أوروبا

هل انتصرت أوروبا على اللاجئين؟

تحتل مشكلة الهجرة واللجوء رأس حزمة من التحديات الكبرى التي يواجهها الاتحاد الأوروبي، وهي تحديث الاقتصاد والطاقة والتهديدات الامنية والجيوستراتيجية وتنامي دور روسيا وصعود الصين والإرهاب الدولي، وترسيخ قواعد الوحدة الأوروبية. ومن بين كل تلك التحديات احتلت مشكلة الهجرة خلال السنوات الأخيرة مكانة خاصة في مجرى تطور العلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي والدول العربية باعتبار الأخيرة إما دول مصدر للمهاجرين أو دول معبرلهم. وتلقي جملة تطورات جديدة في هذا الملف المزيد من الأضواء على هذه العلاقات ومستقبلها في إطار التفاعلات بين أسباب الهجرة والنتائج المتحققة للطرفين وأنماط الاستجابات المتحققة.

في الوقت الذي تشدد فيه أوروبا قبضتها على محاولات الهجرة المستميتة من أو عبر المنطقة العربية واجهت بعض دول الاتحاد الأوروبي خلال الأسابيع الماضية تجربتين كشفتا عن حجم التحديات التي يواجهها الطرفان الأوروبي والعربي في هذا الملف والآليات المعتمدة في معالجتها. التجربة الأولى كانت التدفق المفاجئ لآلاف المهاجرين من المغرب إلى الجيب الذي تسيطر عليه إسبانيا في سبتة في شهر مايو الماضي والذي فجر أزمة سياسية ودبلوماسية كبيرة بين مدريد والرباط. أما التحدي الثاني فهو عبور الآلاف من العراقيين عبر بيلاروسيا إلى ليتوانيا مؤخرًا؛ طلبًا للجوء في دول الاتحاد الأوروبي، والذي أدى أيضًا إلى أزمة ثلاثية الأبعاد بين بروكسل ومينسك وبغداد.

جاءت الأزمتان على خلفية محاولة الاتحاد الأوروبي التوصل إلى سياسات محددة بشأن معالجة مشكلة الهجرة في ظل استمرار تدفق اللاجئين، ولو بنسب أقل مما كانت عليه قبل سنوات، وكذلك في ظل التباين في مواقف الدول الأوروبية في معالجة هذه المشكلة رغم وجود سياسات مشتركة بينها. ما هو متوفر من مؤشرات أن الاتحاد الأوروبي نجح إلى حد ما في التوصل إلى معالجة آنية لمشكلتي عبور اللاجئين من المغرب والعراق من خلال الضغوط الكبيرة التي مارستها الدول الأوروبية المعنية والاتحاد ذاته على حكومتي البلدين والتي أوقفت تحول التدفق المحدود إلى موجة جديدة.

جرس إنذار

وإذا كان الاتحاد الأوروبي قد كسب الرهان في الجولة الحالية معتمدًا على إمكانياته السياسية والدبلوماسية وأدواته الاقتصادية في الضغط على المغرب والعراق وتلافى موجتين من المهاجرين كادتا أن تفتح على دوله أبوابًا جديدة للهجرة، إلا أن الأزمتين أشارتا إلى ما كان يجري التحذير منه دائمًا من أن مشكلة الهجرة التي تواجهها أوروبا أكبر من أن تعالجها إجراءات احترازية قسرية وضغوط سياسية واقتصادية واتفاقات إذعان مع دول المصدر والمعبر بهدف غلق الأبواب أمام اللاجئين.

وتبنئنا الأرقام والتواريخ بأن أزمة اللاجئين الحالية في أوروبا بدأت بعد عام 2011، وهو عام مفصلي سيشكل نقطة تحول في تاريخ اللجوء والهجرات في المنطقة العربية التي شهدت هي ذاتها تدفق الملايين من الهاربين من الاضطرابات في دولهم، قبل أن ترنو أبصارهم إلى بلدان الانفتاح والنمو والفرص في أوروبا. ففي عام 2014 سجلت دول الاتحاد الأوروبي نحو 630.000 طلب للجوء سرعان ما ارتفع إلى حوالي 1.2 مليون طلب لجوء في العام التالي، معظمها جاء من فارين من أوطانهم عن طريق البحر الأبيض المتوسط، أو عبر الأراضي التركية الملاصقة لأوروبا.

وتكشف الأرقام أيضًا أن النسبة الكبيرة من طالبي اللجوء الذين تدفقوا إلى دول الاتحاد الأوروبي في عام 2015 -الذي دُعي بالعام الذي غيّر وجه أوروبا- جاءت من بلدان عربية وشرق أوسطية؛ إذ شكل السوريون نحو 46.7% والأفغان نحو 20.9% والعراقيون نحو 9.4%. أما اللاجئون الآخرون فقد جاؤوا من بلدان جنوب البحر الأبيض المتوسط ومن دول في القارة الأفريقية كنيجريا وإثيوبيا وإرتيريا وجنوب السودان. وفي حين أن لاجئي المجموعة الأولى كانوا فارين من الحروب الأهلية والصراعات، فإن أسباب لجوء الفئة الثانية كانت تعود إلى عوامل هي مزيج من نزاعات محلية وأسباب اقتصادية أدت إلى زيادة معدلات الفقر والبطالة، وأحيانًا الجوع.

تتضح من خلال عملية تحليل للفترة الزمنية التي شهدت اتساع الأزمة ومصادر الهجرة أنها ارتبطت أولًا بالانهيارات التي حصلت في أفغانستان والعراق جرّاء الاحتلال الأمريكي للبلدين بداية العقد الأول من القرن ثم بإحداث الانتفاضات التي شهدتها بعض الدول العربية كسوريا واليمن وليبيا وتونس عام 2011 والتي تدهورت الأحداث فيها إلى صراعات وحروب أهلية أدت بدورها إلى موجات نزوح داخلية وهجرات خارجية واسعة النطاق فاقت تدفقات اللاجئين من المنطقة التي كانت تجري بصورة أقل اندفاعًا خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي.

حرب أوروبا على اللاجئين

جرت الاستجابة الأوروبية لأزمة عام 2015 وفق استراتجيات متعددة الأبعاد جنّد لها الاتحاد الأوروبي كل طاقاته السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية من أجل وقف الموجة التي كادت أن تغرق مدنًا أوروبية بالملايين من طالبي اللجوء لولا الاستراتجية الوقائية التي وضعت على عجل. كانت أهم الخطوات غير العسكرية هي الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع تركيا والذي قبلت بموجبه حكومة رجب طيب أردوغان بوقف سيل اللاجئين عبر البحر إلى اليونان، أو عبر البر إلى باقي بلدان أوروبا مقابل صفقة كان الجزء المالي منها يتضمن حصول تركيا على نحو 6 مليار يورو لمساعدتها في تمويل استضافتها للاجئين في حين تضمن الاتفاق جوانب أخرى تتعلق بالعلاقات الثنائية وكذلك تسهيل حصول المواطنين الأتراك على تأشيرة شينجن الأوروبية. وفي نفس الوقت توصل الاتحاد إلى تفاهمات أخرى مع عدد من دول جنوب البحر الابيض المتوسط ضمنت قيام هذه الدول بإجراءات فعّالة من أجل وقف تدفق اللاجئين عبر أراضيها أو مياهها الإقليمية لقاء تعاون في مجالات متعددة.

على الجانب الأمني أطلق الاتحاد الأوروبي “عملية صوفيا” (Operation Sophia) وهي قوة بحرية عسكرية كان الهدف المعلن منها هو “تحييد” الهجرة غير الشرعية عبر البحر الأبيض المتوسط من خلال السيطرة على خطوط التهريب في البحر. كان الهدف الرئيس للعملية هو ضمان أمن الحدود الجنوبية للقارة وتقليص عدد الواصلين إلى سواحلها من خلال تطوير مجهود منظم لدول المجموعة للتعرف على منابع الهجرة إلى أوروبا وتحديد شبكات تهريب البشر وإلقاء القبض عليهم والاستيلاء على السفن المستخدمة في التهريب، أو إجبارها على العودة إلى موانئها في شمال أفريقيا.

كانت الخطوة الثانية هي تعزيز عمل الوكالة الأوروبية لحراسة الحدود والسواحل “فرونتيكس” (Frontex) التي أسسها الاتحاد الأوروبي عام 2004 للسيطرة على المعابر الخارجية وفق اتفاقية شينجن. ووفقًا لقرار اتخذه البرلمان الأوروبي فقد تم إعادة هيكلة “فرونتيكس” عام 2016 لكي تصبح قوة متخصصة، وتم تجهيزها بما تحتاجه مع قوات ومعدات وسفن كي يكون باستطاعتها العمل في المياه الدولية وخارج الأراضي الأوروبية بالتعاون والتنسيق مع المؤسسات البحرية والأمنية والعسكرية للدول الأعضاء في الاتحاد. وخلال السنوات الماضية تم رفع تخصيصات قوة “فرونتيكس” من 143 مليون يورو عام 2015 إلى 543 مليون يورو عام 2021 في حين يجري التخطيط لتطويرها بما يمكنها من زيادة عدد أفرادها إلى 10.000 فردًا بحلول عام 2027.

وعسكريًا أيضًا، فقد استخدم الاتحاد الأوروبي القوة البحرية في البحر الابيض المتوسط المسماة عملية إيريني (Operation IRINI) والتي أنشئت عام 2020 بهدف تنفيذ قرارات الأمم المتحدة الخاصة بحضر الأسلحة المفروض على ليبيا، والتجارة غير الشرعية بالبترول الليبي، وكذلك تدريب حرس خفر السواحل الليبية، وعرقلة نشاطات الإتجار بالبشر عبر البحر الأبيض المتوسط. وخلال هذه الفترة القصيرة نشطت عملية إيريني بشكل ملحوظ، وخاصة من خلال الزيارات، أو الغارات التي كانت تشنها على السفن المشتبه بها، أو من خلال مراقبة الموانئ والمطارات، إضافة إلى المراقبة الفضائية للملاحة عبر المركز الأوروبي للأقمار الاصطناعية التابع للاتحاد.

وإضافة إلى عسكرة جهود مكافحة الهجرة من خلال هذه المؤسسات البحرية ومنشآت حراسة الحدود الجنبوية التي ساهمت فيها سفن وطائرات ومسيرات وغواصات من 27 بلدًا، فقد لجأت دول الاتحاد إلى تعاون سياسي واستخباري وأمني مع بلدان جنوب المتوسط بغية محاربة تهريب البشر، ليس فقط في المياه الإقليمية لتلك الدول، بل وعلى أراضيها، وإقامة معسكرات احتجاز، والقيام بعمليات استباقية لمكافحة الهجرة، وخاصة جنوب الصحراء، وكذلك إعادة المتسللين الذين يمكنهم الوصول إلى دول الساحل. وسواء لجأت الدول الأوروبية إلى التهديد أو الوعيد فإنها نجحت بلا أدنى شك في تقليص حجم تدفق اللاجئين إلى أراضيها دون أن تتمكن من أن توقف ذلك فعليا.

وفي إطار جهوده في مكافحة الهجرة، أنشأ الاتحاد الأوروبي مراكز لإيواء طالبي اللجوء؛ بعضها على تخوم أراضي الاتحاد وبعضها الآخر في دول بعيدة جدا مثل النيجر ورواندا في وسط أفريقيا. ففي اليونان أُقيم معسكر إيواء في جزيرة ليسبوس القريبة من الشواطئ التركية والذي يأوي اليوم نحو 15.000 طالب لجوء بدعوى فحص طلباتهم، في حين تجري جهود حثيثة لإنشاء “مراكز احتجاز مغلقة” في الجزر اليونانية لمواجهة طوارئ جديدة. وفي الوقت الذي نجح فيه الاتحاد الأوروبي في كبح جماح عبور اللاجئين من بلدان الساحل الجنوبي عبر تفاهمات مع حكوماتها، فإنه مضى أبعد من ذلك في إقامة مركز عبور (transit center) في النيجر نقل إليه آلاف اللاجئين من ليبيا، وتتم فيه دراسة طلبات اللاجئين الأفارقة قبل وصولهم إلى دول الساحل الجنوبي للبحر الأبيض، وكذلك مركز إيواء في رواندا نقل إليه طالبي لجوء تم توقفيهم في ليبيا. 

وبالرغم من خروجها من الاتحاد الأوروبي بداية هذا العام وابتعادها الجغرافي نسبيا عن البحر الأبيض المتوسط إلا أن المملكة المتحدة تنتهج سياسات ربما أكثر تشددًا من دول الاتحاد في محاولة كبح محاولات اللجوء لديها. فابتداءً من الشهر الأول هذا العام وضعت بريطانيا أحكامًا وشروطًا مشددة بالنسبة للحصول على تأشيرات الدخول وطلبات العمل والهجرة أمام مواطني طائفة كبيرة من الدول. وبسبب كونها وجهة مفضلة للناطقين بالإنجليزية فلا زالت بريطانيا تحظى بطلبات الآلاف من اللاجئين الموجودين داخلها أو في بلدان أخرى والذين ينتظرون الموافقة على طلباتهم دون أن تبذل السلطات البريطانية جهدًا في معالجة طلباتهم. وفي مواجهة محاولات العبور إلى بريطانيا من البر الأوروبي فقد اتخذت حكومات حزب المحافظين المتتالية إجراءات مشددة لوقف موجات التدفق عبر البحر وخاصة من فرنسا تتضمن حجز القادمين ورفض طلبات تسجلهم رسميًا، والتفكير في خطط لإرسالهم إلى معسكرات الاحتجاز في ليسوس اليونانية والى رواندا.

وفي إطار أوسع، تمكنت الدول الأوروبية من الحصول على دعم دولي كبير لسياساتها المتعلقة بالهجرة؛ إذ لا تتلقى انتقادات علنية أو تواجه ضغوطًا من قبل وكالتي الهجرة الرئيستين، وهما مفوضية الامم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR) ومنظمة الهجرة الدولية (IMO) اللتين أصبحتا لا تتشددان بالقدر الكافي على ضرورة التزام الدول الأوروبية بالعهد الدولي لعام 1951 والذي ينص على عدم جواز تجريم دخول اللاجئين إلى أراضي أي بلد؛ بهدف طلب الحماية إذا ماكانوا فارين من أراضٍ يشعرون فيها بالتهديد والمخاطر على حياتهم. وفي تحول جذري في عمل المنظمتين اللتين تعتمدان على تمويل كبير من دول الاتحاد الأوروبي لجهازيهما البيروقراطيين، فقد أخذتا تنتهجان سياسات تتلاءم مع استراتيجيات تقليل طلبات اللجوء وإعادة التوطين وأساليب تشجيع أو دفع طالبي الهجرة إلى العودة إلى بلدانهم أو البقاء عند طرف ثالث.

ولقد مضت المجموعة الدولية إلى تقديم دعم أكبر لأوروبا في مسعاها لإيقاف الهجرة إلى أراضيها حين حصلت عام 2018 على اتفاق إطار سمي بـ(The Global Compact on Refugees) الذي أقرته الجمعية العامة للامم المتحدة ووضعت له خارطة طريق في مؤتمر عقد في مراكش تتعامل مع مشكلة الهجرة بما ينسجم مع توجهات الدول المضيفة. فحسب توصيات المؤتمر فقد تم وضع أربعة أهداف رئيسة لمنظومة العمل الدولي بشأن اللاجئين وهي: رفع الضغوط عن الدول المضيفة والمستقبلة وتعزيز قدرات الاعتماد على الذات لدى المهاجرين وتوسيع فرص الوصول إلى أطراف ثالثة ودعم الظروف في بلدان المنشأ من أجل تأمين عودة اللاجئين بأمن وكرامة، وهي كلها توصيات تنسجم مع أهداف الاتحاد الأوروبي وباقي الدول المضيفة.

أوروبا جزء من أزمة عالمية أكبر

على الجانب الآخر، تتفاقم مشكلة اللاجئين عالميًا كما تتصاعد الحاجة لإعادة توطينهم، فوفقًا لتقرير المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين (UNHCR) فإن العالم شهد العام الماضي زيادة عدد الهاربين من الحروب والعنف والاضطهاد والانتهاكات والقحط والمجاعات والأزمات الاقتصادية إلى نحو 82.4 مليون لاجئي من 79.5 لاجئ عام 2019 الذي كان قد شهد بدوره زيادة بلغت نحو 9 ملايين لاجئ عن العام الذي سبقه. وفي سياق الأزمة الأوروبية هذه تجدر الإشارة إلى عدد اللاجئين الذين سجلتهم المفوضية عام 2015، باعتبارها سنة الأساس في الأزمة الأوروبية، كان نحو 65 مليون لاجئ في حين أن العدد على المستوى العالمي كان قد بلغ قبل عشر سنوات من ذلك حوالي 20 مليون لاجئ فقط وهي أرقام دالة على الخط البياني المتصاعد خلال فترات قصيرة نسبيا.

في مقابل ذلك، تقلصت أعداد اللاجئين الذين يتم قبول طلبات لجوئهم إلى الدول الأوروبية ودول أخرى مثل أمريكا وأستراليا ونيوزيلاندا بنسبة كبيرة؛ إذ بلغ عدد الذين تم إعادة توطينهم نحو 35.000 لاجئ العام الماضي من مجموع أكثر من 20 مليون كانت المفوضية الأممية ترى أنهم بحاجة إلى أوطان جديدة يعيدون فيها رسم مستقبلهم وبناء حياتهم بعيدًا عن المعاناة التي واجهوها في الماضي. وكانت أوروبا وتلك الدول قد قبلت عام 2018 طلبات اعادة توطين لنحو 55.700 مما شكل نسبة أقل من واحد بالمائة من اللاجئين في العالم. أما العام القادم 2022 فقد قدرت مفوضية اللاجئين عدد الذين سيحتاجون إلى إعادة التوطين بنحو 1.47 مليون لاجئ وهو رقم مهول لا يبدو أن الدول الأوروبية على استعداد حتى لسماعه.

إن تركيز الأنظار على أوروبا يجب ألا يخفي الطابع العالمي الشمولي لقضية الهجرة حيث تتفاقم معدلاتها في منطاق اخرى من العالم احيانا بصورة مكثفة مثل موجات اللجوء من أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية إلى الولايات المتحدة وأحيانًا بصورة أقل كثافة في مناطق النزاعات والأزمات الاقتصادية في أفريقيا وجنوب شرقي آسيا. إن تبني سياسات معادية للهجرة كما حصل مع إدارة الرئيس دونالد ترامب في أمريكا أو تلك التي بدأت أستراليا اتباعها عبر فتح مناطق إيواء لطالبي اللجوء في جزر نائية في المحيط الهادئ أو انتهاج سياسات الأبواب المغلق امام اللاجئين ذات الطبيعة القومية الضيقة كما تتبعها اليابان تؤدي جميعها إلى مفاقمة المشكلة وبقائها بلا حلول.

انتصار.. ولكن

ليس من المفاجئ لجوء أوروبا إلى كل هذه الأساليب والإجراءات والأدوات في محاولة إيقاف الهجرة إلى أراضيها؛ إذ إن المهاجرين الذين كان قدومهم إلى القارة يومًا ما مفيدًا وضروريًا للتعويض عن النقص في الأيدي العاملة أو لتنشيط الاقتصاد وتحفيز السوق الاستهلاكية أصبحوا يشكلون اليوم ما يراه الكثيرون في أوروبا عبئا بشريا وتهديدًا لدولة الرفاهية وللقيم الأوروبية وللهوية الأوروبية، بل أن البعض منهم أصبح يرى في المهاجرين تهديدًا وجوديًا على المستويين الأمني والحضاري.

وإذا كان هذا التحدي حقيقيًا فإن ما يثير الاهتمام، وربما أيضا القلق، هو نمط الاستجابات له سواء على صعيد الدول الأعضاء، أو الاتحاد الأوروبي ومؤسساته، وهي استجابات خرجت في كثير من الأحيان عن المنهجيات الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان والتقاليد الأخلاقية لأوروبا وانحطت إلى ممارسات شوفينية وتعصب قومي وديني بعيدًا عن القيم الكونية التي جسدتها معاهدات ومواثيق حقوق الإنسان وقوانين الأمن الإنساني. ولم يكن انعكاس ذلك على الاجراءات البيروقراطية والأساليب القمعية التي رافقت هذا التحول في النظرة إلى اللاجئين وقضايا اللجوء والهجرة والحصول على تأشيرات الزيارة والانتقال والسياحة فقط، بل امتد إلى خلق تلك الفجوة المتسعة بين أوروبا وأجزاء كبيرة من العالم ارتبطت معها حضاريًا وبشريًا وماديًا لقرون طويلة.

إن الطريقة التي تتعامل بها أوروبا مع قضية الهجرة واللاجئين تنعكس على جميع نواحي العلاقات الدولية والنظام الدولي، وبالتأكيد شمولية ذلك بالدرجة الأولى لعلاقاتها مع العالم العربي الذي يشارك أوروبا الكثير من الروابط الجيوستراتيجية والاقتصادية والتاريخية والثقافية. لا تتجاوز الطريقة التي تتعامل بها أوروبا مع قضية الهجرة التزاماتها بموجب القانون الدولي والعهد الدولي الخاص باللاجئين فقط، بل أنها تحاول صياغة واقع جديد للعلاقات الدولية يجبر شركاءها في المنطقة على الالتزام بسياستها المتشددة الخاصة بالهجرة والتي هي بطبيعتها مشكلة عابرة للحدود تتطلب معالجتها منظورًا شموليًا دوليًا، وليس فقط منظور أمن الحدود، أو من خلال فرض شروط إذعان.

منذ القمة العربية الأوروبية في شرم الشيخ عام 2019 صعّدت الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي من دبلوماسيتها الهجومية بهدف التعاون في تنفيذ خططها واستراتيجياتها المتعلقة بالهجرة والتي تتخطى حدودها الداخلية والإقليمية لكي تصل إلى دول ومجتمعات المصدر ودول العبور مستخدمة سياسات العصا والجزرة. هذه السياسات أثبتت نجاعتها في الحالتين الأخيرتين عند تدفق اللاجئين المغاربة على سبتة وطالبي اللجوء العراقيين على ليتوانيا حيث أغلقت السلطات المغربية المعابر الحدودية مع سبتة، في الحالة الأولى وأعادت الآلاف من المهاجرين إليها، في حين علقت السلطات العراقية في الحالة الثانية الرحلات إلى بيلاروسيا؛ بهدف وقف تدفق العراقيين إلى ليتوانيا.

هذه السياسات الأوروبية أحادية النظرة تثير أسئلة عن المستقبل؛ إذ تشير التوقعات إلى أن استمرار حالات عدم الاستقرار والصراعات في بعض دول المنطقة وتفاقم الأزمات في دول أخرى لا بد من أن يثير القلق من اندلاع موجات لجوء جديدة إلى أوروبا. بل أن أحدث ما أصبح يثير المخاوف هو النتائج الكارثية التي يمكن أن تنتج عن التغييرات المناخية وشح المياه في إقليم جنوب البحر الأبيض المتوسط، وهي احتمالات حذرت منها منظمات دولية ومن بينها البنك الدولي في تقرير له عام 2014 وبدأت ملامحها تظهر مؤخرًا وستكون نتائجها على التغيرات السكانية والهجرة أشد وطأة.

في هذا السياق لا توجد آلية واضحة وصلبة للحوار والتعاون العربي الأوروبي حول كل هذه الملفات في إطار شفاف وواقعي يأخذ بعين الاعتبار المصالح المتبادلة وبعيدة المدى والوقائع وأسس العلاقات الدولية المبنية على أساس السيادة واحترام القوانين والأعراف الدولية وحقوق الإنسان والأمن الإنساني والتي أصبحت جميعها مرتبطة بظواهر التغييرات الديموغرافية والنزوح الداخلي والهجرة واللجوء إلى الدول الأجنبية. لقد أدت خلافات شديدة ومعقدة -ومن بينها حول هذه القضايا- إلى تعطيل آليات الحوار العربي الأوروبي الذي بدأ عام 1973 وإلى فشل تحقيق الشراكة المتوسطية التي سعى إليها الجانبان، وهو ما ترك العلاقات العربية الأوروبية عرضة لمسيرة متعثرة ساهمت بدورها في العجز عن إيجاد حلول بارعة لمشكلة اللاجئين.

ربما تكون أوروبا قد حققت بعض النجاحات في تقليص أعداد اللاجئين إليها من خلال الإجراءات التي اتبعتها أو من خلال صفقات وضغوط كما حصل مع اللاجئين المغاربة والعراقيين مؤخرًا، لكنها بالتأكيد لم تستطع إيقاف الآلاف من الذين خاضوا مغامرة عبور المتوسط خلال الأعوام القليلة الماضية، أو عشرات الآلاف الذين سيقطعون مسافات شاسعة، وآخرهم من أفغانستان، من أجل الوصول إلى ملاجئ تأويهم في أوروبا، مما سيجعل الانتصار النهائي والحاسم في هذه الحرب على اللاجئين صعب المنال.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى