أوروباالعراق

التزام مُتجدد.. ماذا تريد فرنسا من العراق؟

عكست الزيارة الثانية للرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” إلى العراق في الثامن والعشرين من الشهر الجاري، -التي جاءت بعد أقل من عام على زيارته للأولى للبلاد في سبتمبر 2020، بعد تشكيل حكومة “مصطفى الكاظمي”، واستمرت لمدة يومين- مدى عمق وترابط العلاقات بين البلدين ورغبة فرنسا في لعب دور فاعل في دعم أمن وسيادة واستقرار العراق، ومساندة الحكومة في عملية الإصلاح الاقتصادي في إطار التمهيد لإجراء الانتخابات التشريعية المقرر عقدها في العاشر من أكتوبر القادم. 

الأمر الذي سيؤدي إلى عودة تدريجية لاستقرار العراق بعد ما شهدت العديد من الحروب والأزمات والتقلبات التي عصفت بسيادتها الوطنية، وساهمت في تنامي الفاعلين العنيفين من غير الدول على أراضيها، واستنزاف مقدراتها وثرواتها، وكلفت شعبها تقديم المزيد من التضحيات لعودة الاستقرار. 

كما حملت المزيد من الرسائل الإيجابية للحكومة والشعب العراقي وهو ما تجلى في كلمة الرئيس الفرنسي إبان مشاركته في “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة” -الذي جاء نتيجة عدد من التفاهمات والمحادثات بين البلدين- بجانب قادة كل من مصر والأردن وقطر وممثلين عن الإمارات والسعودية والكويت وإيران وتركيا، وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، التي أوضح خلالها ضرورة الاستمرار في مكافحة الإرهاب من أجل ضمان واستقرار أمن البلاد، وهو ما سيجعل فرنسا ملتزمة بالبقاء على الأراضي العراقية ميدانيًا بجانب القوات العراقية فيما يتعلق بالمهام القتالية والتكوين والتدريب. مع إيلاء الاهتمام بالمناطق المُحررة مثل سنجار وضحايا إرهاب “داعش” “الإيزيدين” فلا يزال مائتي ألف منهم نازح. مع الإشادة بالقوات العراقية التي استطاعت التصدي ومحاربة تنظيم “داعش”. 

وأكد على أهمية إجراء الانتخابات المقبلة في موعدها المقرر 10 أكتوبر 2021 لأن نجاحها سيكون في مصلحة الجميع، بالرغم من إنه تحدٍ في حد ذاته إلا إنه يمثل نصرًا للعراق، وعليه ستستمر فرنسا في البقاء لمواكبة الاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، هذا بجانب مساعدة العراق في مشاريع البنية التحتية، والتدريب، والصحة، والطاقة. 

ركائز التحرك

لم يكن التوجه الفرنسي نحو العراق ودعم سيادته الوطنية وشعبه حديث العهد، ولكنها جاءت مرتكزة على عدد من آليات التحرك التي تتجسد أبرزها على النحو التالي: 

  • سياسيًا: تتجلى في رفض التدخلات الخارجية في الشأن الداخلي العراقي دعمًا لسيادته الوطنية، والحفاظ على استقرار النظام من الانهيار مرة ثانية لما له من مآلات سلبية على منطقة الشرق الأوسط بل وفرنسا والأمن الأوروبي، وذلك من خلال تقديم كافة أشكال الدعم السياسي والاقتصادي والإنساني؛ حيث تعد فرنسا من أكبر الدول المشاركة في التحالف الدولي لمحاربة “داعش” من حيث عدد القوات، بجانب مشاركتها في بعثة حلف شمال الأطلسي المتواجدة في العراق. كما وقع وزيرا خارجية الدوليتين في مايو 2019 خارطة طريق استراتيجية لتعزيز العلاقات بين البلدين اقتصاديًا وثقافيًا وتعليميًا وتنمويًا. فضلاً عن الزيارات المتبادلة رفيعة المستوى فخلال العام الماضي؛ زار الرئيس “ماكرون” بغداد في 2 سبتمبر، فيما استضاف قصر الإليزيه رئيس الوزراء “مصطفي الكاظمي” في أكتوبر من نفس العام للتأكيد على قوة العلاقات بين البلدين. 
  • إرساء الاستقرار: عملت فرنسا على دعم المناطق المحررة من قبضة “داعش” حتى لا تستطيع العودة إليها مرة ثانية؛ حيث حصلت بغداد في عام 2020 على عشرة مليون يورو من مركز الأزمات والمساندة التابع لوزارة أوروبا والشئون الخارجية لتحتل بذلك المركز الثاني في قائمة الدول المستفيدة من المساعدات المقدمة من فرنسا. وقد تم توجيه المبلغ لصالح إعادة تأهيل قسم العمليات الجراحية في المركز الصحي في منطقة سنجار التي تم تحريرها في عام 2017، كخطوة لبناء مستشفى جديدة بتمويل فرنسي. 
  • اقتصاديًا: تجسدت في المشاركة في إعادة الأعمار، وزيادة الاستثمارات وشراكته الاقتصادية، وهو ما تجلى في التوقيع على مذكرة تفاهم بين الجانبين في نوفمبر 2019، لزيادة حصة فرنسا في السوق العراقي التي تصل إلى 1%، من خلال تقديم تمويل يبلغ قدره مليار يورو على مدار أربع سنوات لتشجيع إعادة الإعمار عبر القروض السيادية، والتأمين على العقود الكبيرة التي تشارك فيها شركات فرنسية، علاوة على قروض لمشاريع تقوم بها الوكالة الفرنسية للتنمية. ويذكر أن قيمة التبادلات التجارية بين البلدين في عام 2019 ما يقرب من 1.31 يورو، كما تتواجد الشركات الفرنسية في السوق العراقي، مثل (توتال وبيرينكو في مجال الطاقة)، و(إيرباص، وآ دي بي إي، ورينو تراكس، وتاليس، وسي إم آ-سي جي إم في النقل)، و(سانوفي في مجال الصحة). والجدير بالذكر إن الحكومة العراقية قد أعلنت في نهاية شهر مارس 2021، إن العراق وقع اتفاقًا مع شركة “توتال” الفرنسية يشمل أربعة مشاريع في الغاز الطبيعي والطاقة الشمسية وإعادة معالجة مياه البحر، كما ستبني الشركة منشأة لإنتاج الغاز الطبيعي في خمسة حقول نفطية جنوبية.
  • جيوستراتيجيًا: تعد العراق من أهم القوى الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط التي تسعى لاستعادة مكانتها في النظام الدولي من خلال تبني عدد من الإجراءات والاصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لإعادة بناءها مرة ثانية، بما يتوافق مع مصالحها الوطنية، هذا بجانب اضطلاعها بدور خارجي يساهم في خفض التوتر وحالة عدم الاستقرار في محطيها الإقليمي، عبر انتهاج جهود الوساطة بين القوى الإقليمية غير المتوافقة لتقريب وجهات النظر حول إدارة الملفات محل الاهتمام المشترك مثل السعودية وإيران، فضلاً عن تعزيز علاقاتها مع شركائها الإقليمين وفي مقدمتهم مصر والأردن. لذا تمثل العراق قوة صاعدة إقليميًا وشريك يمكن الاعتماد عليه في مكافحة الإرهاب، وخاصة في إطار تغير المشهد السياسي والأمني في المنطقة، الذي أسفر عن معطيات جديدة فرضت نفسها على طاولة صانع القرار الإقليمي والأوروبي. 

اهتمام متصاعد

تزامنت زيارة “ماكرون” في العراق مع تنامي تداعيات الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وسقوط العاصمة الأفغانية “كابول” على يد حركة طالبان، وعودة ظهور التنظيمات الإرهابية مثل “ولاية خراسان” التابعة لتنظيم “داعش” في أفغانستان التي أعلنت عن مسؤوليتها عن التفجير الانتحاري الذي وقع قبل القمة بيومين في مطار كابول، وراحة ضحيته العشرات، الأمر الذي فرض نفسه على الزيارة بجانب التأكيد على أهمية مكافحة الإرهاب، وقد سبق أن صرحت فرنسا بإنها ترفض أن تكون أفغانستان ملاذًا للإرهابيين، وامتدادًا لهذا حملت الزيارة عدد من الأولويات التي تحظى بالاهتمام الفرنسي تتجلى أبرزها فيما يلي: 

  • المواءمة السياسية: مثّلت التحركات الفرنسية في المنطقة تفهم واضح للمتغيرات المحلية والإقليمية المتلاحقة، ومدى تداعياتها الممتدة على أمن واستقرار فرنسا، علاوة على الرغبة في تجنب تكرار سيناريو عام 2015، وما تعرضت له باريس من موجات من الهجمات الإرهابية التي راح ضحاياها العديد من الفرنسين، ودفعها للمشاركة في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش”، ومواجهة تدفقات الهجرة غير الشرعية التي نتجت عن حالة الفوضى في المنطقة. 

وهو ما أثر على الداخل الفرنسي بشكل كبير، لذا فإن استقرار المنطقة وتعزيز قدراتها على المواجهة سيساهم في خفض التوتر، وسينتج دول ذات سيادة -خاصة التي تعرضت لعدد من الحروب- قادرة على أن تكون شريك يمكن لفرنسا الاعتماد عليه في إدارة الملفات المشتركة مثل الإرهاب والهجرة. وهو ما يمكن الاستدلال عليه فخلال القمة التقى “ماكرون” بشكل منفصل مع أمير قطر، لبحث كيفية تنظيم المزيد من عمليات الإجلاء بعد الموعد الذي حددته واشنطن في 31 أغسطس، ويرجع ذلك لإن قطر تمتلك اتصالات مع طالبان. 

  • استثمار انتخابي: يُظهر توجه “ماكرون” كشريك لدول المنطقة منذ توليه في عام 2017، ومحاولته للتعاون والتنسيق مع الشركاء الإقليمين لاستعادة الاستقرار، رغبته في تعزيز نفوذه خارجيًا لزيادة وتحسين صورته وشعبيته داخليًا، وخاصة إنه يواجه عدد من التحديات المتتالية، بجانب تداعيات أزمة الفيروس التاجي، وتنامي حالة المقاومة ضد إجراءات احتواء تفشي الجائحة، بالتزامن مع اقتراب الانتخابات الرئاسية التي من المقرر إجراءها في النصف الأول من العام المقبل، وسعيه أن يكون جزء من هذا السباق الانتخابي للمرة الثانية.  
  • مكافحة الإرهاب: لا يزال ملف الإرهاب يحتل أولوية لدى صانع القرار الفرنسي، وهو ما تجلى في عزمه على الاستمرار في التصدي لهذه الظاهرة التي تهدد دول المنطقة، وتمتد تداعياتها على فرنسا. وعليه فقد أكد على استمرار التواجد في العراق بغض النظر عن الخيارات التي يتخذها الأمريكيون. علاوة على دعم المناطق المحررة من قبضة “داعش”، فخلال تواجده في العراق قام بزيارة الموصل التي كان يتخذها التنظيم عاصمة له، وكنيسة “سيدة الساعة” التي كانت تحت سيطرة “داعش” وقام بتدميرها، ومسجد النوري الذي أعلن منه “أبو بكر البغدادي” إقامة “الخلافة” في عام 2014، وقد تم تفجّيره من قبل تنظيم في يونيو 2017. 

الأمر الذي يحمل في طياته رسائل ذات أبعد جيوسياسية، توضح أن العراق الذي يتمتع بتنوع الثقافات هو جزء أصيل من تاريخ البلاد، لابد من احترامه لتحقيق التوازن الداخلي والرخاء للشعب العراقي بكل طوائفه. وقد سبق ذلك زيارة “ماكرون” مرقد الإمام “موسى الكاظم” وهو مقام ديني لدى الطائفة الشيعية،  للتأكيد على أهمية اصطفاف جميع مكونات الشعب للنهوض بلادهم، دون أي تدخل خارجي يقوض من سيادتها، وذلك من خلال رسالة إنسانية تحمل أبعاد سياسية. 

  • دعم الأكراد: اختتم “ماكرون” زيارته بالتوجه نحو عاصمة إقليم كردستان العراق “أربيل”، والتقى برئيس الإقليم “نتجيرفان بارزاني”، وعقد معه مؤتمر صحفي مشترك صرح خلاله عن تضامنه مع الإقليم ولاسيما في مكافحة “داعش”، علاوة على لقاء “مسعود بارزاني”. وبعد ذلك قام بزيارة القوات الخاصة الفرنسية المتواجدة في معسكر غرينير.

ختامًا: من المتوقع تنامي الدور الفرنسي في المشهد العراقي كشريك ذو مصداقية، يرغب في دعم ومساندة الحكومة والشعب العراقي لتقرير مصيره، وذلك من خلال ضرورة استمرار التعاون في مكافحة الإرهاب، وعقد الانتخابات المقبلة في موعدها المقرر دون تأخير، الأمر الذي سيوفر مساحة من الحوار السياسي والتفاهم بين القوى الداخلية. وهنا لابد من عدم التغافل عن التحديات التي قد تعرقل العلاقات بين الجانبين وخاصة من قبل القوى الإقليمية التي تؤثر على الأوضاع الداخلية مثل إيران وتركيا. 

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

آية عبد العزيز

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى