إن “بلينكن والفرنسيين ناقشوا الأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ والأزمة المناخية والانتعاش الاقتصادي بعد وباء كورونا والعلاقة عبر الأطلسي والتعاون مع الحلفاء والشركاء لرفع التحديات واغتنام الفرص على المستوى العالمي. بينما وصف وزير الخارجية الفرنسى، جان إيف لودريان، الاتفاق حينذاك بأنه “طعنة من الخلف”.
ويبدو جليا لمن يراقب تطور الأحداث أن الولايات المتحدة لا تثق بماكرون في تعاطيه مع الملف الصيني، فقد ذكر في أكثر من مناسبة أنه يريد توجيه مسار وسط بين قوتين عظميين، متحدثًا عن أوروبا المستقلة التي تعمل إلى جانب أمريكا والصين.
“عقيدة أوستن” وإدارة المنافسة مع الحلفاء والأعداء
في سبتمبر 2020 أجرت الولايات المتحدة مناورات تجريبية لمحاكاة معارك المستقبل. ووفقًا لسيناريو تلك المحاكاة فإن الصين تتصدر كتهديد وعدو تزداد خطورته على الأمن القومي الأمريكي؛ يتصور العسكريون الأمريكيون صراعات القرن الحادي والعشرين كحروب شبكية تشن على الأرض وفي الجو، وكذلك في الفضاء والفضاء الإلكتروني. ذلك بالتوازي مع إعادة التفكير في مسارح العمليات والانتشار والخروج من مناطق صراع تراجعت أهميتها الاستراتيجية وفقًا لأولويات فرضها التهديد الصيني المتصاعد على كافة الجوانب الإقتصادية والعسكرية.
وفي أول كلمات له كوزير دفاع في إدارة الرئيس جو بايدن؛ حذر لويد أوستن من التهديدات الإلكترونية والفضائية الناشئة، إلى جانب احتمال نشوب حروب أكبر بكثير في مسارح عمليات قريبة. وقد عبرت تلك التصريحات وغيرها عن مخاوف من تنامي التحدي العسكري للصين. ودعا لويد إلى “رؤية جديدة” أو “عقيدة جديدة” للدفاع الأمريكي، محذرًا من أن النزاعات المستقبلية لن تشبه “الحروب القديمة”. ودعا إلى حشد التقدم التكنولوجي وتحسين دمج العمليات العسكرية وبناء التحالفات على الصعيد العالمي من أجل “الفهم المشترك واتخاذ القرار والعمل بشكل أسرع”.
أوستن في تلك الكلمات السريعة يقفز فوق كل الكلاسيكيات، ويشير إلى مستقبل يتجاوز التصور التقليدي للمعارك وللأعداء ولطبيعة مسارح العمليات والتكتيكات والأسلحة المستخدمة، وهو ما سيفسر لاحقًا أسباب ما يبدو للبعض انكماشًا وانسحابًا من مناطق وأقاليم، كإعادة انتشار في آفاق ومسارح جديدة، وتجنب التورط في أي صراعات مسلحة تتعارض مع المفاهيم الجديدة التي تسير في طريقها لتصبح عقيدة للجيش الأمريكي. وقد سحب أوستن ما لا يقل عن 11 بطارية صواريخ باتريوت وثاد من العراق والكويت والأردن والمملكة العربية السعودية منذ بداية إدارة بايدن.
وقد رصد محللو الدفاع الأمريكيون أن الصين تسابق الزمن في بناء مجموعة واسعة من الأسلحة المتطورة في السنوات الأخيرة، وأظهرت سلوكًا أكثر عدوانية في مطالباتها بشأن المناطق المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبى. وذلك في حين ركزت الولايات المتحدة على مدى عقدين من الزمن فيما زعمت أنه “الحرب على الإرهاب” بمواجهة الجماعات المتطرفة مثل القاعدة في أفغانستان، ومؤخرًا، تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق وسوريا، والتي أثبتت عدم جديتها وجدواها، مما أدى إلى تحول إستراتيجي بالانتقال من مكافحة الإرهاب إلى إدارة المنافسة مع القوى العالمية الكبرى.
وفى ذات الإطار؛ يأتي ما أعلنه وليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية “سي آي إيه” في 7 أكتوبر الماضى، عن إنشاء وحدة متخصصة في قضايا الصين باسم “مركز مهمة الصين”، معتبرًا في بيان رسمي أن الصين أهم تهديد “جيوسياسي” تواجهه الكتلة الغربية في القرن الواحد والعشرين، ما يستدعي ضرورة تعزيز العمل الجماعي وبناء التحالفات عبر هذه الوحدة. وأعلن بيرنز أيضًا عن إنشاء منصب مدير التكنولوجيا في وكالة الاستخبارات المركزية، ووحدة مخصصة للقدرة التنافسية الأمريكية في العالم.
يبدو من الخطوة الأمريكية والتي سبقتها خطوات أخرى أن استراتيجية واشنطن لتطويق النفوذ الصيني على المستوى الدولي مستمرة، في شكل ظهر معه أننا أمام “حرب باردة” جديدة؛ لكن الفرق هذه المرة أن الخصم الجديد وهو “التنين الصيني” أقوى بمراحل من الاتحاد السوفيتى، خاصة على المستوى الاقتصادي والتكنولوجي؛ فالصين هي الاقتصاد الثاني عالميًا بعد الولايات المتحدة الأمريكية، ومتوقع خلال 10 سنوات أن يتجاوز ناتجها القومي أمريكا وتكون القوة الاقتصادية الأولى في العالم.
لقد أصبحت أمريكا في عهد جو بايدن وبريطانيا في عهد بوريس جونسون تركزان أكثر على المخاطر التي تتعرض لها مصالحهما من قوة الصين المتصاعدة، بما في ذلك منطقة المحيطين الهندي والهادئ البعيدة -مركز الثقل العالمي للنمو الاقتصادي والتوترات الاستراتيجية على حد سواء-. وتوافق هذا مع سعي أستراليا للأمن. وهكذا، على هامش قمة كورنوال G7 في يونيو الماضي تم الاتفاق واعتماد عناصر الخطة الجديدة والمضي في الإعلان عن تحالف “أوكوس AUKUS”.
وقد جاء الإعلان عن صفقة الغواصات وسط تلك الحالة من التوتر والترقب التي تسيطر على العلاقات العسكرية الأمريكية الصينية خلال السنوات الأخيرة، إلا أن زيادة إيقاع الحركة والإصرار الصيني ساهم في التعجيل بإعلان التحالف الثلاثى. ففي يوليو الماضي، كشفت صور الأقمار الصناعية عن بناء حظائر جديدة غربي الصين، ومنها يمكن إطلاق صواريخ نووية عابرة للقارات، وقامت الصين بإنشائها في سرية تامة وبعيدًا عن أي رقابة أو شفافية دولية. ويفسر خبراء عسكريون الخطوة الصينية بأنها دليل على تصميم بكين لتحديث ترسانتها النووية بسرعة، وعلى نطاق غير مسبوق.
لذلك؛ ستكون الأولوية لدى تحالف “أوكوس AUKUS” هي تجميع الخبرة والتكنولوجيا الأمريكية والبريطانية لتطوير أسطول غواصات تعمل بالطاقة النووية لأستراليا على مدى العقود المقبلة. وهذا له أهمية كبرى لأستراليا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ومن الناحية العسكرية تكاد تكون وجودية بالنسبة لكانبيرا.
وقد جاءت هذه النقطة الفارقة أيضًا بالتوازي مع ما اعتبرته بكين تنمرًا اقتصاديًا، بعد صراحة كانبيرا في كونها أول من دعا إلى التحقيق في أصول Covid-19. وكقارة جزيرة، تعتمد على التجارة البحرية، تحتاج أستراليا إلى قوة بحرية قوية. ولكن في المجال تحت سطح البحر، وهو أمر حيوي للردع البحري وجمع المعلومات الاستخبارية.
إقليميًا؛ أثار تحالف “أوكوس AUKUS” مخاوف دول مثل ماليزيا وإندونيسيا والفلبين وفيتنام وتايلاند وكمبوديا، والتي ترى في حصول أستراليا على أسرار تكنولوجيا إنتاج وتشغيل المفاعلات النووية، وتشغيل الغواصات بالوقود النووي، مصدر تهديد إقليمي جديد، ويثير القلق بشأن التبعات البيئية لاستخدام الغواصات النووية. وردًا على إعلان تحالف “أوكوس AUKUS”، أصدرت وزارة الخارجية الإندونيسية بيانًا من خمس نقاط قالت فيه إنها “قلقة للغاية بشأن استمرار سباق التسلح وإبراز القوة في المنطقة”.
هذه التصريحات تلقي الضوء على كيفية تأثير التطورات الجديدة باتفاقية “أوكوس AUKUS” على محيطها الإقليمي. وقد قررت إندونيسيا أيضًا تعليق تعاونها العسكري مع أستراليا، وألغت اجتماعًا كان مقررًا بين وزيري دفاع البلدين. بينما رحبت اليابان بالخطوة التي ترى فيها تحجيمًا لنفوذ الصين في المناطق المتاخمة لأمنها القومي.
رد الفعل الصيني
يبدو أن بكين مع إدراكها لحجم الوجود الفعلي للأسلحة والقوات في منطقة بحر الصين الجنوبي والانتشار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ والذي سبق الإعلان عن تحالف “أوكوس AUKUS” ترفض أن تنجر إلى مواجهات عسكرية مباشرة مع أي طرف وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية؛ وترى أن ميدان تفوقها هو التنافس الاقتصادي والتجاري مع دول العالم وإقليم الجوار؛ وأن هذا الميدان بشكل عام يحقق لها قفزات في سبيل احتلال مكانة متقدمة عالميًا، وتقلل جوانب المخاطرة والمغامرة؛ لذا كان رد فعل بكين على إعلان التحالف محسوبًا إلى حد ما رغم ما اتهمت به التحالف والمعسكر الغربي الليبرالي بأنه انعكاس لـ “عقلية الحرب الباردة”، محذرة كل الدول من خارج الإقليم من التدخل في شؤونه، وأنها تكتفي بمراقبة الوضع عن كثب.
وكان الرد المبدئي تحركًا اقتصاديًا؛ فالصين تعد الشريك الأكبر لجميع جيرانها وهي خارج كتلة تجارية رئيسية واحدة فقط في المنطقة، (اتفاقية الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ CPTPP التي وقعت عليها عام 2016 أستراليا، وبروناى، وكندا، وتشيلى، واليابان، وماليزيا، والمكسيك، ونيوزيلندا، وبيرو، وسنغافورة، وفيتنام، إضافة إلى الولايات المتحدة التي قرر رئيسها ترامب سحب التوقيع عام 2017)؛ فتقدمت بكين صباح اليوم التالي لإعلان تحالف “أوكوس AUKUS” بطلب إنضمام لـ CPTPP كسرًا لأي محاولات حصار وعزلة تفرض عليها؛ فضلًا عن أنه سيكون جزءًا من استراتيجية الصين لتحسين السرد الإقليمي حول نفسها.
استراتيجيًا؛ هذه خطوة ذكية ولكنها أيضًا محفوفة بالمخاطر حيث تتطلب CPTPP مجموعة من المعايير للانضمام قد تؤدي إلى رفض أو تأجيل البت في الطلب الصيني. أما في جنوب آسيا، فيمكن لبكين أن تعقد صفقة من نوع “أوكوس AUKUS” خاصة بها مع باكستان، والتي لديها بالفعل تعاون مكثف في المسائل النووية. سيكون هذا بمثابة رد من بكين لمواجهة الهند التي حاولت واشنطن على مدى السنوات القليلة الماضية جاهدة الدخول معها في تحالف مناهض للصين. قد يؤثر هذا على توازن القوة التقليدي بين باكستان والهند، ويمكن أن يجبر نيودلهي على تغيير عقيدتها النووية.
في العام الماضى، ألمح وزير الدفاع الهندي راجناث سينغ إلى أن الهند قد تغير سياسة عدم المبادأة باستخدام الأسلحة النووية. إذا حدث هذا، فقد يؤدي إلى سباق تسلح نووي متجدد في جنوب آسيا. حتى أنه قد يجبر بكين على تغيير سياسة عدم الاستخدام الأول، مما يؤدي إلى إحداث تأثير الدومينو الذي من شأنه أن يؤثر على الحسابات الاستراتيجية لجميع الدول الحائزة للأسلحة النووية.
لطالما حاولت الهند التحوط بين الولايات المتحدة والصين. وأرسلت قوات إلى مناورات زاباد العسكرية التي أجرتها روسيا مؤخرًا في بيلاروسيا، وهي عضو كامل العضوية في منظمة شنغهاي للتعاون التي تقودها الصين، إلى جانب باكستان. ومع ذلك، إذا استجابت بكين لـ”أوكوس AUKUS” بالمثل من خلال دعم الجيش الباكستانى، فقد يجبر هذا نيودلهي على تعزيز تحالفها مع الولايات المتحدة بشكل أكبر.
خرق معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية؟
تقول الوكالة الدولية للطاقة الذرية إنها ستحقق في أمر تحالف “أوكوس AUKUS”، ومدى اختراقه للقواعد والضوابط المستقرة، مع الأخذ في الحسبان أن هناك ست دول تستخدم بالفعل هذه التكنولوجيا لتشغيل غواصاتها.
إن اتفاق “أوكوس AUKUS” الذي ينص على توفير غواصات تعمل بالطاقة النووية إلى أستراليا من خلال نقل التكنولوجيا من قبل بريطانيا والولايات المتحدة يستخدم ثغرة نادرًا ما تستخدم في معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT). تسمح هذه الثغرة للدول غير الحائزة للأسلحة النووية بتحويل المواد الانشطارية بعيدًا عن تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية إذا تم استخدامها لأغراض “سلمية”، مثل استخدام الوقود النووي في دفع الغواصات.
معظم الدول التي تمتلك أسلحة نووية اليوم طورت القدرة تحت الذريعة الأولية للأغراض السلمية، مثل توليد الكهرباء، والبحوث، ونعم، الدفع النووي. وتبلغ الكمية النموذجية لليورانيوم عالي التخصيب اللازم لصنع سلاح نووي واحد حوالي 25 كيلوجرامًا. الكمية المحتمل أن يتم تحويلها إلى أستراليا لغواصاتها سيكون ما بين 100 و200 ضعف تلك الكمية. وهذا سيكون خارج مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
الأمر الذي يثير رغبة الطامحين النوويين المحتملين مثل الأرجنتين والبرازيل وكندا وإيران واليابان وكوريا الجنوبية في أنهم ينبغي أن يكونوا قادرين على بناء مفاعلات نووية بحرية. والخوف هو أن تلك الدول، بعد حصولها على وقود المفاعل بحجة أنها ستستخدمه فقط لتشغيل الغواصات، ربما تنقلب وتستخدم الوقود لصنع قنبلة نووية، وتحتفظ بالوقود النووي خارج رقابة الوكالة الدولية. وربما تزيد روسيا مبادلاتها التكنولوجية مع الهند. والصين من المحتمل أن تقدم تقنياتها في مجال المفاعلات النووية لباكستان، والبرازيل وربما تجد بمزيد من السهولة سوقًا لمشروعها المتعثر لبناء مفاعل غواصة نووية.
ويعد تصدير التكنولوجيا النووية إلى أستراليا وهي دولة خالية من هذا النوع من الأسلحة انتهاكًا صارخًا لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. وتهدف المعاهدة، التي وقعت عليها 190 دولة، إلى التزام المجتمع الدولي بمنع انتشار الأسلحة النووية وتعزيز التعاون في الاستخدامات السلمية للطاقة النووية. وغضت واشنطن الطرف عن سعي حلفائها وراء التكنولوجيا النووية، واتبعت نهج “المعايير المزدوجة” بشأن الصادرات النووية واستخدامها، ففي الثمانينيات منعت أمريكا كلًا من فرنسا وبريطانيا من بيع غواصات نووية لكندا بحجة خطر الانتشار النووي.
أما اليوم، وبعد السماح لأستراليا بامتلاك غواصات نووية ماذا ستقول واشنطن لحلفائها الآخرين، مثل إسرائيل، التي قد تريد نفس التكنولوجيا، وماذا ستفعل الولايات المتحدة وإسرائيل إذا ما قررت إيران فجأة تجاوز معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وتحويل قدراتها العسكرية إلى أسلحة نووية، وما المعايير التي ستتبعها واشنطن في حال قررت الصين وروسيا نشر تكنولوجيا المفاعلات البحرية والصواريخ طويلة المدى ذات القدرة النووية، أو إذا استغلت دول أخرى مثل البرازيل هذه السابقة كذريعة لتطوير اليورانيوم عالي التخصيب للأغراض البحرية؟
التأثير على منطقة الشرق الأوسط
أشارت إدارة بايدن إلى أنها تسعى إلى تقليل مشاركتها العسكرية في “الشرق الأوسط الكبير”؛ وهو مفهوم جيوسياسي يتطابق مع نطاق عمل القيادة المركزية الأمريكية الذي يبدأ من كينيا والقرن الأفريقي وحتى باكستان مرورًا بالمنطقة العربية ويشمل أفغانستان بسبب التداخل الجغرافي والسياسي.
ركزت الأشهر الستة الأولى لإدارة بايدن في الشرق الأوسط على الحد من التدخل الأمريكي المباشر في المنطقة، وبدلًا من ذلك أعطت الأولوية للاستجابة لوباء COVID-19 والأزمة الاقتصادية في الداخل مع البدء في معالجة التحديات العالمية الرئيسة مثل تغير المناخ والمنافسة مع الصين وروسيا. وذلك اتساقًا مع العقيدة السياسية الشائعة بين بعض أعضاء فريق الشرق الأوسط الجديد في إدارة بايدن؛ وهو: “لا مزيد من الدول الفاشلة”، مما يشير إلى أهداف سياسة الولايات المتحدة في المنطقة.
لكن عدم الموثوقية الأمريكية دفع القادة في جميع أنحاء الشرق الأوسط إلى بدء حوار يهدف إلى الانفراج، بدلًا من الاعتماد على الغرباء، وقرر قادة المنطقة والأجهزة الأمنية بداخل تلك الدول فتح كل الملفات والقنوات المباشرة وغير المباشرة مع كل عدو وصديق في الجوار الإقليمي إدراكًا منهم بأن الثقل والأمن الإقليمي سيتحقق بقدر ما للدولة من تحالفات وعلاقات اقتصادية قوية في الإقليم.
والآن يحاول قادة المنطقة استباق موجة الأحداث قبل أن تنهار فوقهم. الأعداء والفرقاء يتحدثون مع بعضهم البعض. بدأت قنوات الحوار بين إيران والسعودية في التطرق إلى نقاط الخلاف والصدام، في اليمن وسوريا والعراق ولبنان ومساحات الحركة والتقاطع بين المصالح ووضع التهديدات المباشرة وغير المباشرة على الطاولة دون وسيط أو راعٍ للمباحثات. وتحاول الإمارات العربية المتحدة ومصر إصلاح العلاقات مع تركيا وقطر. والعراق، الذي يكافح من أجل البقاء كدولة موحدة، استضاف قمة جمعت كل خصوم المنطقة.
وقد عبر أنور قرقاش؛ مستشار رئيس الإمارات للشؤون الخارجية عما يدور في ذهن قادة المنطقة وطواقم العمل السياسي والأمني من حولها بشأن التحولات الاستراتيجية الناجمة عن الانسحاب الأمريكي “أو إعادة الانتشار” من بعض المناطق وإعلان وجودها واهتمامها بمناطق أكثر حيوية لها- عندما صرح بأن بلاده تحاول إدارة التنافس الدائر منذ فترة طويلة مع إيران وتركيا عن طريق الحوار لتجنب أي مواجهات جديدة في المنطقة.
وأرجع قرقاش ذلك في تصريح له في مؤتمر السياسة العالمية الذي عقد في الثاني من أكتوبر إلى “أن هناك عدم تيقن بشأن مدى التزام الولايات المتحدة تجاه المنطقة، ومخاوف من “حرب باردة وشيكة” بين واشنطن وبكين… سنرى في الفترة المقبلة حقيقة ما سيحدث فيما يتعلق بالوجود الأمريكي في المنطقة. لا أعتقد أننا نعرف بعد، لكن أفغانستان كانت اختبارا بالتأكيد، وصراحة كان اختبارًا مقلقًا للغاية… جزء مما يتعين علينا القيام به هو إدارة منطقتنا بشكل أفضل، هناك فراغ وكلما كان هناك فراغ ظهرت المشكلات”.
أدركت جميع الأنظمة الحاكمة في منطقة الشرق الأوسط أن هناك نهجًا جديدًا لإدارة بايدن في التعامل مع ملفات الإقليم؛ هذا النهج الجديد أكثر حذرًا مقارنة بجهود الإدارة السابقة في الشرق الأوسط والتي جازفت في سياساتها تجاه إيران وأرسلت إشارات متضاربة حول الموقف العام لأمريكا في المنطقة.
للتعامل مع تلك التحديات وفي وقت مبكر، سعت إدارة بايدن إلى وضع الدبلوماسية أولًا من خلال العمل مع الشركاء الأوروبيين والقوى العالمية الأخرى لإعادة إشراك إيران في المحادثات الدبلوماسية الهادفة إلى إحياء الاتفاق النووي لعام 2015. وعينت أيضًا مبعوثين خاصين مكلفين بإنهاء النزاعات في اليمن وليبيا ومعالجة القضايا المتعددة في القرن الأفريقى. شاركت جميع هذه الجهود لاعبين إقليميين مثل المملكة العربية السعودية ومصر وقطر والإمارات العربية المتحدة.
استضاف بايدن هذا الصيف قادة الأردن والعراق وإسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، بدأ وزيرا الخارجية والدفاع في إدارة بايدن وفرق الشرق الأوسط التابعة لهما في إشراك القادة والمسؤولين في إسرائيل ومصر والمملكة العربية السعودية وشركاء رئيسين آخرين لتنسيق نهج جديد في المنطقة. وأشارت إدارة بايدن إلى نيتها إعادة التوازن إلى الموقف العسكري الأمريكي في “منطقة عمليات القيادة المركزية” أثناء إجرائها مراجعة عالمية للوضع.
كانت أهم خطوة اتخذتها الإدارة في منطقة العمليات الأوسع هذه هي الانسحاب الكامل للقوات من أفغانستان، وهو قرار جاء مع تعقيدات كبيرة لا تزال تديرها الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، أعادت إدارة بايدن مواقع الأصول والمعدات العسكرية من أجزاء رئيسة من الشرق الأوسط. وحتى مع سعي الإدارة لإعادة التوازن في نهجها، فقد شنت ضربات عسكرية ضد خصوم يهددون القوات الأمريكية والدول الشريكة في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك ضربات ضد الميليشيات المدعومة من إيران في العراق وسوريا.
ودفعت اشتباكات مايو بين إسرائيل وحماس الولايات المتحدة بشكل مباشر إلى القضية الإسرائيلية الفلسطينية أكثر مما خططت له إدارة بايدن في البداية. أدى الجمود السياسي المطول في إسرائيل والانقسامات المستمرة بين الفلسطينيين إلى تبني هذه الإدارة نهجًا يتضمن تجديد بعض المساعدات الأمريكية التي أوقفتها الإدارة السابقة واستئناف الاتصالات الدبلوماسية مع قادة السلطة الفلسطينية. تلعب الولايات المتحدة دورًا يتمثل في العمل مع الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسة مثل مصر/ واتخاذ إجراءات عملية لإنهاء الصراع؛ لكن البيئة الحالية على الجبهة الإسرائيلية الفلسطينية لا تزال تواجه تحديات من الثغرات الرئيسية في الأمن البشري الأساسي، بما في ذلك الوباء المستمر.
باختصار، لا تزال الظروف التي أدت إلى انتفاضات شعبية في أجزاء رئيسة من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في عام 2011 موجودة، إذ يمكن أن تؤدي المطالب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الهائلة والمتعلقة بالأمن البشري إلى تحركات من أجل التغيير وتوليد عدم الاستقرار. ويرى قطاع كبير من فريق بايدن أن تلك التحديات فرصة للولايات المتحدة لإعادة صياغة مشاركتها الشاملة مع الشرق الأوسط لإعطاء أولوية أعلى للدبلوماسية المدعومة باستراتيجية أمنية متوازنة، مع تركيز أقوى على قضايا حقوق الإنسان والأمن البشري الأوسع التي ستؤثر على المنطقة وتؤثر حتمًا على نظام دولي أوسع.
بحلول نهاية العام الحالى، ستنسحب الولايات المتحدة أيضًا من العراق، على الرغم من أنها ستترك على الأرجح فرقة من المستشارين العسكريين وستواصل دعم الحكومة العراقية، ومن الواضح أن العديد من حكومات الشرق الأوسط، بما في ذلك إسرائيل ودول الخليج العربى، يشعرون أن الوضع يتغير بسرعة وليس في مصلحتهم.
ستؤثر اتفاقية “أوكوس AUKUS” التي تم الإعلان عنها بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة -على الرغم من تركيزها المزعوم على منطقة المحيطين الهندي والهادئ- على الشرق الأوسط وجنوب آسيا. فغالبًا ما تعمل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا بتنسيق كامل على السياسات في المنطقة. كانت المملكة المتحدة حليفًا رئيسيًا للولايات المتحدة في حربي العراق وأفغانستان. وكانت أستراليا والولايات المتحدة داعمتين بشدة لإسرائيل على مر السنين، ورئيس الوزراء البريطاني الحالي قريب من إسرائيل.
على الجانب الآخر تلعب فرنسا – المتضرر الأول من “أوكوس AUKUS”- دورًا مهمًا في المنطقة، لكن سياساتها تختلف في العديد من الأحيان عن الدور الأمريكي؛ على سبيل المثال، لدى فرنسا مصالح في لبنان لا تتشابه دائمًا مع مصالح الولايات المتحدة. أبدت فرنسا مرونة في المحادثات مع حزب الله. بالإضافة إلى ذلك، حضرت فرنسا الاجتماع الأخير في بغداد حيث حضرت مصر والسعودية وتركيا وإيران ودول رئيسة أخرى. لم تحضر الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى الاجتماع. ما يظهره هذا هو أن فرنسا تريد أن تلعب دورًا أكثر قوة في الشرق الأوسط في نفس الوقت الذي قد تقوم فيه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بتغيير سياساتهما.
تريد الولايات المتحدة التركيز على المنافسين القريبين مثل الصين. هذا يعني استثمارات كبيرة في القوة البحرية. ويعني أيضًا أن الولايات المتحدة قلصت من مصالحها في مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط بعد مغادرة أفغانستان. أسئلة كبيرة تلوح في الأفق حول التزام الولايات المتحدة بشرق سوريا والعراق.
ستشهد الصفقة، نتيجة المنافسة ثنائية القطب بين الولايات المتحدة والصين، أن تستفيد إيران من الترتيب لتعزيز أهدافها النووية. لأنه إذا كان بإمكان أستراليا امتلاك المزيد من المواد النووية، فيمكن لإيران أيضًا أن تجادل. ومن هنا، من المقرر انطلاق سباق تسلح نووي جديد.
وبذلك، يمنح اتفاق “أوكوس AUKUS” طهران أداة دعاية مفيدة لتبرير زيادة تخصيب اليورانيوم. وقد انتقد وزير الخارجية الإيراني السابق جواد ظريف بالفعل الولايات المتحدة وبريطانيا لاستثناء أستراليا، التي مثل إيران من الدول الموقعة على معاهدة حظر الانتشار النووي. كما بدأ أعضاء البرلمان الإيراني أيضًا فة التشكيك في مصداقية الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تراقب (عندما تستطيع) التزام طهران باتفاقية ضمانات معاهدة حظر الانتشار النووي وخطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، والمعروفة أيضًا باسم الاتفاق النووي الإيراني.
في ظل النظام المتشدد الحالى، قد تنسحب إيران ببساطة من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، كما فعلت كوريا الشمالية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ومثل إسرائيل (وهي أيضًا ليست عضوًا في معاهدة حظر الانتشار النووي)، وتحافظ على الغموض الاستراتيجي بشأن مسألة ما إذا كانت لديها أسلحة نووية.
بالنسبة لإسرائيل، هذا أمر جاد لأن إسرائيل تواجه التهديدات الإيرانية في أماكن مثل سوريا وتهديدات لجماعات ومليشيات تعمل بالوكالة لصالح إيران التي تشمل حزب الله وأيضًا الجماعات المدعومة من طهران في العراق وسوريا وقطاع غزة، ومن المحتمل أن تقوم تلك الميليشيات بإحداث فوضى في إسرائيل، وهذا يمكن أن يتفوق على نظام القبة الحديدية للدفاع الصاروخي الإسرائيلي في حال وجود ردود أفعال متزامنة.
وكلاء إيران قد يستهدفون حتى المفاعلات النووية الإسرائيلية في المقابل، هذا الصيف، سقط صاروخ أطلقته القوات السورية على غارة جوية إسرائيلية على بعد 30 كيلومترا من المفاعل النووي في ديمونة. هذه المليشيات أصبحت تمتلك تكنولوجيا الطائرات بدون طيار الإيرانية المتقدمة.
قد يكون للتحول في العلاقات الأوروبية والفرنسية مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في المنطقة تداعيات على إسرائيل إذا بدت هذه الدول أكثر حرصًا على التعامل مع إيران وميليشياتها. وهذا أيضًا له تداعيات على محادثات الاتفاق النووي. من المهم لإسرائيل أن تكون على دراية بهذه الرمال المتحركة لتحليل مكان التحركات التالية. إن أي هجوم إسرائيلي على المنشآت النووية الإيرانية سيكون كارثيًا على المنطقة. حيث تقع بعض المحطات النووية الإيرانية في جنوبها، بالقرب من مياه الخليج العربى. ستؤثر التداعيات الإشعاعية على كل دولة قريبة.
سيؤدي هذا إلى انهيار كل ما تبقى من الاتفاق النووي ويدمر أي فرصة ضئيلة لحدوث انفراج كبير ظهر في قمة الشرق الأوسط الأخيرة التي عقدت في بغداد وحضرتها جميع دول المنطقة تقريبًا. إذا بدا أن انسحاب أمريكا من الشرق الأوسط للتركيز على محورها في آسيا من شأنه أن يجلب ما يشبه السلام إلى المنطقة، يبدو الآن أنه مع اتفاق “أوكوس AUKUS”، يمكن أن يكون العكس هو الصحيح.
التوازن في الخليج العربي
أدى الاتفاق الأمني إلى تصعيد التوترات بين الولايات المتحدة والصين، أحدهما ضامن تقليدي للأمن في الخليج، والآخر، قوة صاعدة في المنطقة. وكان قبول إيران في منظمة شنغهاي للتعاون كعضو كامل العضوية، والذي حدث بعد فترة وجيزة من الكشف عن “أوكوس AUKUS”، تطورًا مهمًا من شأنه أن يقوض جهود الولايات المتحدة لعزل الجمهورية الإسلامية قدر الإمكان.
ستواصل الصين أيضًا العمل لكسب المزيد والمزيد من النفوذ في دول الخليج العربي أيضًا. ومن المثير للاهتمام، أن الصين كانت مصممة على تجنب السماح للعضوية الجديدة لإيران في منظمة شنغهاي للتعاون أن تؤدي إلى أي تصورات بأن بكين تتخذ جانب طهران في المنافسات الإقليمية. إن قيام بكين بإدخال المملكة العربية السعودية إلى منظمة شنغهاي للتعاون كـ “شريك حوار” يؤكد نوع التوازن الذي يشكل السياسة الخارجية الصينية في الخليج.
في الواقع، أعطت العلاقات الاقتصادية المتنامية بين دول مجلس التعاون الخليجي والصين السبب السابق للانخراط في “السياج” وسط “الحرب الباردة” الجديدة بين واشنطن وبكين. لا تحظى النظرة إلى الصين كعدو بشعبية في الشرق الأوسط بشكل عام وفي الخليج العربي بشكل خاص، حيث أمضت جميع الحكومات تقريبًا عقودًا تستثمر بكثافة في علاقات أقوى مع بكين.
في بعض الأحيان، اتخذت دول المنطقة جانب الصين في القضايا التي تضع بكين وواشنطن في مواجهة بعضهما البعض – يعتبر وضع حقوق الإنسان في شينجيانغ مثالًا بارزًا. ضمن هذا السياق، من الآمن أن نفترض أن تحالف (AUKUS) سيجد القليل من المؤيدين المتحمسين، إن وجد، بين الحكومات في الشرق الأوسط.
يعمل القادة في دول الخليج على ابتكار استراتيجيات دقيقة للتعامل مع الحقائق الجيوسياسية الجديدة التي أوجدتها “الحرب الباردة” الجديدة بين واشنطن وبكين. نظرًا لأن جميع أعضاء مجلس التعاون الخليجي يعتمدون على الولايات المتحدة كضامن لأمنهم، ولكنهم يعتمدون أيضًا بشكل متزايد على الصين في صادرات النفط / الغاز، فإن المخاطر كبيرة بالنسبة لهذه الدول العربية الست.
من المرجح أن تؤدي قضايا مثل دور شركات التكنولوجيا الصينية في منطقة الخليج الفرعية إلى ممارسة ضغوط أكبر على دول مجلس التعاون الخليجي “لاختيار جانب” مع احتدام التوترات بين الولايات المتحدة والصين.
وهناك عدم ثقة متزايد لدى دول مجلس التعاون الخليجي عندما يتعلق الأمر بأمريكا. والاتجاه هو منح فرص أكبر للاقتراب من الصين والابتعاد تدريجيًا عن الارتباط بالولايات المتحدة. ليس هناك من ينكر أن الأحداث الأخيرة في أفغانستان والعديد من اللحظات الكارثية الأخرى في السياسة الخارجية للولايات المتحدة طوال هذا القرن قد دفعت الدول الخليجية إلى النظر إلى تنوع العلاقات الأمنية على أنه ضروري بشكل متزايد. خاصة بعد فترة الرئاسة الفوضوية لدونالد ترامب، وكيف ردت إدارة ترامب على هجمات أرامكو السعودية في سبتمبر 2019 وصولًا لفك شفرة كل الرسائل التي صدرت عن إدارة جو بايدن والتي لا تقل في مجملها عن فوضوية فترة ترامب.
ستنظر العواصم في جميع أنحاء المنطقة بجدية في تنويع تحالفاتها الأمنية للتحضير لحقبة ما بعد “الحرب على الإرهاب”، عندما لم يعد الشرق الأوسط في مقدمة ومركز الجغرافيا السياسية العالمية. من المؤكد أن أعضاء مجلس التعاون الخليجي لا يريدون سيناريو يتعين عليهم بموجبه إما الانضمام إلى تحالف تقوده الولايات المتحدة ضد الصين أو الابتعاد عن شراكاتهم القائمة منذ عقود مع الولايات المتحدة. من وجهة نظر دول الخليج، سيكون كلا السيناريوهين سلبيين للغاية.
تدرك الدول الخليجية أن الصين لا تنوي ولا ترغب في استبدال الولايات المتحدة كضامن لأمنها. لكنهم يدركون أيضًا أن المزيد من الصعود الجغرافي الاقتصادي للصين أمر حتمي عمليًا، وأي شيء يفعلونه لدعم جهود واشنطن لإبطاء أو عكس هذا الارتفاع من شأنه أن يضعهم في مواجهة مشاكل مع بكين.
بالنظر إلى المستقبل، فإن التحديات الجيوسياسية الرئيسية التي يواجهها أعضاء مجلس التعاون الخليجي في القرن الحادي والعشرين سوف تتعلق بالمسائل الصعبة والحساسة حول التعامل مع درجات الحرارة المرتفعة في العلاقات الأمريكية الصينية. مع وجود دعم من الحزبين في واشنطن لمزيد من الأساليب العسكرية لمواجهة بكين، من غير المرجح أن تنتهي هذه “الحرب الباردة” الجديدة في أي وقت قريب. ومع ذلك، حتى يحدث ذلك، هناك سبب وجيه في الخليج للخوف من تداعيات “أوكوس AUKUS” والتطورات الأخرى التي تزيد بشكل مرعب من مخاطر نشوب نزاع مسلح فعلي بين الولايات المتحدة والصين.
ختامًا؛ يبدو جليًا أن واشنطن تعيش حالة من الجدل الشديد بشأن صياغة سياساتها الخارجية، وتضع على المائدة كل الثوابت وتناقشها بصوت عالٍ، وهناك توجه بدأ مع إدارة ترامب ويستمر مع إدارة بايدن بضرورة وضع نهاية لعدد من الصراعات والحروب أو الانسحاب منها، مع توجه بعدم التورط في صراعات جديدة لا تمس مباشرة المصالح الأمريكية مع تزايد الخطر والتهديد الصيني اقتصاديا وعسكرًا؛ وتحاول تل أبيب الحفاظ على موقعها ومكانتها في أولويات السياسة الأمريكية وتضغط من أجل جر واشنطن لصراع مع إيران أو تحييدها في أي تصعيد إسرائيلي تجاه طهران.
وهو ما يشير إلى أن عددًا من دول المنطقة عليها أن تفتح حوارًا استراتيجيًا مع واشنطن في تلك المرحلة للحفاظ على قوة الدفع تجاه عدد من الملفات والاهتمامات التي يفسرها البعض بعدم المبالاة، وكي لا تصب تلك المواقف في صالح دول تتحرك في خانة العداء والمنافسة والتمدد وإعادة ترتيب أوراق الإقليم؛ فإذا كان انسحاب التأثير والضغوط الأمريكية في عدد من الملفات أمر مرحب به ومطلوب تاريخيًا لشعوب المنطقة، إلا أنه عندما يحدث يجب أن يكون محسوبًا وتدريجيًا ودون تخلٍ عن المسؤوليات، ودون منح توكيل لأي من القوى الإقليمية بالتحرك والتمدد تحت الحماية الأمريكية وخدمة لمصالحها.