
“من زاوية أخرى”.. لماذا انهار الجيش الأفغاني أمام “طالبان” بشكل مفاجئ؟
أثار السقوط السريع للعاصمة الأفغانية، كابل، على يد حركة “طالبان” مؤخراً تساؤلاتٍ عدة بشأن أسباب هذا الضعف الواضح الذي ظهر عليه الجيش الأفغاني أمام تقدم الحركة.
فعلى الرغم من الدعم الذي تلقاه الجيش الأفغاني على مدى سنواتٍ طوال من واشنطن وقوات حلف شمال الأطلنطي(ناتو)، إلا أنه لم يستطع المقاومة والتصدي لعناصر “طالبان” التي لا يتجاوز تعدادها حسب أعلى التقديرات 80 ألف شخص في حين تخطى تعداد الجيش النظامي 300 ألف جندي.
وفي الواقع، فإنه إلى جانب حالة الضعف البنيوية واللوجستية التي كان يعانيها الجيش الأفغاني، فإن الفساد الذي كان مستشرياً داخله وضعف الروح المعنوية شكلا عاملين أساسيين في سقوطه السريع أمام حركة “طالبان”.
وهنا، سنركز في محاولة تفسير السقوط السريع للعاصمة كابل على إيضاح أوجه الفساد وضعف الروح المعنوية الذي كان يعانيه الجيش الأفغاني وقاد لهذه النهاية.
كيف شكل الفساد وافتقاد العقيدة القتالية عاملين أساسيين في عدم صمود الجيش الأفغاني؟
كان للفساد الإداري والمالي داخل الجيش الأفغاني، قبل سقوط العاصمة كابل يوم 15 أغسطس الجاري، دورٌ أساسي في عدم قدرته على الصمود أمام تقدم قوات حركة “طالبان” وسيطرتها على عشرات المدن قبل دخولها العاصمة.
وقد اختلط هذا الفساد بإهمال بث الروح المعنوية للجنود ووضع عقيدة قتالية واضحة للجيش.
أزمة القيادة العسكرية: التحزب داخل الجيش
لقد عانى الجنود الأفغان خلال السنوات الماضية من عدم التدريب الكافي والنقص في الإمدادات والمعدات العسكرية خلال مواجهاتهم مع الجماعات الإرهابية. وإلى جانب هذا، لم يكن كثيرٌ من القادة العسكريين أنفسهم على دراية واسعة بفنون القتال، ما جعل الجنود ضحايا لضعف القيادة.
وكانت القيادة العليا للجيش الأفغاني متأثرة خلال السنوات الماضية بالانتماءات العرقية للمسؤولين بدءً من رئيس الجمهورية والرئيس التنفيذي وحتى القيادات الدنيا، ما تسبب في نشأة حالة من التحزب وعدم التنسيق داخل الجيش. فعلى سبيل المثال، بينما كان الرئيس الأفغاني السابق، أشرف غني، ينتمي إلى البشتون، كان الرئيس التنفيذي عبد الله عبد الله من قومية الطاجيك.

وتشوب بعض الخلافات علاقات هاتين القوميتين. وإذا رجعنا تاريخياً للوراء، سنجد أن الحرب بين الطرفين كانت مشتعلة بشكل غير مباشر خلال عقد التسعينيات. فبينما تتشكل أغلبية “طالبان” من قومية البشتون، شكل الطاجيك والأوزبك أغلبية “تحالف الشمال” السابق المناوئ للأولى والذي كان يقوده أحمد شاه مسعود، قُتل عام 2001، الذي برز نجله خلال الأيام الأخيرة كمناهض لحكم “طالبان” بعد دخولها كابل في 15 أغسطس.
وكنتيجة لهذه الاختلافات على المستويات العليا، واجهت وحدات الجيش حالاتٍ خطيرة من عدم التنسيق والتواصل كان لها آثارها فيما بعد خلال عمليات المواجهة مع “طالبان”، وهو ما جعل أيضاً القواعد العسكرية الحكومية الأفغانية تتحول بصورة مستمرة إلى الدفاع بدلاً من الهجوم. ولذا، فإن التخبط الواضح في التنسيق وهيكلية الجيش الأفغاني قد أضحت خلال السنوات الماضية أبرز مشاكله على الإطلاق.
وفي السياق نفسه، كانت العديد من وحدات الجيش الأفغاني لا تخضع لأوامر وزارة الدفاع، بل إن بعضها كان ينتمي لقوات الشرطة والآخر لمؤسسات أمنية أخرى. وفي هذا الصدد، نُشر تقرير دولي العام الماضي قال إن 18 ألف جندي فقط يعملون تحت قيادة وزارة الدفاع في كابل.
وعليه، فكثيراً ما أبرز الجنود الأفغان اعتراضهم على هذا التفسخ من خلال بث مقاطع فيديو مصورة على شبكات التواصل الاجتماعية ومن أبرزها “فيسبوك”.
وكان لهذه الحالة من التخبط تداعياتها على الجيش خلال المواجهات التي اندلعت الأسابيع الماضية بين الجيش و”طالبان”، حيث أضحت سبباً في استسلام كثيرٍ من وحدات الجيش الأفغاني أمام “طالبان” قبل وصولها للعاصمة، خاصة في المناطق الريفية.
ومن ناحية أخرى، أدى فقدان التنسيق إلى عدم تزويد جنود الجيش بالمعدات والإمدادات اللازمة، كالغذاء، ما كان له أثرٌ كبير في عدم صمود القوات الأفغانية أمام الحركة. وقد تجسدت هذه الحالة خلال شهر يوليو الماضي حين شكل نقص المواد الغذائية والإمدادات سبباً من أسباب سقوط مدينة قندهار في قبضة “طالبان”.
وقد عبرت هيئة مراقبة الإنفاق على المساعدات الأمريكية في أفغانستان خلال الشهر الماضي عن عدم ثقتها بقدرة الجيش الأفغاني على المقاومة حين قالت إن الجيش الأمريكي لا يملك وسائل كافية، أو لا توجد بالأساس تلك الوسائل، لمعرفة قدرة قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية عند الحاجة للعمل بشكل مستقل عن القوات الأمريكية على الرغم من إنفاق 88.3 مليار دولار أمريكي على جهود إعادة الإعمار ذات الصلة بالأمن في أفغانستان حتى شهر مارس 2021.
وأوضحت الهيئة أن الجيش الأمريكي يبالغ باستمرار في التفاؤل بشأن قدرة الجيش الأفغاني في ظل هذه الحالة.
افتقاد العقيدة القتالية كان من أخطر عوامل الانهيار
ويُعد من أبرز عوامل انهيار الجيش الأفغاني عدم وضع القيادة العسكرية له تعريفاً محدداً بشأن ماهية العدو. والأمر ذاته تكرر بشأن العقيدة القتالية. وقد أكدت على هذا هيئةُ التفتيش الأمريكية المختصة بإعادة إعمار أفغانستان (SIGAR) حينما نشرت مؤخراً تقريراً تفصيلياً عن الوضع الحقيقي داخل الجيش الأفغاني قالت فيه إن “هذا النمط من الهرمية غير العقائدية وغير المنضبطة يساهم بما يجري من تفكك، وفرار لعناصر الجيش حتى قُبيل دخول المعارك أمام مقاتلي طالبان”.
ولم تكن الإدارة الأمنية الأفغانية تعتمد في ذلك الوقت على التخطيط الإستراتيجي في مواجهة الجماعات الإرهابية، كما تحدد خطة واضحة لمواجهتها. بل إن بعض التقارير تشير إلى أن وزارة الدفاع لم تكن تعتمد على الخبراء المختصين.
وبالفعل، كان أفراد الجيش الأفغاني يفرون أو يستسلمون لعناصر “طالبان” في ظل وعود من الأخيرة بخروج آمن لهم، حيث كان لدى الجنود الأفغان اعتقاد بأن الحرب في الوقت الحالي هو قتال من أجل حكومة الرئيس أشرف غني.
تخاذل عن الدعاية الإعلامية في مواجهة حملات ترويج نشطة لـ”طالبان”

من الملفت للانتباه أن حركة “طالبان” قد حاولت خلال السنوات الماضية الانتشار بشكل مكثف داخل المجتمع الأفغاني. حيث تمكنت الحركة من التوصل إلى عشرات التوافقات مع أطراف أهلية أفغانية، كالقبائل والعشائر المحلية، داخل العديد من المناطق. وعلاوة على ذلك، اجتذبت الحركة بدعايتها كثيراً من الأفراد غير المتعلمين أو الفقراء في المناطق الريفية الأفغانية عن طريق استخدام شعارات دينية.
ونشطت الحركة كثيرا وضمت أفراداً إليها من خلال تكثيف التحركات داخل الفضاء الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعية. وقد دعا هذا كله الأكاديمية العسكرية الأمريكية مؤخراً إلى أن تُقدر العدد الحقيقي لعناصر “طالبان” بحوالي 200 ألف عنصر في مختلف أنحاء أفغانستان.
وعلى النقيض من ذلك، لم يعمل الجيش الأفغاني، كما سبق القول، على تدعيم الروح المعنوية لجنوده وترسيخ مبدأ العقيدة القتالية، أو الدعاية المعنوية للجيش بين المواطنين، ما كان سيشجع الكثيرين على الانضمام وسيرفع من الروح المعنوية لدى الجنود الذين هم في الخدمة.
