
في الحادي عشر من الشهر الجاري توجه الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى العاصمة المجرية “بودابست” لحضور قمة “فيشجراد” التي تضم كل من المجر والتشيك وبولندا وسلوفاكيا، وتبرهن الزيارة على مدى عمق العلاقات التي تربط بين الجانبين؛ حيث تُعد مصر الدولة الأولى في منطقة الشرق الأوسط، والثالثة على مستوى العالم بعد كل من ألمانيا واليابان التي يتم دعوتها لحضور القمة. وجدير بالذكر أن الزيارة الحالية هي الثالثة للرئيس السيسي منذ توليه، وكانت الزيارة الأولى في يونيو 2015، والثانية في يوليو 2017 لحضور قمة “فيشجراد”.
ويُذكر؛ إن مصر شاركت في اجتماعات دول المجموعة لأول مرة على مستوى وزراء الخارجية في مايو 2014، فيما تم توثيق العلاقات في ديسمبر 2016، عندما استقبل وزير الخارجية المصري نظرائه من دول التحالف، لتوطيد آليات التشاور بين الجانبين في سياق استراتيجية “فيشجراد مصر” التي تعكس أهمية التحالف على أجندة أولويات السياسة الخارجية المصرية.
فخلال الزيارة سيقوم الرئيس “السيسي” بعقد مباحثات مع نظيره المجري “يانوش أدير”، ورئيس الوزراء “فيكتور أوربان” لبحث سبل توطيد العلاقات على كافة الأصعدة، وتنسيق الجهود على المستوى الدولي والإقليمي.
لذا تأتي مشاركة مصر في القمة تقديرًا لدورها الإقليمي؛ حيث سعى الرئيس “السيسي” من توليه لاستعادة مكانة الدولة المصرية في النظام العالمي كفاعل جيواستراتيجي، ورقم مهم في معادلة الاستقرار الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، من خلال إعادة إحياء ثوابت الدبلوماسية المصرية القائمة على قيم السلام والاستقرار، وحماية وحدة وسيادة الدول الوطنية، والتعاون مع الشركاء الإقليمين والدوليين بما يتوافق مع المصالح الوطنية للجانبين في إدارة أزمات المنطقة محل الاهتمام المشترك، وفي مقدمتهم الشركاء الأوروبيين، من خلال الزيارات رفيعة المستوى بين الجانبين، وإبرام اتفاقيات للشراكة والتعاون في شتى المجالات، كجزء من توجهه الخارجي الذي يُرسخ لاستعادة مصر دورها كفاعل دولي مؤثر في التفاعلات العالمية.
أهمية مُتزايدة
تكتسب القمة أهميتها من ثِقل الدول المشاركة فيها بجانب مصر؛ حيث تعد الدول الأربع (المجر، وسلوفاكيا، وبولندا، والتشيك) التي تعرف باسم “Visegrad four” واختصارًا لها “V 4″، نسبةً للمدينة المجرية التي استضافت قادة الدول الأربع لأول مرة في فبراير 1991. وبالنظر إلى قدراتها الديمغرافية فيبلغ عدد السكان تلك الدول ما يقرب من 64 مليون نسمة، أما قدراتها الاقتصادية فتعد خامس أكبر اقتصاد في أوروبا، والثاني عشر عالميًا، علاوة على إنهم يتمتعون بعضوية الاتحاد الأوروبي، فيما تضم سلوفاكيا جزء من منطقة اليورو، وعليه تمثل هذه الدول الأربع اقتصاديات واعدة سوقًا كبيرًا بالنسبة لمصر، يمكن الاستثمار فيها.
بجانب إنها خطوة إيجابية نحو توثيق العلاقات بين الجانبين، وفتح آفاق جديدة لعقد شراكات جديدة معهم. حيثُ تمتلك هذه الدول خبرات في العديد من المجالات الحيوية مثل الطاقة النووية، والزراعة، والري، والصناعات العسكرية، والتعاون الأمني، الأمر الذي يُعد فرصة لمصر للاستفادة منها. وبالفعل فقد سبق أن تم طرح مجموعة من الأفكار لتعزيز التعاون الصناعي والاستثماري بين مصر ودول الأربعة خلال القمة السابقة التي شارك فيها الرئيس ومازالت تحت الدراسة مثل إنشاء منطقة صناعية لهذه الدول في مصر، وتأسيس صندوق استثماري مشترك.
