
استهداف ناقلات النفط… المستقبل غير المتماثل لصراعات أعالي البحار
مثلت ناقلات النفط العملاقة أهمية كبرى على المستوى البحري الدولي منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى الآن؛ نظرًا لأنها كانت ومازالت الأداة الرئيسة لإدامة إمدادات النفط ومشتقاته إلى جميع أنحاء العالم. هذه الأهمية تتعاظم بطبيعة الحال في حالات الحروب والأزمات، وهو ما كان واضحًا خلال الحرب العالمية الثانية التي كانت ناقلات النفط المدنية فيها من أهم الأهداف الاستراتيجية لغواصات الحلفاء والمحور، وكذا خلال الحرب العراقية الإيرانية التي تبادلت فيها بغداد وطهران عمليات استهداف ناقلات النفط، في نطاق الخليج العربي.
خلال هذه الحرب، ظهرت بشكل واضح المخاطر الجدية التي يمكن أن تتعرض لها حركة الملاحة التجارية في الخليج العربي وخليج عمان ومضيق هرمز وفي البحر الأحمر بشكل عام، خاصة أن هذا النطاق يشهد الحركة التجارية الأكبر عالميًا، والتي تتضمن النفط ومشتقاته. لم تظهر هذه المخاطر فقط بسبب تعرض نحو 20 ناقلة نفط إلى أضرار مختلفة خلال فترة (حرب الناقلات) التي استمرت ما بين عامي 1984 و1987، لكن أيضًا بسبب التأثيرات العسكرية التي نتجت عن نشوء هذه المخاطر.
فقد استخدمت إيران خلال هذه الفترة بشكل مكثف الألغام البحرية، وتسببت هذه الألغام في خسائر مهمة في القطع البحرية الأمريكية، التي اضطرت إلى تنفيذ دوريات داخل الخليج العربي لمرافقة ناقلات البترول وحمايتها، فأصيبت في أبريل 1988، الفرقاطة الأميركية (صامويل روبرتس) بلغم بحري أثناء تحركها في منطقة الخليج، تسبّب بأضرار متوسطة في بدنها.
وهو هجوم دفع الولايات المتحدة بعد أيام إلى إطلاق عملية هجومية دمرت خلالها منصتين نفطيتين إيرانيتين إلى جانب عددًا من القطع البحرية الإيرانية. لاحقًا تعرضت قطع بحرية أمريكية أخرى لأضرار جراء استخدام الألغام البحرية، لكن هذه المرة كانت ألغامًا عراقية، إذ أصيبت كل من فرقاطة الصواريخ الموجهة (يو إس إس برينستون) وسفينة الهجوم البرمائي (يو إس إس تريبولي) خلال العمليات البحرية المساندة لعملية تحرير الكويت في العام 1991.
في عام 2019، عادت إلى الواجهة مرة أخرى ورقة استهداف ناقلات النفط، وكذا مخاطر استخدام الألغام البحرية، مضافًا إليها عدة تكتيكات أخرى من بينها مصادرة الناقلات النفطية، واستخدام وسائل مستحدثة لاستهداف هذه الناقلات والقطع البحرية الموجودة في المنطقة، مثل الزوارق الانتحارية.
اللافت في هذه المرحلة هو أن هذه المواجهة بين طهران والولايات المتحدة لم تقتصر فقط على الخليج العربي، بل شملت نطاقًا بحريًا واسعًا من الساحل اليمني مرورًا بالبحر الأحمر والساحل السوري ومضيق جبل طارق وصولًا إلى فنزويلا. وكان القاسم المشترك في هذه المواجهة هو استهداف ناقلات النفط، بشكل يجعل هذه الاستراتيجية من ملامح مستقبل الحروب غير المتماثلة، التي تختلط فيها العوامل الاقتصادية بالعوامل السياسية.
الألغام المغناطيسية وناقلات نفط الخليج العربي
شهد عام 2019، هجومين كبيرين على ناقلات النفط المدنية المتنقلة في الخليج العربي، الهجوم الأول كان في الثاني عشر من مايو، وفيه تعرضت أربعة ناقلات للنفط، اثنتين منها ترفعان العلم السعودي، وواحدة ترفع علم النرويج، وأخرى ترفع العلم الإماراتي، لأضرار متفاوتة أصابت الجزء الغاطس من بدنها، خلال وجودها قرب ساحل الفجيرة بالإمارات العربية المتحدة.
الهجوم الثاني تم في شهر يونيو، وخلاله تعرضت ناقلتا نفط، إحداهما نرويجية والأخرى ترفع علم بنما لكنها مملوكة لشركة يابانية، لأضرار كبيرة جراء انفجار عدة ألغام بحرية مغناطيسية تم إلصاقها على البدن الخارجي لكلا الناقلتين. كانت هذه الحادثة لافتة بشكل كبير؛ نظرًا لأن الأضرار التي تم إلحاقها بالناقلتين كانت كبيرة، خاصة الناقلة المملوكة للشركة اليابانية.
يضاف إلى ذلك أن البحرية الأمريكية كانت تراقب التحركات البحرية الإيرانية في المنطقة، ورصدت وجود زورق تابع للبحرية الإيرانية قرب إحدى الناقلتين، فيما بدا وكأنه عملية تثبيت أو إزالة للغم بحري مغناطيسي من على بدنها. الواقع يقول إن هاتين الحادثتين لم تكن لهما فقط أهمية تكتيكية بالنظر إلى التفاعلات الخاصة بالحرب في اليمن بين طهران ودول الخليج، وكذا التجاذبات الإيرانية – الأمريكية المتعلقة بملف الاتفاق النووي؛ بل حاولت طهران من خلالهما إعادة التأكيد على ما تمتلكه من قدرات لتهديد الملاحة الدولية في مضيق هرمز والخليج العربي.
هنا تبرز العوامل الاقتصادية؛ فقد تم الهجوم الثاني السالف ذكره بعد أيام من حظر إدارة ترامب عمليات تصدير شركات البتروكيماويات الإيرانية لمادة الميثانول، علمًا بأن السفينة المملوكة للشركة اليابانية كانت تنقل الميثانول السعودي والقطري، فضلًا عن أن الناقلة الأخرى كانت تنقل مادة (النافثا) -وهي إحدى المشتقات النفطية- من الإمارات، وهي إحدى الصادرات النفطية التي فقدت طهران فرص تصديرها إلى آسيا بفعل العقوبات الأمريكية.
نوعية الألغام البحرية التي تم استخدامها في هذه الهجمات وما تلاها كانت موحدة، وهي عبارة عن ألغام مغناطيسية تلتصق ببدن السفينة المستهدفة، بهدف إلحاق أضرار محدودة بها، لكن في بعض الحالات تم وضع مجموعة من هذه الألغام بشكل دائري قرب بعضها البعض، من أجل التسبب في أضرار أكبر.
في هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى وجود أطراف أخرى غير طهران قد تكون قد استخدمت نفس هذا التكتيك، مثل إسرائيل على سبيل المثال؛ فقد تعرض العديد من الناقلات الإيرانية لهجمات مماثلة كان أولها في أكتوبر 2019، حين تعرضت ناقلة إيرانية تدعى (سابيتي) لإضرار في نقطتين على الجانب الأيمن من بدنها، بفعل مقذوفات أو ألغام لاصقة، وقد تكررت هذه الهجمات على السفن الإيرانية خلال عامي 2019 و2020، بإجمالي يتراوح بين 8 إلى 12 هجومًا. وقد اتضحت أبعاد هذه المواجهة بين الجانبين مؤخرًا، حين تم خلال الشهر الجاري استهداف سفينة إسرائيلية في البحر الأحمر بألغام لاصقة، وبعدها بأيام تم استهداف ناقلة إيرانية بطريقة مماثلة وفي نفس المنطقة.
جدير بالذكر أنه في ديسمبر الماضي، فككت البحرية العراقية لغمًا بحريًا لاصقًا من على متن ناقلة نفط مؤجرة من جانب شركة عراقية، تم إلصاقه بها على ما يبدو خلال وجودها في المياه الإقليمية العراقية، وهو حادث أكد بشكل أكثر وضوحًا أن الألغام المغناطيسية باتت هي السلاح الأهم -وليس الوحيد- في محاولات الفوز بحرب الناقلات في نسختها المعاصرة.
النفط المتجه إلى سوريا… سلاح المصادرة والتعطيل
شهد عام 2019 عدة هجمات أصغر على ناقلات النفط، اتخذت أشكالًا مختلفة، تضمنت استخدام أسلوب (المصادرة)، بحجة خرق قواعد القانون البحري، وترافقت هذه الهجمات مع مواجهة قصيرة بين لندن وطهران، ففي أوائل يوليو 2019، صادرت سلطات جبل طارق ناقلة نفط إيرانية للاشتباه في أنها كانت متوجهة إلى سوريا، وهو ما يمثل خرقًا للحظر الأمريكي والأوروبي على تصدير النفط لدمشق. ردت طهران على هذه الخطوة بعد أيام قليلة، بمصادرة ناقلة نفط بريطانية قرب مضيق هرمز.
تدخلت الولايات المتحدة لمحاولة منع سلطات جبل طارق من الإفراج عن الناقلة الإيرانية، لكن في النهاية تم السماح لها بالمغادرة في منتصف الشهر التالي، مقابل الإفراج في الشهر الذي يليه عن الناقلة البريطانية. بالطبع لم تكن مفاجأة كبيرة أن تظهر هذه الناقلة بعد ذلك قبالة الساحل السوري. استخدمت طهران بعد ذلك سلاح (مصادرة الناقلات) عدة مرات، من أجل المساومة على مطالب مثل الإفراج عن أصولها المالية المجمدة في الخارج، أو ناقلاتها التي قامت الولايات المتحدة في مناسبات عديدة بمصادرتها.
المحاولات الإسرائيلية والأمريكية لاستهداف ناقلات النفط الإيرانية المتجهة إلى سوريا أجبرت كلًا من موسكو وطهران على اتخاذ إجراءات مشابهة لما تم اتخاذه من جانب الولايات المتحدة خلال حرب الناقلات في ثمانينيات القرن الماضي؛ ففي أكتوبر الماضي اكتشفت البحرية الأمريكية أن ناقلة نفط إيرانية تسمى (سما) قد دخلت قناة السويس في اتجاه البحر المتوسط والساحل السوري، فاستعدت لاعتراضها بمجرد عبور القناة، لكنها فوجئت بعد دخول الناقلة للبحر المتوسط، أن الفرقاطة الروسية (الأدميرال كولاكوف)، بمعية قطعة بحرية روسية أخرى، كانت تنتظر الناقلة الإيرانية، ورافقتها حتى وصلت إلى ميناء طرطوس السوري، وقد شكلت هذه الحادثة، نهاية فعلية لإمكانية اعتراض البحرية الأمريكية الناقلات الإيرانية المتجهة إلى سوريا، لكن توجهت أنظار واشنطن في هذا الصدد إلى أقصى الغرب.
حرب الناقلات تصل إلى فنزويلا
وصول خمس ناقلات نفط إيرانية إلى الموانئ الفنزويلية في مايو الماضي، شكل اختبارًا مهمًا ضمن السجال الدائر حول ناقلات النفط بين واشنطن وطهران، فقد تحدت الأخيرة العقوبات الأمريكية المفروضة على فنزويلا، وأرسلت الناقلات الخمس برغم احتمالات اعتراضها من جانب البحرية الأمريكية التي توجد قطع تابعة لها بشكل دائم قبالة الساحل الفنزويلي. لكن رغم تمكن السفن الخمس من المرور، إلا أن الولايات المتحدة قامت في أغسطس الماضي بمصادرة حمولة أربعة سفن شحن مدنية تابعة لإيران كانت متجهة إلى هناك، بلغ مجموع هذه الحمولات أكثر من مليون ومائة ألف برميل من النفط.
اليمن … حاضر في الحرب الجديدة للناقلات
الهجمات التي تعرضت لها ناقلات النفط في الخليج، ارتبط بعضها بدور جماعة الحوثي المدعومة من طهران في اليمن؛ فقد استخدمت هذه الجماعة مجموعة من التكتيكات البحرية لاستهداف الملاحة العسكرية والمدنية سواء في مضيق باب المندب أو البحر الأحمر، أو قبالة السواحل اليمنية.
ففيما يتعلق بالألغام البحرية، أعلنت جماعة الحوثي في أواخر عام 2018 عن نوعين جديدين من أنواع الألغام البحرية المشتقة من نماذج إيرانية وسوفيتية الصنع، تحت اسم (مرصاد 1) و(مرصاد 2)، وقد تم رصد استخدام هذه الأنواع عشرات المرات خلال السنوات الماضية، وأصاب أحدها في ديسمبر الماضي ناقلة نفط يونانية جنوبي البحر الأحمر.
من أهم ملامح المواجهة في هذا النطاق، نشوء تهديد جديد على كل من حركة الملاحة العسكرية والمدنية، ألا وهو الزوارق المفخخة، ففي أوائل عام 2017، تمت مهاجمة فرقاطة تابعة للبحرية السعودية من الفئة (المدينة) بزورق انتحاري مفخخ، في هجوم مستوحى من تجربة الهجوم على المدمرة الأمريكية (كول) في ميناء عدن مطلع العقد الماضي.
جماعة الحوثي تمتلك نموذجين من نماذج الزوارق الانتحارية، الأول متعدد المهام ومصنع من الألياف الزجاجية، تبلغ سرعته 30 عقدة في الساعة، ويستخدم في بث الألغام البحرية وفي تنفيذ الهجمات الانتحارية أيضًا عن طريق تجهيز عبوات ناسفة داخل بدن الزورق، وتوجيهه في اتجاه الهدف المراد تدميره، ومن ثم مغادرة طاقمه المكون من فرد أو فردين متن الزورق أثناء تحركه. ويتميز هذا النموذج ببدن منخفض، يجعل من الصعب رصده على سطح الماء بسهولة أثناء تحركه.
النموذج الثاني هو الذي تم استخدامه في الهجوم على الفرقاطة السعودية، وكذلك في هجمات على قطع بحرية إماراتية في ميناء المخا منتصف 2017، وهو عبارة عن زورق سريع غير مأهول، يتم التحكم به عن بعد، ويبلغ طوله نحو عشرة أمتار، وهذا النموذج مبني على زوارق إماراتية الصنع، تسلمتها البحرية اليمنية في السنوات السابقة.
يمتلك هذا الزورق محركين يوفران له سرعة قصوى تبلغ 45 عقدة في الساعة، وهو مزود بشحنة متفجرة تبلغ زنتها 450 كيلو جرام، يعتقد أنها مستخرجة من صواريخ (ستايكس) السوفيتية المضادة للسفن، والتي امتلكتها البحرية اليمنية فيما مضى. العام الماضي ظهر نوع ثالث من الزوارق المفخخة ولكنه أقل تعقيدًا، وهو عبارة عن زورق خشبي مخصص للصيد، تم تعديله ليكون مفخخًا. هذه الأنواع من الزوارق المفخخة، تم استخدامها لاستهداف ناقلات النفط في عدة مناسبات، وتكثفت هذه الهجمات بشكل واضح منذ مارس الماضي، في نطاق الساحل اليمني وجنوبي البحر الأحمر.
بالنظر إلى ما تقدم، نصل إلى خلاصة مفادها أن التهديدات التي تتعرض لها الملاحة التجارية في الوقت الحالي -وإن كانت ليست جديدة بالمعنى الحرفي للكلمة، ومستقاة من تجارب تاريخية سابقة-تفرض بحكم الأهمية المتزايدة للنفط على المستوى العالمي تحديات جديدة على أي قوة بحرية إقليمية أو دولية، خاصة أن هذه التهديدات تترافق مع نشوء تكتيكات وأساليب غير مسبوقة لتهديد السفن والقطع البحرية.
هذا الوضع قد يفرض على مخططي الاستراتيجيات البحرية المستقبلية، وضع هذا التهديد غير المتماثل في الحسبان عند التجهيز لأي عملية عسكرية محدودة أو واسعة النطاق. وكذا قد يفرض أيضًا عودة لأسلوب (القوافل) الذي بموجبه تقوم القطع البحرية بتأمين السفن المدنية والمضائق البحرية الأساسية. وقد نرى مستقبلًا تعديلات جذرية على شكل ناقلات النفط، بحيث قد يتم تزويدها بآليات للدفاع عن نفسها ضد الهجمات الخارجية، أو ربما تقنيات حديثة للتغلب على هذه التهديدات الجديدة، التي تتهدد أيضًا القطع البحرية العسكرية، التي أثبتت التجربة أنها ليست منيعة بشكل كامل أمام هذه التهديدات، ولنا في معارك اليمن مثال واضح على ذلك.
باحث أول بالمرصد المصري