وكنتيجة لهذا، لم يصمد الجنود الأفغان وشرعوا في ترك أسلحتهم والفرار أمام عناصر “طالبان” التي كثفت من دعايتها خاصة في الآونة الأخيرة. ويكفي لإيضاح تأثير ذلك الإشارة إلى ما قاله الجنرال الأفغاني قائد الوحدة 217 في الجيش “عباس توكلي” بعد سقوط كابل من أنه “لم تسقط أية منطقة (في أفغانستان) كنتيجة للحرب، ولكن سقطت بسبب الحرب النفسية”.
الفساد المالي والإداري سببب رئيس في انهيار الجيش الأفغاني
لعب الفساد المالي والإداري داخل الجيش الأفغاني خلال الـ 20 عاماً الماضية دوراً أساسياً في تفسخ الجيش وانهياره أمام “طالبان”. فلقد تسبب هذا الفساد فيما يخص عمليات شراء المعدات والإمدادات في ضعف هذه الأدوات الحربية وتهالكها، فضلاً عن عدم كفاية المواد الغذائية ذاتها.
وبنظرة أعمق داخل الجيش الأفغاني، سنجد أن الجنود العاديين كانوا محرومين من أبسط ما يمكن أن يساعدهم على أداء واجبهم العسكري كالغذء والزي العسكري المناسب. فكان هناك جنود يرتدون الزي الصيفي في الشتاء والعكس. بل إن توزيع الزي العسكري داخل الجيش الأفغاني كان متذبذباً على حسب الولايات. ووصل الأمر إلى معاناة الجنود من نقصان في الأحذية العسكرية التي كثيراً ما كانت تتآكل خلال أسابيع قليلة بسبب ما قالوا إنه استغلال من جانب الموردين التجاريين واستخدامهم لمواد خام غير جيدة.
وفي حال إصابتهم، لم يكن جنود الجيش الأفغاني بمقدرتهم الحصول على معاشهم إلا على فترات طويلة متقطعة تبلغ أشهراً طويلة في بعض الأحيان. وأثناء خدمتهم، لم يستطع بعض أفراد الأمن الأفغاني الحصول على رواتبهم لأشهر، كما أن الذخيرة نفسها كان يتم سرقتها قبل الوصول إلى الجنود لمواجهة “طالبان”.
ومن ناحية أخرى، كانت الصفقات الفاسدة داخل الجيش الأفغاني خلال السنوات الماضية من أبرز ما يمكن الحديث عنه بشأن عوامل ضعفه. حيث كانت صفقات النفط واللوجستيات غالباً ما تُدار بواسطة أفراد معينين لمصالح بعض الفئات على حساب القوات العسكرية. وعلى الرغم من ذلك، كان الجنود الأفغان يعانون بشدة من نقص المعدات العسكرية خلال مواجهاتهم مع “طالبان”.
وبرزت بالتوازي مع ذلك شبكات فساد كبيرة عملت على اختلاس الأموال. وقد أشار تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، نشرته الأخيرة خلال الشهر الجاري، إلى حجم هذا الاختلاس عندما أكد على أنه برغم تدوين حوالي 300 ألف شخص يعملون في الجيش الأفغاني، إلا أن العدد الحقيقي على أرض الواقع بلغ حوالي 50 ألف فقط، أي سُدس العدد المذكور.
وعلاوة على هذا، وصف تقرير (سيجار/ SIGAR)، المُشار إليه آنفاً، قادة الجيش الأفغاني خلال السنوات الأخيرة بأنهم كانوا يتصرفون كـ”أمراء حرب” ويرغبون في الحصول على أموالٍ ومغانم من خلال تكوين شبكات عائلية ومناطقية، ما جعل الجيش يفتقد لروح العقيدة العسكرية المتماسكة.
ولم ينحصر الفساد عند هذا الحد، بل إن سلاح الجو الأفغاني، الذي كان من الممكن أن يكون العامل الحاسم في مواجهة “طالبان” قد تم إهماله حين أصبح الأسطول الجوي الأفغاني المكون من 160 طائرة خارج الخدمة. وقد حدث هذا بعد خروج المتعاقدين مع سلاح الجو الأفغاني وإيقافهم التعامل مع الجيش، وهو ما قاد في النهاية إلى السقوط السريع لكابل.
وختاماً،
شكلت جميع هذه العوامل المادية والنفسية معاً أسباباً لتفسير السقوط السريع للجيش الأفغاني في مواجهته مع “طالبان” من إحدى زوايا المشهد، إلا أن انهياره يشمل من جهة أخرى عوامل إضافية لعل من بينها خروج الولايات المتحدة وقوات “الناتو” الداعمين الرئيسيين لقوات الأمن الأفغانية، واعتماد “طالبان” على سياسة الحصار المشدد وإطلاق النار الكثيف على المدن قبل دخولها.
باحث بالمرصد المصري