تأتي القمة سياق مواتي يمكن التطرق فيه إلى الجهود المصرية في مكافحة الهجرة غير الشرعية التي تستند فيها على منظور أخلاقي وإنساني في تعاطيها مع هذا الملف، دون الإضرار باللاجئين أو المصالح الأوروبية، بالإضافة إلى التطرق إلى مجالات جديدة للتعاون مثل صناعة اللقاحات المضادة لجائحة “كوفيد-19“، خاصة أن “مصر حرصت على توطين صناعة اللقاحات ليست فقط لتلبية احتياجات مواطنيها، ولكن أيضا للتصدير إلى القارة الافريقية، في محاولة لرأب الفجوة بين الدول النامية والدول المتقدمة في تلقي اللقاح، ونتطلع في هذا الصدد للتعاون مع دول التجمع لتحقيق هذا الهدف”، وذلك وفقًا لما أوضح الرئيس “السيسي” إبان كلمته خلال قمة “فيشجراد” اليوم.
كما أن القمة مهمة لمصر لتوضيح رؤيتها وما نتج عنها من سياسات تتناسب مع حجم التحديات والتهديدات التي تواجهها في الآونة الأخيرة، وهو بالفعل ما حاول الرئيس “السيسي” الإشارة إليه خلال كلمته على هامش القمة قائلًا: “أن دول المجموعة يجب أن تتفهم الوضع في مصر بشكل أكثر عمقًا”.
أنماط التعاون
استطاعت الدولة المصرية وضع تصور حول مكانتها في النظام الدولي، وإظهار نفسها إنها قادرة ومستعدة على العمل الجاد بالتعاون والتنسيق مع الشركاء والحلفاء الدوليين، بالاعتماد على كافة الآليات المتاحة لتشكيل اتجاه مستقبلي لنمط التوجه الخارجي، بجانب الاستجابة بفاعلية في إدارة أزمات المنطقة، لذا فقد أدركت هذه القوى الأوروبية أهمية مصر بالنسبة لهم، وهو ما تجسد في ترحيبهم بعملية الانتقال السياسي الذي حدث منذ عام 2013. كما سعت الدول الأربع وفي مقدمتهم المجر لتوطيد علاقاتها مع مصر على النحو التالي:
- الهجرة غير الشرعية: استطاعت الدولة المصرية من خلال توجهاتها الخارجية المتوازنة أن تقدم نفسها كشريك للأوروبيين يُمكنه التعاون معهم لاستعادة الأمن والاستقرار الإقليمي الذي عانى من تنامي الفاعلين العنيفين من غير الدول والمدعومين من قبل بعض القوى الدولية والإقليمية التي ترغب في الإضرار بالمصالح المصرية والأوروبية، ولديه القدرة على إدارة عدد من الملفات المشتركة مثل الهجرة غير الشرعية التي تمثل تحدي كبير لهم، وهو ما أشار إليه الرئيس “السيسي” خلال كلمته في مؤتمر “فيشجراد مع مصر” قائلًا: ” إنه لا توجد في مصر معسكرات للاجئين، رغم أن لديها 6 مليون مواطن من الهجرة غير الشرعية من عدة دول مختلفة، وتم التعامل معهم كضيوف ونقدم لهم كل الخدمات التي نقدمها للمصريين، من حيث الصحة والتعليم والسكن وغيرها من الحقوق”، مُضيفًا: “لا نقبل من منظور أخلاقي أو إنساني أن نتركهم في الطريق لأوروبا ويلقوا مصيرهم في البحر.. لن نسمح لهؤلاء الناس بالمجهول أو الضياع”. كما “أن ملف الهجرة غير الشرعية كعنوان يعكس شكل من أشكال حقوق الإنسان المفقودة في منطقتنا، وليس فقط منظور التعبير عن الرأي والممارسة السياسية، مشيرا إلى أن هناك أيضا حقوق كثيرة جدا لم تتوفر في المنطقة”.
- مكافحة الإرهاب: تعتبر قضية الإرهاب من القضايا ذات الاهتمام المشترك بين الجانبين؛ حيث ناقش وزيرا خارجية مصر والمجر في فبراير 2021، آليات التعاون والتنسيق المشترك لمواجهة التحديات الناجمة عن الإرهاب، والهجرة غير الشرعية. وفي هذا السياق أشاد وزير الخارجية والتجارة المجري بالدور المصري، مؤكدًا أن مصر “تستحق كل الدعم من الاتحاد الأوروبي”. إذ ينطلق الدعم المجري لمصر من تصورها أن استقرار مصر هو أفضل ضمان لاستقرار المنطقة، وهو ما تم ترجمته في مساندة بودابست للقاهرة في الحصول على مقعد في مجلس الأمن الدولي، فيما وافقت القاهرة على ترشيح المجر لعضوية مجلس حقوق الإنسان لعامي 2016-2017.
- التعاون التنموي: في إطار تبني مصر لإعادة هيكلة كافة القطاعات التنموية، عملت على إبرام شراكات متعددة مع المجر في عدد من القطاعات، أبرزها: قطاع النقل، ففي سبتمبر 2018، وقعت مصر على صفقة بقيمة 1.16 مليار يورو (حوالي 1.3 مليار دولار أمريكي) مع كونسورتيوم السكك الحديدية الروسية المجرية لاستيراد 1300 سيارة ركاب لهيئة السكك الحديدية المصرية. وفى قطاع الطاقة، وقع البلدين في أكتوبر 2020 على مذكرة تفاهم للتعاون في مجال النفط والغاز.
- التعاون العسكري: تعمل كل من مصر والمجر لبحث سبل التعاون العسكري بينهم وهو ما تجلى في زيارة وزير الدفاع المصري السابق “صدقي صبحي” للمجر في فبراير 2017، ولقائه بنظيره المجري “استفان سيميشكو” في بودابست؛ إذ ناقش الجانبان سبل تعزيز التعاون العسكري، وشدد “صبحي” و”سيميشكو” على أن التعاون يصب في “المصلحة المشتركة” لكلا البلدين. وفي سبتمبر 2019 استقبل وزير الدولة للإنتاج الحربي، رئيس الهيئة المجرية لدعم الصادرات، لبحث مدى إمكانية التعاون بين الجانبين، من خلال التطرق إلى قدرات الشراكات والوحدات التابعة لوزارة الإنتاج الحربي في مجال التصنيع العسكري والمدني.
- الشراكة الاقتصادية: تحرص القاهرة وبودابست على زيادة حجم التبادل التجاري بينهما، مع إمكانية فتح آفاق جديدة أمام الصادرات المصرية للاستفادة من أسواق المجر ودول وسط وشرق أوروبا، وهو ما تم إبان المحادثات التي جمعت بين وزيرة التجارة والصناعة “نيفين جامع”، ووزير الشؤون الخارجية والتجارة المجري في أكتوبر2020؛ حيث اتفق الجانبين على تعزيز الشراكة الاقتصادية والتعاون التجاري والصناعي. والجدير بالذكر أن حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ 354 مليون دولار، في عام 2019، في ارتفاع عن عام 2018 الذي قدر فيه بنحو 266 مليون دولار. أما الصادرات المصرية إلى المجر فبلغت 171 مليون دولار في عام 2019 مقارنة بـ 140 مليون دولار في عام 2018.
ختامًا: من المتوقع تنامي العلاقات بين دول مجموعة “فيشجراد” التي تضم كل من (المجر والتشيك وبولندا وسلوفاكيا) ومصر الشريك ذو المصداقية، خاصة في المجالات محل الأهتمام المشترك مثل الهجرة غير الشرعية التي تؤرق الأوروبيين لكونها أصبحت ورقة ضغط عليهم من قبل بعض القوى الأخرى مثل تركيا وبيلاروسيا، بالتزامن مع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان والتخوف من عودة تدفقات الهجرة على حدودها، الأمر الذي قد يكرر سيناريو عام 2015.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية