العراق

زيارة السيسي إلى بغداد وإعادة رسم خريطة التحالفات في المنطقة

تمثل زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي متغيرًا مهمًا وذا دلالات واسعة في مسار العلاقات بين مصر والعراق من جانب، ومصر والعراق والأردن في إطار آلية التعاون الثلاثي من جانب آخر. فهذه الزيارة التي تأتي كأول زيارة لرئيس مصري إلى العاصمة العراقية منذ نحو ثلاثين عامًا تحمل دلالات كبيرة على المستويين السياسي والاقتصادي، وتؤكد عدة حقائق؛ أهمها أن العراق بدأ في العودة الفعلية إلى عمقه العربي والانفتاح الكامل معه بما يمثله من ثقل استراتيجي كبير عربيًا وإقليميًا، وثاني هذه الحقائق المهمة هو أن تعزيز العمق العربي الاستراتيجي يمثل أحد أهم مرتكزات السياسة الخارجية المصرية.

رسائل داعمة

  • عودة العراق

عانى العراق انعزالًا عن محيطه العربي لسنوات طويلة، بدأت إرهاصاته مع تداعيات غزو الكويت عام 1990، ثم تأكدت مع الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وما أفرزه من تداعيات سياسية وأمنية، لعل أهمها تفك الجيش العراقي، وتشكيل مشهد سياسي جديد يعتمد الطائفية أساسًا له. 

ونتيجة لهذه التداعيات السياسية والأمنية تغلغل النفوذ الإيراني داخل الدولة العراقية، وانسحبت بغداد تدريجيًا عن كونها رقمًا مهمًا في معادلة الأمن القومي العربي وفي منظومة استقرار الإقليم ككل. ومع هذا التغلغل الإيراني على المستويين السياسي والاجتماعي، ثم اجتياح تنظيم داعش للدولة العراقية، وسيطرته على مناطق شاسعة منها، انغمست بغداد في الحرب على الإرهاب، وفقدت القدرة على توجيه بوصلتها نحو المنطقة العربية.

وقد عمدت حكومة رئيس الوزراء العراقي الحالي مصطفى الكاظمي مع توليها المهمة (مايو 2020) إلى تصويب هذا الوضع، ومحاولة النأي بالعراق عن التجاذبات الدولية الجارية على أرضه، وخاصة بعد حادثة الاغتيال الأمريكية لقائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني (يناير 2020)، فضلًا عن العمل على استعادة سيادة القرار العراقي بعيدًا عن توجهات الميلشيات المسلحة الموالية لإيران والتيارات السياسية التابعة لها.

وبناء على ذلك، توجهت مصر إلى تعميق علاقاتها مع العراق في المجالات كافة، وفي القلب منها التعاون الاقتصادي، ولذلك أجرى رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي زيارة إلى بغداد (أكتوبر 2020) على رأس وفد وزاري رفيع المستوى للمشاركة في أعمال اللجنة العليا المصرية العراقية المشتركة لمناقشة المشاركة في إعادة إعمار العراق، إلى جانب توسيع التعاون في المجالات الاقتصادية، وتهيئة المناخ أمام الشركات المصرية للاستثمار في العراق، فضلا عن زيادة التبادل التجاري وتسهيل نفاذ السلع إلى أسواق البلدين.

ولذلك، تمثل زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى بغداد تأكيدًا لثوابت مصر بدعم العراق وتعزيز دوره القومي العربي، ومساعدته على تجاوز كافة التحديات، بما يحافظ على أمنه واستقراره، وإعلانًا بتمام تعافي الدولة العراقية من الأزمات التي عصفت بها خلال السنوات الماضية، والعودة الكاملة إلى العمق العربي، وقدرة بغداد على استعادة دورها السياسي والاقتصادي المهم في المنطقة من خلال الانخراط في مسارات التعاون المختلفة مع الدول العربية.

  • تعميق مسار التعاون الثلاثي

انطلاقًا من هذه الأهمية الاستراتيجية للعراق، عملت القاهرة على إعادة دمج العراق في محيطه العربي بعيدًا عن المشاريع الإقليمية والدولية المتنافسة، واعتمادًا على ما يتوافر لدى العراق من مقومات وقدرات سياسية واقتصادية يمكن استثمارها بما يعود بالنفع على العراقيين. 

ولذلك توافقت إرادات الدول الثلاث مصر والأردن والعراق على تعميق مسار علاقاتهم الثلاثية، والذي بدأ بالقمة التي جمعت الرئيس عبد الفتاح السيسي والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني ورئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي في القاهرة (مارس 2019)؛ والقمة التي جمعتهم في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة (سبتمبر 2019) وذلك للوصول إلى مرحلة التكامل الاقتصادي بين البلدان الثلاثة.

وبناء على هذا التوافق، عُقدت قمة عمّان (أغسطس 2020) بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، ثم تأتي القمة الحالية في بغداد، ومن المنتظر أن تستضيف القاهرة القمة المقبلة بعدما أعرب الرئيس السيسي في كلمته أمام القمة عن تطلعه إلى ذلك إيمانًا من مصر بأهمية هذا التعاون المشترك.

مرتكزات التعاون

  • التكامل الاقتصادي

يمثل التكامل الاقتصادي بين الدول الثلاث الهدف الرئيس من آلية التعاون الثلاثي بين مصر والأردن والعراق؛ وذلك عبر الاستفادة المثلى من المقومات التي تملكها البلدان الثلاثة. وتتمثل أهم أوجه التعاون الاقتصادي بينها في تصدير النفط العراقي وفق آلية النفط مقابل الإعمار والتي من خلالها تقوم الشركات المصرية بتنفيذ مشروعات تنموية في العراق، مقابل كميات النفط التي سوف تستوردها مصر من العراق من خلال خط أنابيب ينقل خام البصرة الخفيف إلى مصر عن طريق العقبة في الأردن. 

وكذلك الأمر بالنسبة للربط الكهربائي الذي يُعد أحد أهم أوجه التعاون بين البلدان الثلاثة، خاصة وأن مصر لديها فائض كبير في إنتاج الكهرباء، ويواجه العراق مشكلة كهرباء في ضوء اعتماده شبه الكلي على استيراد وقود الكهرباء من إيران والذي يحصل لأجله على إعفاء أمريكي دوري من العقوبات التي تفرضها واشنطن على طهران، ويعد هذا الوقود أحد الأسلحة التي تستخدمها إيران للتأثير على قرار الدولة العراقية. ويكون هذا الإمداد المصري بالكهرباء من خلال مشروع الربط الكهربائي القائم بين مصر والأردن.

ذلك فضلًا عن زيادة حجم التبادل التجاري والذي ارتفع بالفعل بين مصر والعراق من 800 مليون دولار عام 2015 إلى 1.650 مليار دولار عام 2018، وارتفع بين مصر والأردن خلال الفترة من يناير إلى نوفمبر 2019، ليبلغ 858.3 مليون دولار بنسبة زيادة بلغت 52.3% مقارنة بنفس الفترة من عام 2018. وقد اتفق وزراء التجارة والصناعة في الدول الثلاث على وضع خطط وآليات جديدة لتنشيط التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري المشترك.

  • التفاهم السياسي

يمثل التنسيق والتوافق السياسي بعدًا مهمًا من أبعاد آلية التعاون الثلاثي بين مصر والأردن والعراق، نظرًا لما تواجهه المنطقة من تحديات جسام تحتم على الدول العربية التعاون والتفاهم في رسم مواقفها إزاءها، لا سيّما مع وجود مشروعات إقليمية تهدف إلى السيطرة على الدول العربية وانتزاع ثرواتها ومقدرات شعوبها. 

وهو ما أكده الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمته أمام القمة الثلاثية اليوم، قائلًا إن “هذه القمة فرصة جيدة لاستمرار التشاور والتنسيق بيننا حول أهم قضايا المنطقة، في ظل التطورات الدولية والإقليمية المتلاحقة، والتي تستلزم التعاون المشترك لمواجهة التحديات والأخطار المشتركة، خاصة مع ما نشهده من تدخلات إقليمية مرفوضة تسعى للهيمنة وتهدد الأمن القومي العربي وتستهدف الدول العربية، وهو الأمر الذي يدعونا إلى التكاتف وتوحيد الصف العربي والعمل على تعزيز الدور العربي في الأزمات المختلفة في منطقتنا”.

وتشير كلمة الرئيس السيسي أمام القمة واستعراضه مواقف مصر من أزمات المنطقة المختلفة بدءًا من أزمة سد النهضة مرورًا بالأزمة في كل من ليبيا وسوريا، وصولًا إلى الدعم الكامل للقضية الفلسطينية؛ إلى أهمية هذا التعاون الثلاثي القائم في بعده السياسي.

  • مكافحة العدو المشترك

أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي أمام القمة أن أحد الأخطار المشتركة التي تواجه المنطقة وتستلزم تعاونًا مشتركًا هو الإرهاب “الذي يستهدف دولنا وشعوبنا ويحتاج إلى بذل المزيد من الجهود المشتركة لدحره”. وتتماس هذه الكلمات مع ما أكده رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في مقاله الذي نشرته صحيفة الشرق الأوسط يوم أمس (26 يونيو) أن ” من بين أسباب معافاتنا على كل الصعد والميادين، تضافر جهودنا لمواجهة عدونا المشترك بعد توصيفه والتصدي له بكل الوسائل الكفيلة باجتثاث جذوره وحواضنه في بلداننا وفي المنطقة بأسرها”.

تدلل هذه الكلمات على أن التعاون الأمني بين الدول الثلاث وخاصة في مجال مكافحة الإرهاب عنصرًا مهمًا من عناصر التعاون الثلاثي، انطلاقًا من الأخطار التي مازالت التنظيمات الإرهابية تفرضها في المنطقة. ويتمثل هذا التعاون الأمني في عدة مسارات، منها التدريبات والمناورات العسكرية المشتركة، وتبادل الخبرات في مجال تدريب القوات، فضلًا عن التعاون الاستخباري بين الدول الثلاث. وهي مسارات تعمل الدولة المصرية على تعميقها مع الدول العربية كافة، من خلال عدد كبير التدريبات والمناورات العسكرية المشتركة مع عدد كبير من الدول العربية، وكذلك تأسيس المنتدى العربي الاستخباري.

إجمالًا، تؤكد زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى بغداد مضي القاهرة قدما في مسار عودة وانفتاح العراق على عمقه العربي، ومواجهة المشاريع الإقليمية المعادية، وتعميق التعاون الثلاثي بين مصر والعراق والأردن الذي يمثل في جوهره إعادة رسم لخريطة التحالفات الإقليمية وأفقًا جديدًا لتحالف عربي نواته مصر يرتكز على المقومات الاقتصادية والجغرافية الهائلة التي تملكها البلدان العربية ويعمل على تعظيم الاستفادة منها، وهو ما يعني أن الأمر لن يكون مقصورًا في المستقبل على كل من مصر والأردن والعراق.

محمد عبد الرازق

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى