أفغانستان

“تقارب حذر”.. سيناريوهات العلاقة المستقبلية بين “إيران” و”طالبان” بعد سقوط “كابول”

مثلما ترسّخت في أذهان الإيرانيين، ذاكرةُ حرب الثمان سنوات مع العراق (1980-1988)، لم يغب عن بالهم يوما، خلال تناولهم لقضية التعامل مع حركة “طالبان” الأفغانية، مقتل 10 من دبلوماسييهم في مدينة “مزار شريف” شمالي أفغانستان حين دخلتها الحركة يوم 8 أغسطس 1998. فقد كانت هذه الحادثة بمثابة دليل واضح على توجهات “طالبان” بشأن التعامل مع النظام الإيراني أو الدولة الإيرانية ككل.

وارتفعت بعد هذه الحادثة الأصواتُ من جانب سياسيين كُثُر في طهران من أجل شن حرب ضد “طالبان”. ولكن على الرغم من موافقة المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني آنذاك على شن الحرب، إلا أن المرشد الأعلى، علي خامنئي، لم يوافق على هذا القرار.

ووعد رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني آنذاك، الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني، بالانتقام للضحايا. وهو وعدٌ أكد عليه مرة أخرى منذ أشهر وزير الخارجية محمد جواد ظريف أثناء حديثه مع قناة “طلوع نيوز” الأفغانية الناطقة بالفارسية خلال حوار نُشر في شهر ديسمبر 2020 حينما سُئل “هل تنتقمون من طالبان؟”، ليرد قائلاً “إننا لم نعف ولم ننس”.

ولكن، بعدها وبسنوات قلائل، حين غزت الولايات المتحدة أفغانستان في 2001، تبدل الوضع بشكل كبير بين الحركة وإيران، وبدا أن التقارب بينهما سيأخذ مسارا تصاعدياً.

فقد رأت إيران أن دعم “طالبان” سوف يساعد في توجيه أنظار الأمريكيين بعيداً عن الهجوم على الأراضي الإيرانية، ما دفعها لدعم الحركة، بل وتدريب عناصر تابعة لها، كما اتضح لاحقاً، على يد الحرس الثوري في بعض المحافظات، مثل كرمانشاه غربي إيران.

واستمرت العلاقة بين “طالبان” وإيران على هذا النمط طوال العِقدين الماضيين إلى أن سقطت العاصمة كابول في يد الحركة يوم 15 أغسطس 2021. وعندئذ، بدا أن مستقبل العلاقة غامض، ويحتاج إلى التفسير بشأن العديد من النقاط. فالحركة الأفغانية تتبنى إيديولوجية معادية بشكل جوهري للنظام في طهران، كما أنها ومن الناحية السياسية والاقتصادية تُعد حليفاً أقرب للمنافس الباكستاني على الأراضي الأفغانية. وليس بعيداً عن هذا كله، سيشكل النموذج “الطالباني” تحدياً قوياً لإيران فيما يتعلق بنفوذها في إقليم آسيا الوسطى.

وقد دفع هذا إلى إيجاد اختلافات عميقة في الآراء داخل المؤسسات العسكرية والتيارات السياسية ووسائل الإعلام الإيرانية منذ 15 أغسطس وحتى الآن حول الطريقة المثلى للتعامل مع “طالبان”. حيث شجع البعض في الداخل الإيراني على الاعتراف بحركة “طالبان” الأفغانية، ومن بينهم مؤسسات سياسية ومراكز صنع القرار، بينما أبرز البعض الآخر خشيته من النموذج “الطالباني” كمسؤولين بارزين في الجهاز الدبلوماسي الإيراني وقادة داخل صفوف الحرس الثوري إضافة لوسائل إعلام تدور في هذا الفلك كوكالة أنباء “تسنيم” المقربة من الحرس والتي دعا المسئول عن الملف الأفغاني بها، حسام رضوي، إلى تسليح الشيعة الأفغان من أجل الحرب ضد “طالبان”.

فكيف ستكون إذا ملامح العلاقة المستقبلية بين “طالبان” أفغانستان والنظام في طهران؟  

كان الدافع الرئيسي لدى الحكومة الإيرانية خلال السنوات الماضية وراء تعزيز العلاقة مع “طالبان” مناهضة للوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان بوجه خاص ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام. أما بعد بدء انسحاب الولايات المتحدة وقوات حلف شمال الأطلنطي (ناتو) خلال الأسابيع الماضية، فقد بدا أن الهدف الأساسي من وراء دعم إيران لـ”طالبان” قد انتهى، وبدأت تبرز على السطح بشكل أكبر تلك المخاطرُ التي يمكن أن تسببها الحركة للجارة إيران.

ولإيضاح شكل العلاقة المحتملة بين حركة “طالبان” وإيران بعد سقوط العاصمة الأفغانية كابول مؤخراً، ينبغي التطرق أولاً إلى التحديات التي يشكلها هذا الصعود “الطالباني” لطهران، لنتناول لاحقاً السيناريوهات المحتملة لهذه العلاقة في ضوء تلك التحديات.

  • منافس إيديولوجي إقليمي:

يُعد من أخطر نقاط التحدي التي ستواجهها إيران خلال الفترة المقبلة من جانب أفغانستان هو التحدي الإيديولوجي الذي ستشكله حركة “طالبان” بعد استيلائها على السلطة في أفغانستان وخروج الرئيس أشرف غني. إذ تُعد “طالبان” بالأساس حركة “سنية حنفية” مسلحة تعادي في جميع الأحوال العقيدة الشيعية الأثنى عشرية التي يقوم عليها النظام في طهران. وتُعد هذه قاعدة دائمة لانطلاق أية خلافات مستقبلية بين الحركة وإيران. فنظرة “طالبان” هذه إلى النظام في إيران ستُنشِئُ بشكل مستمر خلافاتٍ بينية تتبعها أزمات أخرى على المستويات السياسية والاقتصادية. 

فمن ناحية، تفضل “طالبان”، حال استمرار سيطرتها على أفغانستان، التعاون مع الدول السنية القريبة منها وأبرزها باكستان، على النقيض من إيران، ما يعني منح إسلام آباد نفوذاً سياسياً أكبر وامتيازاتٍ اقتصادية أقوى في كابول. ويُتوقع أن يحد من مثل هذا النفوذ مشاركةُ الأعراق والطوائف المذهبية الأخرى في السلطة إلى جانب “طالبان”، مثل الطاجيك والأوزبك والهزارة، ولكنه في جميع الأحوال سوف لن يعني انتقاصاً من تنامي الدور الباكستاني أيضاً، إذ أن “طالبان” سيكون لها التأثير الأكبر داخل أية حكومة مستقبلية في أفغانستان إذا ما استمرت معادلة القوة على ما هو عليه داخل أفغانستان.

ومن ناحية أخرى، ستصبح حكومة “طالبان” في المستقبل عائقاً جغرافياً أمام الامتداد الإيديولوجي والسياسي للنظام الإيراني في منطقة آسيا الوسطى. حيث إن طهران لطالما سعت إلى دعم أحزاب وجماعات شيعية في دول منطقة آسيا الوسطى. وسيعزز من قوة هذا العائق أن أغلب شعوب آسيا الوسطى هم من المسلمين السنة وقليل منهم من المسلمين الشيعة، مثل طاجيكستان. هذا وإن كان العامل العرقي سيظل على الدوام عامل دفع في تقوية العلاقات ما بين الدولة الإيرانية، وليس النظام الإيراني الحالي فقط، وشعوب آسيا الوسطى.

لذا، فإن دول آسيا الوسطى ذات الأهمية الكبرى ستجد أمامها نموذجين إيديولوجيين متشابهين أحدهما شيعي في إيران والثاني سني على الطريقة “الطالبانية” في كابل. وهذا الثاني يوضحه “الدستور” الذي أصدرته الحركة عام 2005 والذي أكد أن رؤيتها للحكم تتشابه إلى حدٍ ما مع النموذج الإيراني، مع وجود اختلافات جوهرية.  

فما يُعرف بـ”أمير المؤمنين” لدى “طالبان”، أو “الزعيم الأعلى” على حد وصف العضو البارز بها “وحيد الله هاشمي”، سيكون هو الحاكم الفعلي في كابول ليوازي بذلك المرشد الأعلى في طهران. ويبدو أن حرساً ثورياً (سنياً) آخر سوف يتشكل في أفغانستان في ظل حكم الحركة بعدما أشار إلى ذلك هاشمي حين أوضح أن “طالبان” تعتزم تشكيل قوة عسكرية جديدة، بمعنى حل الجيش الأفغاني وتكوين “جيش إسلامي”. وليس خفياً تأكيدُ أكثر من عضو بارز في الحركة، وعلى رأسهم زعيمها الحالي “هبة الله آخوند زاده”، على رغبتهم في تأسيس “حكومة إسلامية”.

وعلى أي حال، فإن حركة “طالبان” سوف تشكل بلا شك تهديداً إيديولوجياً لنفوذ طهران في هذه المنطقة ولنموذجها في الحكم، ولن يستطيع النموذج الإيراني العبور إلى دول آسيا الوسطى من دون رخصة “طالبانية”.

ب‌-صعود القوى السنية المناوئة لـ “ولاية الفقيه” في إقليم وسط آسيا:

تملك باكستان، المنافس لطهران في أفغانستان، علاقاتٍ قويةً مع حركة “طالبان” تمكنها من لعب دورٍ بارز في مستقبل البلاد على المستوي السياسي في ظل التحولات الأخيرة. وقد بدا أن شيئاً من هذا الأمر سوف يتكرر مع تركيا بعدما وصف المتحدث باسم “طالبان” سهيل شاهين أنقرة بأنها “شريكنا الرئيس” قائلاً إن الحركة تنظر إلى تركيا كشريك رئيس في إعادة إعمار أفغانستان بعد الحرب “وبناء إمارة إسلامية”.

(خريطة توضح دول منطقة وسط آسيا، المصدر جوجل)

إن الجمع بين العلاقة السياسية القوية وتأثير إسلام آباد على الحركة ومستقبل الدور التركي في أفغانستان بناءً على ما صرحت به الحركة يعني انحصاراً وتراجعاً للدور الإيراني في ذلك البلد مستقبلاً، وذلك على النواحي السياسية والاقتصادية، خاصة وأن الصين تعتزم هي الأخرى إقامة علاقات سياسية واقتصادية قوية مع الحركة.

ومن جهة أخرى، سيقود وصول “طالبان” إلى الحكم في كابول إلى صعود وإعادة إحياء التيارات الإسلامية السنية في منطقة وسط آسيا وأن يواجه النموذج الإيراني الشيعي والتيارات السياسية الشيعية الأخرى تحديات في المنطقة.

ج- “يمن” مصغرة على الحدود:

لم تكد الولايات المتحدة الأمريكية تعلن عن عزمها الانسحاب من أفغانستان، إلا وبدأ الحديث عن مخاطر ذلك على الجارة إيران. فإذا كانت طهران تعتمد في مناطق سوريا والعراق وغيرهما على سياسة هجومية استباقية، إلا أنها سوف تجد نفسها في موقع الدفاع عن النفس هذه المرة أمام الساحة الأفغانية.

إذ أن الاضطرابات الأمنية الشديدة على الحدود الشرقية لإيران مع أفغانستان سوف تتسبب في حالة من التأهب الأمني الشديد والمتواصل من جانبها، فضلاً عن بروز وتفاقم مخاوف من استهداف محافظات إيرانية، كخراسان أو سيستان وبلوشستان، من جانب مجموعات إرهابية كـ”داعش” أو “القاعدة” انطلاقاً من الأراضي الأفغانية. كما أن علاقات “طالبان” المتشعبة بالعديد من القوى الخارجية ستعني من ناحية أخرى أن جبهة من جبهات الأمن القومي الإيراني باتت في يد آخرين.

لذا، فإن التوترات الأفغانية سوف تُحمّل إيران تكاليف أمنية باهظة وتستهلك من قدرات الحرس الثوري والجيش النظامي وتؤثر على انتشار الأول في المناطق الواقعة إلى الغرب من إيران.

د- الاقتصاد الإيراني ومستقبل الأزمة الأفغانية:

لعل من أهم وأبرز التأثيرات السلبية للأزمة الحالية في أفغانستان هي تداعياتها الاقتصادية المستقبلية على إيران. إذ يُخشى من حدوث موجات نزوح جماعية خلال الفترة المقبلة من أفغانستان باتجاه إيران، على الرغم مما بدا من عدم ترحيب إيران بهم خلال الأيام الماضية في ظل تفاقم الأزمة داخل أفغانستان. وقد يعمل هذا النزوح والهجرة على زيادة الأوضاع الاقتصادية سوءً في إيران، خاصة فيما يتعلق بالتوظيف والبطالة، أخذاً في الحسبان أن بعض التجار وأصحاب الأعمال الإيرانيين يميلون لتوظيف الأفغان؛ لانخفاض رواتبهم.

ومن ناحية أخرى، سوف تظل المناطق الشرقية في إيران مهددة حسب وتيرة تفاقم الأزمة الأمنية في أفغانستان. ولا ينبغي أيضاً تجاهل أنه كلما انخرطت إيران أكثر في الأزمة الأفغانية، كلما زادت احتمالات استهدافها من جانب الجماعات المناوئة لها في أفغانستان، ما يشكل تهديداً ولو جزئياً لمستقبل الاستثمار والعملية الاقتصادية برمتها في إيران.

وإقليمياً، يُتوقع أن تقود علاقات “طالبان” الوثيقة مع باكستان، والمرجحة على هذا النحو مع الصين وتركيا، إلى انخفاض مستويات التجارة البينية الإيرانية مع أفغانستان “الطالبانية” لصالح إسلام آباد وبكين، وربما أنقرة؛ لأسباب سياسية تتعلق بطبيعة علاقة الحركة مستقبلاً بإيران. وكانت بوادر تبلور هذه الحالة هي نفي غرفة التجارة الإيرانية الأفغانية مؤخراً استمرار التجارة بين البلدين بعد سيطرة حركة “طالبان” على البلاد بما في ذلك العاصمة كابول.

وبالطبع، ستخسر طهران في هذه الحالة شريكاً تجارياً مهماً كان معدل التبادل التجاري بينهما وصل حتى وقت قريب إلى مليارات الدولارات.

السيناريوهات المستقبلية لعلاقة إيران مع “طالبان” الأفغانية

من الجدير في البداية الإشارة إلى أن علاقة إيران بحركة “طالبان” قد تعززت بعد الإطاحة بها من الحكم عام 2001 على يد الولايات المتحدة، وليس خلال فترة حكمها لكابول (1996-2001). حيث يُلاحَظ أن العلاقات بين الطرفين تتسم بالعداء طالما أصبحت “طالبان” هي الحاكم في كابول، ولكنها تتغير إلى النقيض عندما تصبح خارج السلطة.

أما حول مستقبل العلاقة بين الطرفين بعد سقوط كابول في 15 أغسطس 2021، فإن التهديدات سالفة الذكر، إلى جانب عددٍ من الملفات الأخرى الحيوية التي تهم صانع القرار الإيراني، سيقودان في المستقبل إلى “إجبار” إيران على التعامل مع حركة “طالبان” ولكن “بحذر”، وذلك في ظل فرضية استمرار حكمها لأفغانستان أو لأغلب ولاياتها البالغة 34.

ولعل من أبرز هذه الملفات دفع الأخطار والتوترات التي يمكن أن تنشأ على الحدود بين أفغانستان وإيران، وإيجاد مساحة اقتصادية للتحرك الإيراني، والتنسيق بشأن ملف اللاجئين الأفغان، إلى جانب محاولة السيطرة على أعداء مشتركين أو درء خطرهم كتنظيميّ “داعش” و”القاعدة” الإرهابيين.

كما تظل هنالك أهمية أخرى، وهي احتمالية لعب إيران في المستقبل القريب دوراً لإجهاض توسع النفوذ التركي في أفغانستان. حيث تبلورت في إيران خلال الفترة الأخيرة وجهات نظر تحذر من تمدد تركيا في أفغانستان ومخاطر ذلك على إيران. وكان من بين هذه وصف إحدى وسائل الإعلام الرسمية في طهران منذ أيام قليلة لدور أنقرة المتوقع في أفغانستان بأنه “محاولة لحصار إيران”. ومن المرجح أيضاً أن تحاول إيران الدخول في محادثات مع “طالبان” من أجل ضمان عدم تعرض الشيعة الأفغان لمضايقات أو اعتداءات من جانب الحركة، وعلى وجه الخصوص بعدما تعرض بعضهم بالفعل لمضايقات بعد الاستيلاء على كابول.

وعلى هذا، تختلط التهديدات الجدية مع بعض المصالح المهمة، والتي ستجبر إيرانَ في النهاية على التعامل مع “طالبان” المسيطرة على الحكم في كابول ولكن “بحذر”. وعلى ذلك، نتناول فيما يلي سيناريوهات العلاقة الإيرانية “الطالبانية” طبقاً للحالة السياسية التي ستفرزها الأحدث الجارية في وقت لاحق.

أ- السيناريو الأول.. حكومة ائتلافية تشمل “طالبان” والقوميات الأفغانية:

وهو سيناريو مرجح بشدة حسبما تشير إليه تقاريرُ حالية من اتجاه بعض الدول للاعتراف بـ”طالبان” شريطة تغييرها سلوكَها وإشراك القوميات والمذاهب الأخرى في الحكم ومنحهم حقوقهم. وفي ظل هذا الوضع، ستتمكن إيران في الواقع من التعاون مع الحكومة الأفغانية مستقبلاً، والتي تتشكل بأكثرية “طالبانية”، وأن يكون لها بعض الثقل في ظل تقاربها مع بعض الأقليات كالطاجيك أو الشيعة المنخرطين في الحكومة في هذه الحالة.

ولكن برغم هذا، فإن باكستان والصين يُتوقع أن يستحوذا على دورٍ سياسي واقتصادي أكبرَ في أفغانستان في ظل علاقة الأولى القوية بحركة “طالبان” واتجاه الثانية للاعتراف بها وبالتالي التقارب معها.

ولا يُتوقع في ظل هذا السيناريو ألا تحاول طهران تعزيز نفوذها في أفغانستان من خلال دعم أحزاب أو تيارات سياسية أفغانية تتبع للأقليات المُشار إليها. ويُعد هذا السيناريو مفضلاً لدى طهران؛ لأنه يحفظ لها مصالحها من جانب ويمكنها أيضاً من توسيع قاعدة انتشارها وتأثيرها في أفغانستان من خلال تقاربها إما مع “طالبان” أو القوميات القريبة منها، إضافة للشيعة الأفغان.

وقد عبر وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، علناً عن تأييده لمثل هذا السيناريو خلال مقابلة تلفزيونية له مع قناة “طلوع” الأفغانية الناطقة بالفارسية في ديسمبر 2020 حين قال “إنه من الضروري اليوم أن تصبح طالبان جزءً من الحل المستقبلي لأفغانستان وليس الحل المستقبلي”. وهو يشير هنا إلى الفرق بين أن تكون “طالبان” أحد أطراف السلطة في أفغانستان أو أن تصبح هي المسيطر الوحيد عليها.  

  • السيناريوالثاني.. سيطرة غير مكتملة لـ “طالبان” مع حالة من الفوضى والحرب الأهلية:

في هذه الحالة، ستعمل إيران على تعزيز تواجدها في أفغانستان من خلال دعم الأقليات الشيعية والعرقية، كالطاجيك والأوزبك، وتسليحهم بشكل أكثر وضوحاً أو دعم وتأسيس جماعات شيعية مسلحة بعينها على غرار مجموعة “فاطميون” الأفغانية في سورية والتي تدربت بالأساس على يد الحرس الثوري.

وتستطيع إيران القيام بذلك بالفعل؛ من خلال استغلال مخاوف جمة لدى الشيعة الأفغان من حكم مطلق لحركة “طالبان” وتكرار اعتداءات عليهم على غرار ما حدث في مزار شريف عام 1998، حينما قُتل الآلاف من الضحايا المدنيين على يد الحركة. وبهذه الطريقة، تستطيع إيران التأثير على مجريات الأمور في الداخل الأفغاني والتأثير بشدة على مستقبل الحركة في أفغانستان، خاصة لو تمت هزيمتها أمام المجموعات العرقية والمذهبية الأفغانية المناوئة لها.

ولكن هذه الخطوة تحمل في طياتها تهديداتٍ خطيرة لأمن إيران؛ لأن “طالبان” لن تقف صامتة أمام دعم إيراني لقوميات عرقية أو شيعية على الأراضي الأفغانية، خاصة لو كان دعماً صريحاً ومباشراً. وربما، وهو أمر مرجح، يتطور الأمر في هذه الحالة إلى صراع عسكري مباشر بين “طالبان” وإيران، تضطر الأخيرة على إثره إلى التدخل العسكري المباشر في الشأن الأفغاني.

ولكن، وعلى الجانب الآخر، ربما يقلل من حدة التهديدات المُشار إليها تعاونٌ إيراني “طالباني” ضد “داعش” أو جماعات أخرى تشكل مخاطر للطرفين، خاصة إذا ما تم إحياء جماعات إرهابية أخرى لتشكل خطاً مضاداً وعدواً مشتركاً لـ”طالبان” وإيران معاً.

  • السيناريو الثالث … بقاء الوضع الحالي:

وهي الحالة التي تشهدها أفغانستان منذ سقوط كابول في 15 أغسطس الجاري. وتُعد استمرارية هذا السيناريو هي الأقل ترجيحاً؛ نظراً لما تشير إليه مجريات الأحداث المتتالية في أفغانستان من صعود نجم نجل قائد “تحالف الشمال” الأفغاني السابق أحمد شاه مسعود وتمركزه في وادي بنجشير شمالي البلاد ودعوته لحمل السلاح ضد “طالبان”.

ويجئ مسعود كواحد من بين الشخصيات الأفغانية التي تملك القدرة على شن حرب وفتح جبهة عسكرية ضد حركة “طالبان”؛ للعديد من العوامل من بينها اعتماده على حالة اللا انسجام بين البشتون والطاجيك والأوزبك من جانب ورفض كثيرٍ من الأفغان لحكم “طالبان” من جانب آخر. كما أن قادة سابقين في “تحالف الشمال” الذين كانوا تحت قيادة والده، مثل إسماعيل خان الذي استسلم مؤخراً للحركة، يقبلون بقيادة الابن مسعود.

وعلى أي حال، فإذا ما استمر هذا الوضع المُشار إليه خلال الفترة المقبلة، فإن إيران من المرجح أن تحاول المضي قدماً في التعاون بشكل موسع مع “طالبان” وعدم معاداتها أو استفزازها. وسينبع هذا من خشية طهران من تهديد الجماعات الإرهابية لها، خاصة في ظل احتمالات قوية بإعادة إحياءها بقوة. ويعتمد هذا السيناريو على استمرار سيطرة حركة “طالبان” على أغلب الولايات الأفغانية، مع عدم وجود مقاومة جدية من باقي المجموعات العرقية والمذهبية الأفغانية، ولذا فقد وُصف بالأقل ترجيحاً.

وعلى الرغم من توجه إيران، طبقاً لهذا السيناريو، للاحتفاظ بعلاقات ودية غير عدائية مع “طالبان، إلا أن ذلك لا يعني عدم دعمها للأقليات المذهبية والعرقية  المناوئة لـ “طالبان” في أفغانستان. ولكن، ينبغي القول إن مثل هذا الدعم سيتسم  بكثافة أقل وسيتم بطريقة غير مباشرة من وراء الكواليس؛ خوفاً من صدام مباشر مع الحركة التي يمكنها التسبب بمصاعب كبيرة للجارة إيران. وسيأخذ شكل هذا الدعم الإيراني تعزيزاً للقدرات العسكرية للأقليات الأفغانية “بشكل غير مباشر” أيضاً.  

وختاماً،

يجب التأكيد على أنه برغم التهديدات التي يشكلها الصعود “الطالباني” للحكم في كابول ضد إيران، إلا أن إمكان الصدام المباشر بين الحركة وطهران مستبعد بشكل كبير، مثلما هو الحال مع سيناريو انخراط إيراني عسكري مباشر في أفغانستان. إن طهران، وباستثناء سيناريو حالة الحرب الأهلية، ستحاول خلال الأيام المقبلة التعامل بحذر شديد مع “طالبان” على أمل الحفاظ على مصالحها التي تتصل بالأمن القومي مباشرة، إضافة لأهمية استقرار أفغانستان للاقتصاد الإيراني؛ حيث إن انخراطاً إيرانياً واضحاً في المشهد الأفغاني يعني بلا شك تهديداً كبيراً وجوهرياً للأمن القومي الإيراني، ويخاطر أيضاً بمخرجات ومكاسب الاتفاق النووي، حال تم التوصل إليه.

فعندما نتحدث عن دورٍ إيراني موسع في أفغانستان لا يجب أن نقارنه بذلك الآخر في العراق أو سورية؛ لأن التداخل والتشابك الثقافي والتاريخي والعرقي والجغرافي بين أفغانستان وإيران يجعل الأخيرة تتعامل بحذر شديد مع جارتها الشرقية.     

+ posts

باحث بالمرصد المصري

علي عاطف

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى