
هجوم “نطنز” … المواجهة بين “تل أبيب وطهران” تنتقل إلى “أصفهان”
مرحلة جديدة من المواجهة الإقليمية المفتوحة بين تل أبيب وطهران، تم تدشينها فجر أول أمس في مجمع “أحمدي روشن” في منشأة “نظنز” النووية الواقعة بمدينة تحمل نفس الاسم بمحافظة “أصفهان” وسط البلاد؛ فقد أعلن المتحدث باسم منظمة الطاقة الذرية الإيرانية بهروز كمالوندي، أن منظومة توزيع الطاقة الكهربائية داخل المجمع، تعرضت لأضرار نتيجة هجوم تخريبي، يرجح أن إسرائيل قد تكون مسؤولة عنه.
هذا الهجوم، وإن كان يأتي في سياق مواجهة متصاعدة مستترة بين الجانبين، تعددت ميادينها برا ،بحرا وجوا إلا أنه يكتسب أهميته لسببين رئيسيين، الأول هو توقيته، الذي يأتي بالتزامن مع خطوات إيجابية نسبياً بدأت تتقدم بها المفاوضات الغربية مع إيران حول إعادة تفعيل الاتفاق النووي، والسبب الثاني هو أن هذا الهجوم – وعلى عكس كافة العمليات التي تورطت فيها إسرائيل بشكل أو باخر – تم الإعلان بصورة واضحة عن ضلوع تل أبيب فيه، سواء من الصحف الأمريكية او الإسرائيلية.
فماذا حدث في هذا الهجوم؟
هجوم ليس الأول من نوعه
تعد منشأة التخصيب في نطنز من ضمن سبعة مواقع أساسية يرتكز عليها البرنامج النووي الإيراني، وقد تعرض سابقاً لعدة هجمات، بدأت بشكل فعلي عام 2010، حين تعرضت أجهزة الكمبيوتر الموجودة داخل المنشأة ، لهجوم واسع بفيروس “ستاكس نت”، وهو فيروس مطور بشكل مشترك بين الولايات المتحدة وإسرائيل، خصيصاً من أجل مهاجمة وشل فاعلية الوسائط الإلكترونية المشاركة في البرنامج النووي الإيراني. هذا الهجوم أسفر عن أضرار كبيرة بنحو 30 ألف كومبيوتر داخل إيران، وبشكل خاص الأجهزة المسؤولة عن التحكم في أجهزة الطرد المركزي التي يتم استخدامها لتخصيب اليورانيوم، ما أسفر عن خلل في برمجة هذه الأجهزة، وإتلاف بعضها، بشكل عطل عمليات التخصيب لفترة متوسطة نسبياً، إلى أن تمكن المهندسون الإيرانيون من استبدال الأجزاء التالفة في أجهزة الطرد – ومعظمها مكونات ألمانية الصنع – بمكونات محلية المنشأ.
الهجوم الثاني على مفاعل نطنز تم في الأول من يوليو الماضي، وجاء ضمن سلسلة من الهجمات والحرائق الغامضة التي ضربت عدة مناطق إيرانية خلال الأيام التي سبقت هذا الهجوم.
وفي تفاصيل هذه الحادثة تعرض مستودع تابع للمفاعل لحريق ضخم تسبب في تدمير معظم جوانبه، وحينها صرح المتحدث باسم منظمة الطاقة الذرية الإيرانية بهروز كمالوندي، أن هذا الحريق تسبب في أضرار جسيمة، لحقت بمعدات وأجهزة متخصصة ودقيقة، مما قد يؤدي إلى إبطاء الجهود الإيرانية لتطوير وإنتاج أجهزة طرد مركزي عالية الإنتاجية. وعلى الرغم من أن هذا الهجوم لم يكن سيبرانيا، لكنه جاء في الذكرى العاشرة لهجوم عام 2010، وبشكل يحمل أيضاً البصمات الإسرائيلية.
فيما يتعلق بهجوم أول أمس، يجب الإشارة إلى أن بعض الصور الفضائية الملتقطة في أكتوبر الماضي، أشارت إلى احتمالية بدء طهران في بناء منشآت جديدة تحت الأرض، ضمن نطاق منشأة نطنز، بهدف تخصيب اليورانيوم بداخلها بشكل آمن وبعيد عن أنظار الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهذا هو مفتاح هجوم أمس، الذي تشير التقديرات إلى أنه استهدف هذه المنشأة. حتى الآن لم تتضح بصورة قطعية حقيقة ما حدث في هذا الهجوم.
لكن التصريحات التي أدلى بها مسئولون حكوميون إيرانيون ، منهم وزير الدفاع أمير حاتمي، ورئيس منظمة الطاقة الذرية علي أكبر صالحي، ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، أشارت إلى أن الهجوم كان هجمة سيبرانية استهدفت الأجهزة المتحكمة في منشأة التخصيب، وأن المشتبه الأول في هذا الهجوم هو إسرائيل.
لكن المعلومات الإضافية التي نشرتها الصحافة الأمريكية والإسرائيلية، كشفت أن الهجوم كان في الأساس عبارة عن قنبلة تم تسريبها إلى داخل مباني منشأة نطنز، وأنه تم تفجيرها بطريقة مماثلة لانفجار يوليو الماضي الذي سبق وتمت الإشارة إليه.
المثير للانتباه في هذا الهجوم، أن عدة وسائل إعلام إسرائيلية وأمريكية، أعلنت بوضوح تام أن إسرائيل هي من نفذت هذا الهجوم، ومنها صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية، التي أشارت إلى أن مصادر إسرائيلية أكدت لها ضلوع تل أبيب في هذا الهجوم، وهنا يجب الإشارة إلى أن الواشنطن بوست قامت أيضاً بنفس هذا التصرف حيال هجوم يوليو الماضي على نطنز، وكذلك حيال الهجوم على سفينة الدعم اللوجيستي الإيرانية “سافيز” منذ أيام. تبع الصحيفة الأمريكية في هذا التوجه صحف ومواقع إسرائيلية عديدة، منها هيئة البث الإسرائيلي “كان” وموقع “والاه”.
كان لافتاً أن يتم هذا الهجوم بالتزامن مع زيارة وزير الدفاع الأمريكي إلى تل أبيب، وهي زيارة تضمنت تصريحات ضمنية من جانب المسؤولين الإسرائيليين، لمحت بشكل أو باخر لضلوع تل أبيب في هذا الهجوم، منها تصريح لوزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس، قال فيه “إن طهران اليوم تشكل تهديدًا استراتيجيًا للأمن الدولي والشرق الأوسط بأكمله ودولة إسرائيل”. “وسنعمل عن كثب مع حلفائنا الأمريكيين لضمان أن أي اتفاقية جديدة مع إيران ستؤمن المصالح الحيوية للعالم ، والولايات المتحدة ، وتمنع حدوث سباق تسلح خطير في منطقتنا”. في نفس السياق قال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي “عمليات الجيش الإسرائيلي في الشرق الأوسط ليست مخفية عن أعين العدو”.
لماذا الهجوم “الآن” على البرنامج النووي الإيراني
يمكن اعتبار المخاوف الإسرائيلية من البرنامج النووي الإيراني، محفزاً رئيسياً وأساسياً في هذا الهجوم وما سبقته من هجمات، سواء استهدفت تلك الهجمات الوسائط الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني، أو المنشآت والقدرات الإيرانية في سوريا والبحرين المتوسط والأحمر.
هذه المخاوف تعاظمت بطبيعة الحال نتيجة التطورات الأخيرة في ملف الاتفاق النووي، أو ما يعرف ب “خطة العمل المشتركة”، حيث تخشى إسرائيل من أن يؤدي التوافق بين أوروبا والولايات المتحدة من جهة – وطهران من جهة أخرى، إلى إراحة طهران من عبء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها منذ عقود، وهذا يعنى بالتبعية توفر مزيد من الموارد المالية لها كي تثبت من تموضعها الحالي على المستوى الإقليمي، وقد تسمح هذه الموارد بمزيد من التطوير لترسانتها الصاروخية.
هذه المخاوف، يضاف إليها التوجس الإسرائيلي المستمر منذ سنوات، بشأن مستوى وحجم الكميات المخصبة من اليورانيوم في إيران، فطهران بدأت في الرابع من أبريل الماضي، في تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 بالمائة داخل منشأة “فوردو” للتخصيب، وتمكنت بحلول السادس عشر من فبراير الماضي، من إنتاج 17.6 كيلو جرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 20 بالمائة، بمعدل يومي يبلغ 0.41 كجم. وهو ما يضع طهران على مسار إن استمرت فيه، سيمكنها من تخزين كميات كبيرة من اليورانيوم عالي التخصيب، خاصة أن وضعنا في الاعتبار أمرين أساسيين.
الأول انه قبل يوم واحد من هذا الهجوم، قامت إيران بمجموعة من الخطوات التي تستهدف تعزيز عمليات تخصيب اليورانيوم حيث أفتتح الرئيس الإيراني حسن روحاني القطاع الثاني لإنتاج الماء الثقيل في مفاعل آراك النووي، كذلك أعلن في نفس اليوم بدء ضخ غاز اليورانيوم “يو أف – 6” في أجهزة الطرد المركزي بمنشأة نطنز النووية، وهذا يضاف إلى نحو 164 جهاز تم تركيبها السبت الماضي، من الجيل الجديد من أجهزة الطرد المركزي “أي أر – 6″، التي ستكون إنتاجيتها – حسب المصادر الإيرانية – أكبر بعشرة أضعاف من انتاجية الأجهزة الحالية. يضاف إلى ذلك، بدء الاختبارات على أجهزة طرد مركزي جديدة تحت أسم “أي أر – 9″، ستضاف إلى الأجهزة الحالية. بهذا قد يصل إجمالي أجهزة الطرد المركزي المتوفرة لدى إيران إلى نحو ثلاثة عشر ألف جهاز، وهذا يعطي لطهران قدرة تخصيب يومي أكبر بثلاث مرات تقريبًا من الحد الذي كان ينص عليه الاتفاق النووي.
الأمر الثاني هو أن المخزون الإيراني من اليورانيوم المنخفض التخصيب بات فعلياً أكبر بمراحل من الحدود التي كانت طهران مقيدة بها سابقاً بفعل الاتفاق النووي، فقد وصل المخزون الإيراني من اليورانيوم منخفض التخصيب في السادس عشر من فبراير الماضي إلي ما يقرب من أربعة أطنان ونصف، وهي كمية مخصبة بنسبة تتراوح بين 2 و5 بالمائة، وهذا يعني أن الوقت المقدر من جانب إسرائيل، لوصول إيران إلى المستوى الذي يمكنها فيه تخصيب اليورانيوم بنسب يمكن من خلالها استخدامه في التطبيقات العسكرية، أصبح يتراوح بين ثلاثة وستة أشهر. هذا الوضع تم تعزيزه بقرار إيراني تم إعلانه الثلاثاء، يقضى ببدء تخصيب اليورانيوم بنسبة 60 بالمائة، وإدخال ألف جهاز طرد مركزي جديد إلى منظومة التخصيب في منشأة نطنز.
السياق الموسع للمواجهة الإيرانية – الإسرائيلية
الملاحظة الأكبر والأهم في المواجهة المستعرة حالياً في ميادين عديدة بين طهران وتل أبيب، أن الأخيرة نجحت بشكل أو باخر في نقل هذه المواجهة إلى الداخل الإيراني، وفي نفس الوقت أصبحت هذه المواجهة على المستوى الإقليمي ممتدة الأطراف ومتنوعة الأشكال والمواقع الجغرافية.
في السنوات الماضية كانت إسرائيل تركز بشكل كبير على إدامة المجهود الجوي الخاص بها في الأجواء السورية، بشكل يوفر لها القدرة الدائمة على استهداف كافة التحركات العسكرية الإيرانية، سواء على الحدود ما بين سوريا والعراق، أو في المنطقة الشرقية السورية، او في محيط الجولان والساحل السوري.
خلال الأشهر الماضية، دخلت تل أبيب حربا غير معلنة، يمكن تسميتها “حرب الناقلات”، بينها وبين إيران، استهدفت فيها تل أبيب أكثر من 12 ناقلة نفط إيرانية، كانت متوجهة إلى سوريا، مما دفع طهران إلى طلب مرافقة قطع بحرية روسية لهذه الناقلات بعد عبورها قناة السويس – مزيد من المعلومات حول هذه المواجهة في هذا الرابط – وقد اتسع نطاق هذه المواجهة مؤخراً، ليصل إلى حدود اليمن البحرية، بعد استهداف إسرائيل لسفينة الدعم اللوجيستي الإيرانية “سافيز”، ورد إيران على هذا الهجوم الثلاثاء، باستهدافها لسفينة شحن إسرائيلية قبالة ساحل إمارة الفجيرة في الإمارات العربية المتحدة.
المواجهات السيبرانية بين الجانبين كانت أيضاً من أهم ملامح مصفوفة الاشتباك بينهما، بداية من هجمات تعرض لها قطاع الاتصالات الإيراني في نوفمبر 2018، مروراً بهجوم سيبراني موسع تعرضت له إيران في فبراير 2019، يُعتقد أنه تسبب في فشل محاولة إطلاق صاروخ يحمل قمر صناعي إيراني. طهران ردت على هذا الهجوم في أبريل 2020، عبر هجوم إلكتروني طال منظومات ضخ مياه الشرب في ست محطات إسرائيلية، ما أسفر عن خلل مؤقت في آلية معالجة المياه. الرد الإسرائيلي على هذا الهجوم جاء في الشهر التالي، عبر هجوم إلكتروني طال منظومات السيطرة في ميناء “رجائي” الواقع جنوبي إيران، وأسفر عن تعطل عمليات التفريغ والشحن بالميناء. هذا الهجوم كان بمثابة تدشين لمرحلة جديدة في الاشتباك المتبادل بين الجانبين عن بعد.
فقد تلقت طهران في شهر يونيو من نفس العام، مجموعة من الضربات المتنوعة الغير معروفة تفاصيلها أو الأدوات المستهدفة بها، حيث كانت تلك الضربات على شكل حرائق غامضة وانفجارات طالت مدن إيرانية عديدة، فبالإضافة إلى المبنى الموجود في مفاعل نطنز، حدث حريق كبير قرب مجمع “خجير” الصاروخي العسكري، وحدثت انفجارات غامضة في عدة منشآت حكومية، من بينها مستشفى.
لم تتوقف الهجمات الإسرائيلية في الداخل الإيراني بعد ذلك، بل اتخذت مستوى جديدا من الاختراق الأمني، بعد أن تم في قلب العاصمة الإيرانية، اغتيال العالم النووي فخري زادة في أواخر نوفمبر 2020، عن طريق استخدام أنظمة قتالية متحكم بها عن بعد، وهي ضربة ألقت فيه طهران باللائمة على تل أبيب، وتوعدت حينها بالرد بشكل فوري على هذه العملية، ويمكن في هذا الصدد اعتبار الهجمات الإلكترونية التي تعرضت لها تل أبيب أواخر يناير 2021، واستهدفت مجموعة من الشركات الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية الكبرى، على رأسها شركة “صناعات الطيران” العسكرية الإسرائيلية، وشركة الكهرباء الحكومية الإسرائيلية، تأتي في سياق الرد الإيراني على هذا الهجوم.
إجمالا
يمكن القول أن ذهنية صانع القرار في إسرائيل تركز حالياً على منع التوصل إلى اتفاق سياسي واقتصادي بين طهران والمجموعة الأوروبية والولايات المتحدة، يسمح لها بالانتعاش اقتصاديا وتطوير قدراتها العسكرية التقليدية، وكذلك منع طهران من الاقتراب من الحدود التي ترى فيها تل أبيب أنها ستوفر لإيران فرصة محققة لإنتاج أسلحة نووية.
وفي هذا الصدد تحاول تل أبيب تجنب تكرار تجربة باكستان، التي تمكنت بعد حيازتها للسلاح النووي، من تفادي أية عقوبات غربية، وفرضت بشكل كامل حضورها على المستوى الأقليمي والدولي.
تل أبيب نجحت بشكل كبير في نقل المواجهة مع طهران إلى الداخل الإيراني، وذلك عبر مراحل متدرجة، جعلت فيها طهران تقبل مرغمة على ابتلاع الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة لعناصرها ووحداتها الرديفة في سوريا، وحالياً باتت طهران ترى الأيدي الإسرائيلية تتحرك داخل المدن الإيرانية، وأيضاً في البحرين الأحمر والمتوسط. بطبيعة الحال تستغل إسرائيل التركيز الإيراني الحالي على محاولة الوصول إلى أكبر مكاسب ممكنة من الحوار الحالي مع أوروبا والولايات المتحدة، ورغبة طهران في عدم إفشال هذا الحوار تحت أي ظرف – حتى لو كان هذا يقتضي الصمت على الهجمات الإسرائيلية – لكن على المدى الطويل، ستحدد الردود الإيرانية على الهجمات الإسرائيلية، ليس فقط شكل ومستوى توازن القوى في المنطقة، لكن أيضاً النظرة الإيرانية للتهديدات التي تواجهها حالياً على المستوى الإقليمي.
باحث أول بالمرصد المصري



