
وتيرة متسارعة.. مساعي “داعش” للهيمنة على الخريطة الجهادية الأفغانية
نفّذ تنظيم ولاية “داعش-خراسان”، مطلع نوفمبر الجاري، هجومًا انتحاريًا قرب مستشفى (سردار محمد خان) العسكري في العاصمة الأفغانية كابول؛ أسفر عن مقتل حوالي 25 شخصًا، من بينهم القيادي البارز في حركة طالبان “حمد الله مخلص”، وهو أعلى مسؤول في طالبان يقتل منذ تولت الحركة السلطة في منتصف أغسطس (2021). وتسبب الهجوم في إصابة 50 شخصًا أيضًا على الأقل. وكان تنظيم “داعش” قد تبني هجومًا مماثلًا استهدف نفس المستشفى في عام (2017)؛ أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 30 شخصًا.
يأتي هذا الهجوم ليضاف إلى سلسلة الهجمات الدامية التي يشنها تنظيم داعش ضد حركة طالبان (العدو اللدود للتنظيم) منذ سيطرة الأخيرة على مقاليد الحكم في أفغانستان. ففي 15 أكتوبر الماضي تبنى “داعش-خراسان” تفجيرًا انتحاريًا على مسجد للشيعة في مدينة “قندهار”؛ أسفر عن مقتل 62 شخصًا على الأقل، وإصابة 70 آخرين. وهو الهجوم الذي نفّذ بعد أسبوع من وقوع هجوم آخر مماثل تبناه التنظيم، استهدف مسجد “سعيد آباد” الشيعي في مدينة “خان آباد” الواقعة بولاية “قندوز” شمال أفغانستان؛ وأسفر عن سقوط نحو 46 قتيلًا، وأكثر من 143 جريحًا.
وفى ضوء هذه التطورات تسعى هذه الورقة إلى تسليط الضوء على تنامي نشاط تنظيم “داعش-خراسان” ومحفزات تمدده في أفغانستان، والمقاربة التي انتهجتها حركة طالبان في التصدي لوجود التنظيم؛ كونها هي الجهة المسؤولة الآن عن حفظ الأمن والاستقرار في البلاد، وضمان حماية كافة أطياف الشعب الأفغاني من أية تهديدات إرهابية، بعد سيطرتها الكاملة على الحكم.
مؤشرات تنامي نشاط “داعش-خراسان”
1- شهدت الجغرافيا الأفغانية خلال الأشهر الأخيرة تناميًا متسارعًا في نشاط تنظيم “داعش- خراسان”؛ إذ كثّف هجماته الدامية في أفغانستان بهدف فرض المزيد من التحديات الأمنية أمام حكومة طالبان الجديدة، التي تواجه بالفعل جملة من الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية تتفاقم حدتها يومًا بعد يوم منذ تشكيلها في سبتمبر (2021). فخلال الفترة من 18 سبتمبر حتى 28 أكتوبر من العام الجاري، نفّذ تنظيم داعش فرع خراسان ما لا يقل عن 54 هجومًا في أفغانستان تنوعت ما بين تفجيرات انتحارية واغتيالات وعمليات نصب الكمائن على نقاط التفتيش الأمنية، حسب ما أفادت به منظمة “إكستراك Extrac”، المتخصصة في رقابة المتشددين في مناطق الصراع.
جدير بالذكر أن عمليات تنظيم “داعش” ركزت منذ أغسطس الماضي على استهداف عناصر حركة طالبان في المقام الأول، في حين كان استهداف قوات الأمن والمدنيين وخاصة النشطاء والصحفيين منهم على قمة أولويات التنظيم في الهجمات التي شنّها خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري، والبالغ عددها 83 هجومًا. وهو ما يمكن إرجاعه إلى رغبة “داعش” في تقويض الثقة المحلية والإقليمية والدولية في حركة طالبان؛ في إطار سعيه إلى ملء “الفراغ الجهادي” في أفغانستان بعد انسحاب القوات الأجنبية من البلاد وسقوط كابول في قبضة طالبان.
2- حذر العديد من التقارير الاستخباراتية الإقليمية والدولية الصادرة مؤخرًا من تنامي نشاط “داعش-خراسان” وقدرته على التمدد خارج الحدود الأفغانية؛ على سبيل المثال، في 26 أكتوبر 2021 أبلغ وكيل وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) للشؤون السياسية الكونجرس بأن أوساط المخابرات الأمريكية تقدر أن تنظيم داعش في أفغانستان قد تصبح لديه القدرة على التمدد خارج نطاق أفغانستان، ومهاجمة الولايات المتحدة خلال فترة تقدر من 6 إلى 12 شهرًا على أقرب تقدير، وأن لديه النية بالفعل للقيام بذلك.
وفى سياق متصل، قال رئيس الاستخبارات الروسية “ألكسندر بورتنيكوف”، في 7 نوفمبر الجاري إن تنظيم “داعش” يحاول الانتقال إلى آسيا الوسطى انطلاقًا من أفغانستان، وسيستعين في ذلك بمقاتلين ينحدرون من جمهوريات آسيا الوسطى لهم خبرة قتالية. لذا من المحتمل أن تشهد الفترة المقبلة هجمات لتنظيم “داعش” خارج حدود أفغانستان.
3- لجأ تنظيم “داعش” مؤخرًا إلى تبني استراتيجية “استهداف أبراج الطاقة” في أفغانستان على غرار ما يقوم به في كل من العراق وسوريا وليبيا. ومن ذلك، قيام التنظيم في 23 أكتوبر 2021 بشن هجوم استهدف خط كهرباء وتسبب في إغراق العاصمة كابول والعديد من الولايات الأفغانية بالظلام. ويهدف “داعش” من هذه الاستراتيجية إلى تدمير البنية التحتية للبلاد، وهو ما سيؤدي بدوره إلى إظهار عجز حركة طالبان عن الحفاظ على مقدرات الشعب الأفغاني، فضلًا عن تأجيج الأزمات الاقتصادية الخانقة التي تمثل تحديًا كبيرًا أمام حكومتها الجديدة.
4- أبرزت سلسلة الهجمات الأخيرة التي شنها تنظيم “داعش” التحول العملياتي لنشاط التنظيم ناحية الشمال والجنوب؛ فبعد أن كانت الهجمات السابقة تتركز غالبًا في مناطق شرق البلاد والعاصمة كابول، بدأ “داعش” يوسع نطاق عملياته في شمال وجنوب البلاد، ومن ذلك الهجمات التي شنها التنظيم في أكتوبر الماضي واستهدفت مساجد للشيعة في ولايتي قندوز الشمالية وقندهار الجنوبية.
محفزات التمدد
على الرغم من قلة عدد عناصر “داعش-خراسان” (يتراوح عددهم ما بين 500 إلى بضعة آلاف بما في ذلك خلايا نائمة في كابول، حسب تقديرات الأمم المتحدة)، إلا أن العمليات التي يقوم بها الأخير في تزايد مستمر، في ظل وجود جملة من العوامل المحفزة التي تجعل من أفغانستان خاصرة رخوة لتمدد نشاط التنظيم. ونستعرض فيما يلي أبرز هذه العوامل:
1- ضم عناصر سابقة في الجيش الأفغاني: أفادت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية في 31 أكتوبر 2021 نقلًا عن مصادر محلية وعالمية في أفغانستان أن عناصر من الجيش الأفغاني السابق، خاصة بجهاز المخابرات الأفغاني ووحدات النخبة العسكرية، انضموا مؤخرًا إلى تنظيم “داعش”. ورغم أن عدد هؤلاء المنشقين صغير نسبيًا حتى الآن، لكنه يتزايد، وفقًا للصحيفة.
ويمكن إيعاز انضمام عناصر سابقة في الجيش الأفغاني لصفوف تنظيم “داعش إلى عاملين هما: الأول، الأوضاع الاقتصادية السيئة التي يعيشها هؤلاء الأشخاص، حيث تقطعت بهم السبل بعد انهيار الحكومة الأفغانية السابقة أمام تقدم حركة طالبان. والثاني، هو رغبة هؤلاء في الفرار من بطش حركة طالبان؛ إذ كشفت وثائق سرية للأمم المتحدة عن أن طالبان وضعت قوائم سوداء لاعتقال وتصفية بعض الأشخاص الذين كانوا يشغلون مناصب قيادية في صفوف القوات المسلحة الأفغانية وقوات الشرطة ووحدات الاستخبارات. وهو ما وضع هؤلاء الأشخاص أمام خيارين؛ إما الفرار إلى خارج أفغانستان، أو الارتماء في أحضان تنظيم “داعش”.
ويمثل انضمام عناصر سابقة في الجيش الأفغاني إلى صفوف “داعش” هدية ثمينة للتنظيم؛ إذ يستطيع الأخير الاستفادة من الخبرة التي يمتلكها هؤلاء في جمع المعلومات الاستخباراتية وتقنيات الحروب، لا سيما أنهم تلقوا تدريبات استخباراتية على أيدي الولايات المتحدة الأمريكية. وربما ينضم إليهم أيضًا عدد من موظفي الحكومة الأفغانية السابقة الذين لم يتقاضوا رواتبهم منذ شهور، مما يعزز من نشاط تنظيم “داعش-خراسان” في الفترة المقبلة.
2- استغلال تحالف حركة طالبان مع الصين: يستغل تنظيم “داعش” النهج البرجماتي الذي يحكم حركة طالبان للتقرب من بكين في جذب المزيد من العناصر للانضمام إلى صفوفه. فبعد المباحثات المتبادلة التي عقدت مؤخرًا بين مسؤولي الحركة ونظرائهم في الصين، عمد التنظيم إلى شن حملة على تطبيق تليجرام لتشويه سمعة طالبان، متهمًا إياها بخيانة أقلية مسلمي الإيجور.
ولعل قيام تنظيم “داعش” باختيار هوية منفذ الهجوم الانتحاري الذي استهدف مسجدًا للشيعة في ولاية قندوز الشمالية ليكون من الإيجور مؤشرًا على أن التنظيم نجح بالفعل في استقطاب عدد من عناصر هذه الأقلية التي كانت مقربة من حركة طالبان، ولكنها باتت تعيش الآن حالة من الرعب؛ خوفًا من قيام الحركة بترحيلهم إلى الصين.
3- “داعش” واختراق صفوف حركة طالبان: ثمة مجموعة من المؤشرات يُستدل منها على نجاح تنظيم “داعش-خراسان” في التسلل داخل صفوف حركة طالبان. أولها، إعلان عدد من العناصر السابقين في الحركة ولاءهم للتنظيم. ثانيها، ما ذهبت إليه تقديرات بعض المسؤولين الاستخباراتيين بأن زعيم “داعش-خراسان” (شهاب المهاجر) يعمل الآن داخل صفوف طالبان لكنهم لا يعرفونه. ثالثها، أن إعطاء زعماء طالبان في نهاية سبتمبر الماضي أوامرهم بإجراء تدقيق شامل بشأن جميع مقاتليهم يشي بأن الحركة لديها مخاوف ومؤشرات على وجود اختراقات داخل صفوفها. رابعها، أن استسلام نحو 250 من عناصر “داعش-خراسان” لحكومة طالبان حسبما أعلن مكتب حاكم ولاية ننجهار في السادس من نوفمبر الجاري، ربما يكون استراتيجية جديدة يتبناها التنظيم لاختراق صفوف طالبان، لاسيما أن نشاطه يتخذ منحىً صاعدًا في الوقت الراهن، ولا توجد مؤشرات على وجود انشقاقات بين صفوفه.
4- تفاقم المعاناة الإنسانية للشعب الأفغاني: ربما يستغل تنظم “داعش” تفاقم المعاناة الإنسانية والمعيشية للشعب الأفغاني في جذب المزيد من المقاتلين لصفوفه. فقد قال مسؤول ببرنامج الأغذية العالمي أن أحدث البيانات تشير إلى وجود أكثر من 45 مليون شخص في أفغانستان على شفا المجاعة. وكذا، ذكرت تقارير صحفية أن العائلات أُجبرت على بيع أطفالها في محاولة يائسة للبقاء على قيد الحياة. وتسببت موجات الجفاف العديدة إلى جانب الانهيار الاقتصادي في إلحاق أضرار بالغة بالعائلات الأفغانية.
مقاربة نفعية
بتحليل خطابات قيادات حركة طالبان حول وجود تنظيم “داعش” في أفغانستان، نجد أن هناك “استهانة” بحجم خطر التنظيم، فدائمًا ما يردد قادة الحركة أن “داعش” لا يشكل تهديدًا فعليًا على أفغانستان، وأنهم قادرون على ضمان استتباب الأمن والنظام في الداخل الأفغاني، ليرد بعدها تنظيم “داعش” بهجمات دامية تثبت عكس ما يصدّره الخطاب المطمئن للحركة. على سبيل المثال، أعلن المتحدث باسم طالبان “ذبيح الله مجاهد” أن “داعش-خراسان” لا يمثل تهديدًا حقيقيًا، ولا يمكنه حتى مهاجمة المنشآت العسكرية، ليرد الأخير بهجوم دامٍ استهدف مستشفى عسكري بها عناصر من طالبان والجيش الأفغاني السابق والمدنيين.
وهذا الأمر يدفعنا إلى القول إن تهوين الحركة من خطر تنظيم “داعش-خراسان” ربما يعكس مقاربة نفعية تنتهجها الحركة للاستفادة من الهجمات التي يشنّها التنظيم. فمن ناحية قد تؤدى تلك الهجمات إلى غض الطرف وإزاحة الأضواء عن الانتهاكات التي ترتكبها الحركة في حق الشعب الأفغاني. ومن ناحية أخرى قد تستغل الحركة تنامي “داعش” في أفغانستان للحصول على الدعم والتأييد الدولي.
وفى هذا الصدد، حذرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في تقرير نشرته مطلع نوفمبر الجاري من أن حركة طالبان تسعى إلى استغلال الهجمات التي ينفذها تنظيم “داعش” في أفغانستان للحصول على دعم مالي من المجتمع الدولي، في ظل تزايد المخاوف الغربية من تنامي نفوذ داعش وقدرته على تنظيم هجمات عابرة للحدود خارج أفغانستان.
وبناء على ما سبق، من المتوقع أن يقوم تنظيم “داعش-خراسان” في الفترة المقبلة بتكثيف هجماته على الجغرافيا الأفغانية وربما خارج حدود أفغانستان؛ سعيًا إلى تعزيز حضوره القوي في قلب آسيا الوسطى، في ظل توافر جملة من العوامل المحفزة لتمدد نشاطه.
باحثة ببرنامج قضايا الأمن والدفاع



