
حافة الهاوية … الواقع اللبناني ينسخ خطوط تماس الماضي
ربما من حيث المبدأ، لم تمثل الاشتباكات التي شهدتها منطقة “الطيونة” في العاصمة اللبنانية بيروت اليوم، مفاجأة لكل من يتابع تطورات المشهد اللبناني في الآونة الأخيرة، ولكن من ناحية أخرى، كانت الظروف التي سبقت وترافقت مع هذا المشهد، بمثابة ناقوس خطر جديد، يضاف لسلسلة طويلة من المؤشرات السلبية، التي تنذر باقتراب الكيان اللبناني من حافة هاوية حقيقة، تهدد وجوده واستمراره.
المشاهد الميدانية التي صاحبت اشتباكات اليوم، أعادت إلى الأذهان مشاهد مطابقة حدثت خلال الحرب الأهلية اللبنانية، التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990، وكانت منطقة “الطيونة” -للمفارقة- نقطة في أحد أشهر خطوط التماس التي كانت موجودة بحكم الأمر الواقع في العاصمة اللبنانية، وهو خط “عين الرمانة – الشياح”، الذي فصل بين منطقة “عين الرمانة” ذات الأغلبية المسيحية، ومنطقة “الشياح” التي تتبع الضاحية الجنوبية للعاصمة، إحدى المعاقل الرئيسية للشيعة في لبنان. رغم هذا التطابق، إلا أن الظروف والملابسات التي أفضت إلى مشاهد اليوم، تختلف بشكل كبير عن الظروف التي سبق إندلاع الحرب الأهلية في سبعينيات القرن الماضي.
رغم النجاح في التشكيل … حكومة ميقاتي أمام أزمة مبكرة
رغم أن موجة من التفاؤل –الحذر- سادت الداخل اللبناني، بعد نجاح رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي الشهر الماضي، في تشكيل الحكومة الجديدة، بعد ثلاثة عشر شهرًا من الفراغ الحكومي الذي عاشته بيروت، عقب استقالة حكومة حسان دياب في العاشر من أغسطس 2020، عقب كارثة انفجار ميناء بيروت، التي تعد إرهاصاتها من أهم أسباب أحداث اليوم، بدأت هذه الموجة في الانحسار بشكل تدريجي، نتيجة الارتباك الذي ساد أداء هذه الحكومة خلال الأسابيع القليلة الماضية، خاصة فيما يتعلق بالملفات الخدمية مثل ملفي الكهرباء والبنزين، وكذلك عجزها عن إيجاد صيغة للتعامل مع شحنات المازوت الإيرانية، التي وصلت إلى البلاد دون أن يكون للحكومة الجديدة أي سيطرة عليها.
سلسلة الحوادث المتتالية التي تعرضت لها هذه الحكومة، بدءًا من انقطاع الكهرباء عن مجلس النواب أثناء النظر في منح هذه الحكومة الثقة، وانفجار خزان للمشتقات النفطية في منطقة عكار منتصف الشهر الماضي، ما أسفر عن 20 قتيل، والحريق الذي شب منذ أيام في خزان وقود في محطة كهرباء الزهراني جنوبي البلاد، جميعها أكدت الانطباع السائد عن هذه الحكومة، والذي مفاده أن المهام الموكلة إليها تبدو أكبر بكثير من قدراتها الفعلية، خاصة في ظل تعاظم الاستقطاب الداخلي، وترسيخ فكرة أن الغرض الأساسي من تشكيل هذه الحكومة، ينحصر بشكل كبير في إدارة البلاد حتى الانتخابات النيابية في الربيع المقبل.
الملف الذي فاقم من أزمات هذه الحكومة، كان ملف التحقيق في انفجار ميناء بيروت، حيث وجدت الحكومة نفسها الأربعاء الماضي، أمام احتمالية دخولها في حالة جمود، مماثلة لما حدث في يوم اغتيال الصحفي اللبناني جبران تويني عام 2005، حين علق وزراء الثنائي الشيعي “حركة امل – حزب الله”، مشاركتهم في حكومة السنيورة آنذاك، اعتراضا على تعديل جدول أعمال الجلسة الحكومية الطارئة التي عقدت في هذا اليوم، ليشمل بندًا خاصًا بتوسيع صلاحيات لجنة التحقيق الدولية في اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، لتشمل اغتيال جبران تويني.
هذه الاحتمالية تم إحياؤها مرة أخرى بعد أن أعرب الثنائي الشيعي، خاصة حزب الله، عن عدم ثقتهم في المحقق الرئيسي في انفجار ميناء بيروت، القاضي طارق البيطار، الذي تولى التحقيق في هذه القضية منذ يوليو الماضي، ودخل منذ ذلك الحين في اشتباك مستمر مع الثنائي الشيعي وتيار “المردة”، خاصة بعد إصداره مذكرة لاستجواب أربعة نواب في البرلمان اللبناني، من بينهم على حسن خليل، وزير المالية السابق، وأحد أقطاب حركة أمل. منذ ذلك التوقيت، تعرض البيطار لعدة محاولات لكف يده عن التحقيق، منها دعوى قضائية رفعها عليه الوزير السابق نهاد المشنوق، ثم دعوى أخرى رفعها الوزير السابق على حسن خليل، والوزير السابق للأشغال العامة يوسف فنيانوس، وهو أحد الذين طلب البيطار استجوابهم، وذلك بعد أن أصدر هذا الأخير، مذكرة ضبط وإحضار ضده.
آخر محاولات الثنائي الشيعي كف يد القاضي البيطار عن هذا التحقيق، كانت برفع كل من النائب نهاد المشنوق والنائب على حسن خليل والنائب غازي زعيتر، طلبات لرد القاضي صوان عن هذا التحقيق، أمام محكمتي الاستئناف والنقض، وتم رفض هذه الطلبات في الرابع من الشهر الجاري، ليستأنف القاضي البيطار عمليات التحقيق، ويقرر الاستمرار في طلب استجواب النواب غازي زعيتر وعلي حسن الخليل ونهاد المشنوق، بجانب طلبه استجواب رئيس الوزراء السابق حسان دياب. البيطار هنا يحاول الاستفادة من المهلة الزمنية المتاحة لها قبل التاسع عشر من الشهر الجاري، الذي سينعقد فيها مجلس النواب، حيث ينص الدستور اللبناني على أن النائب لا يتمتع بأي حصانة قانونية ودستورية في حالة ما إذا كانت الدورة البرلمانية غير منعقدة.
يمكن القول إن سبب استشعار حزب الله وحلفائه الخطر من جراء أنشطة القاضي البيطار، ومن قبله القاضي فادي صوان، الذي تمت تنحيته عن تولي التحقيق في هذه القضية في فبراير الماضي، بقرار من محكمة النقض استجابة لطلب النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر، هو بسبب تلمس الحزب والحركة محاولات جارية لتوجيه سهام الاتهام في قضية انفجار ميناء بيروت إليهما، وذلك عن طريق البدء في التحقيق مع الوزراء السابقين المنتمين لجبهة الحزب أولًا، قبل الوزراء المنتمين لبقية الأحزاب، وهو ما يمثل من وجهة نظر الحزب، إعادة لسيناريو التحقيقات في اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.
لهذا كان لافتًا انتقاد حزب الله بشكل صريح وواضح للبيطار، خاصة على لسان أمين عام الحزب حسن نصر الله، الذي اتهم البيطار عدة مرات، آخرها كان منذ أيام قليلة، بالانتقائية والانحياز السياسي، وترافق ذلك مع تحدي واضح لقرارات البيطار من جانب النائب والوزير السابق على حسن خليل، الذي ظهر في إحدى القنوات اللبنانية عقب إصدار البيطار قرار ضبط وإحضار في حقه، وأكد خليل ان هذا القرار لن ينفذ، وأن المسار القضائي المتبع في قضية انفجار ميناء بيروت “يدفع لبنان نحو الفتنة”، وكان لافتًا في كلام خليل، إن حركة أمل وحلفاءها قد يلجؤون لخيارات أخرى في حالة ما إذا لم يتم تنحية البيطار عن موقعه.
حصيلة هذا المشهد، وضعت الحكومة اللبنانية الحالية في موقف صعب هذا الأسبوع، فقد لوح الوزراء الممثلون لحزب الله وحركة أمل وتيار المردة، بتعليق مشاركتهم في اجتماعات هذه الحكومة، في حالة ما إذا لم يبت المجلس في مسألة طلب مجلس الوزراء من مجلس القضاء الأعلى عزل القاضي البيطار عن تولى التحقيق في قضية انفجار الميناء. حاول رئيس الحكومة ميقاتي ورئيس مجلس النواب نبيه بري، التوصل إلى حل وسط في هذا الصدد، قبيل جلسة الحكومة التي كانت مقررة أمس للنظر في وضع التحقيق في انفجار الميناء.
من بين هذه المحاولات، التشاور مع القاضي بيطار لإقناعه بالتنحي طوعًا عن ملف انفجار الميناء والعودة الى مركزه السابق، بجانب اقتراح عرضه رئيس مجلس النواب نبيه بري على وزير العدل، يقضي بتعيين القاضي بيطار رئيسا لهيئة القضايا في وزارة العدل، ما يجعله عمليًا خارج التحقيق في ملف انفجار الميناء، لكن لم تفلح هذه المحاولات ما دفع ميقاتي لتأجيل جلسة الأربعاء لحين التوافق على حل لهذه الأزمة، التي تبدو مفصلية في تحديد شكل أداء هذه الحكومة على المستوى الداخلي في الأسابيع المقبلة.
القوات اللبنانية وحزب الله … اللجوء للشارع
بالعودة إلى أحداث اليوم، نستطيع أن نضعها في إطار سلسلة من التفاعلات الميدانية التي تعرض لها حزب الله خلال الفترة الأخيرة، خاصة في أغسطس الماضي، حين قام أهالي قرية “شويا” الدرزية في قضاء حاصبيا، باعتراض شاحنة تحمل حاملة راجمة صواريخ تابعة لحزب الله، كانت قد استهدفت مواقع اسرائيلية في فلسطين المحتلة، وكذا الاشتباك المسلح بين عناصر الحزب وأخرى تابعة للعشائر العربية في منطقة “خلدة” جنوبي العاصمة اللبنانية.
لم يكن حزب القوات اللبنانية طرفًا في هذه التفاعلات، لكن كانت العلاقة بين الجانبين في توتر دائم، نتيجة الانتقاد الصريح والمستمر الذي يوجهه رئيس الحزب سمير جعجع، للعلاقة بين حزب الله وسوريا وإيران، وهي انتقادات تزايدت بعد الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الإيراني إلى بيروت، ومن قبلها وصول شحنات المازوت الإيرانية إلى لبنان عبر الأراضي السورية.
ملف القاضي البيطار، كان عنوان المسيرة التي نفذها اليوم أنصار حركة أمل وحزب الله نحو مبنى وزارة العدل في منطقة “الطيونة”، والذين بمجرد وصولهم إليها، وقعوا تحت نير رصاص القنص المستمر والكثيف، بشكل مشابه لما حدث في حادثة خلدة السالف ذكرها، وقد تم هذا رغم أن قوات المغاوير التابعة للجيش اللبناني كانت مواكبة لهذه المسيرة. ردة فعل حزب الله على هذا “الكمين” كانت فورية وكثيفة.
فقد تدفق إلى المنطقة عشرات المسلحين التابعين لحزب الله وحركة أمل، مسلحين بالرشاشات الفردية، بجانب أسلحة متوسطة منها قاذفات الآر بي جي، ومدافع رشاشة من عيار 12.7 ملم، والقنابل اليدوية، ودارت اشتباكات على مدار نحو ثلاث ساعات، بين هؤلاء المسلحين، والقناصة الذين تواجدوا في مبنى سكني يطل على ميدان “الطيونة”.
المشاهد التي رافقت هذه الاشتباكات، كانت نسخًا طبق الأصل من مشاهد الحرب الأهلية، التي كانت هذه المنطقة شاهدًا عليها، ما بين طلقات الأر بي جي التي انهالت على المنازل الموجودة في المنطقة، في مشهد مشابه لمعارك السيطرة على الفنادق الكبيرة في العاصمة إبان الحرب، وبين مشاهد القنص المباشرة، ومنها مشهد تم فيها قنص أحد المسلحين قبل ان يقوم بإطلاق قذيفة أر بي جي صوب أحد المنازل، وبين مشاهد مقتل المدنيين، مثل مقتل أم لخمسة أطفال، برصاص القنص الذي استهدفها اثناء تواجدها داخل شقتها السكنية.
اللافت في هذه المشاهد، بجانب غزارة القوة النارية التي تم استخدامها، وتنوع الأسلحة التي حازها المتقاتلون، لجوء حزب الله وحركة أمل -بشكل سريع- إلى تحميل حزب القوات اللبنانية مسؤولية أحداث اليوم، وهو موقف لافت بالنظر إلى أن هذا البيان صدر أثناء الاشتباكات، وهو ما يؤشر إلى وصول العلاقة بين الطرفين إلى مرحلة ستؤثر بشكل كبير على مستقبل الحكومة الحالية، وواقع الوضع اللبناني ككل.
على أي حال، اختبر اللبنانيون لبضع ساعات، مشاهد لم يراها سابقًا أغلب من حضروها اليوم، كان دور البطولة فيها للسلاح الكثيف والمنفلت، والضحايا فيها كانوا ستة وثلاثين ما بين قتيل وجريح، فهل تصل السفينة اللبنانية إلى محطة الانتخابات النيابية المقبلة بأقل الخسائر، أم أن خطوط التماس التي عادت إليها الروح لبضع ساعات اليوم، سوف تستيقظ بكامل وعيها في قادم الأيام؟ هذا ما ستجيب عنه تطورات ملف التحقيق في انفجار ميناء بيروت، الذي قد يكون سببًا في نزع فتيل الأزمة الحالية، او إشعاله.
باحث أول بالمرصد المصري



