
ما بين (تيمبست) و(دريدنوت) … الاستراتيجية الدفاعية البريطانية الجديدة
بدأت رويدًا رويدًا تتكشف تفاصيل الخطة الدفاعية الجديدة لتحديث الجيش البريطاني، والتي سبق وأعلن رئيس الوزراء بوريس جونسون عن بعض تفاصيلها في نوفمبر الماضي أمام مجلس العموم، وأشار حينها إلى أن الخطة تستهدف رفع كفاءة الكتلة الأساسية في التسليح البريطاني، بما في ذلك القدرات النووية والصاروخية من أجل معالجة نقاط الضعف التي بدأت تظهر في المنظومة التسليحية البريطانية خلال السنوات الأخيرة، بسبب تقادم الوسائط الهجومية الرئيسية في هذه المنظومة، وبطء عمليات الإحلال والتجديد، وكذا البحوث المخصصة لإنتاج منظومات هجومية ودفاعية جديدة.
جونسون أعلن في خطابه سالف الذكر أنه سيتم تخصيص ميزانية ضخمة لتنفيذ بنود هذه الخطة، تصل قيمتها الإجمالية إلى 111.3 مليار دولار على مدار أربعة سنوات، تتضمن ميزانية مصغرة تبلغ قيمتها ستة مليارات جنيه إسترليني يتم تخصيصها للبحوث الخاصة بالتحديث العسكري وتطوير أنظمة الحرب الجوية. تتضمن الخطة أيضًا إمكانية الزيادة التدريجية للميزانية الإجمالية المخصصة للتحديث العسكري لتصبح قيمتها الكلية نحو 278.4 مليار دولار خلال نحو عشر سنوات.
حتى الآن لم يتم الإعلان بشكل شامل عن بنود هذه الخطة، حيث تم الكشف عن خطوطها العريضة هذا الأسبوع، على أن يتم الكشف التفصيلي عن بنود هذه الخطة خلال المراجعة العامة للسياسات الخارجية والدفاعية للمملكة المتحدة المتوقع نشرها في السادس عشر من الشهر الجاري. لكن من خلال تحليل ما تم إعلانه حتى الآن يمكن حصر التوجهات الأساسية لهذه الخطة في الجانبين التسليحي والاستراتيجي على الأفرع القتالية الرئيسية بحرًا وجوًا وبرًا بجانب القدرات النووية والبالستية.
القوة المدرعة
بدأ الجيش البريطاني منذ أغسطس الماضي في بحث الإمكانيات المتوفرة لديه فيما يتعلق بتحديث القوة المدرعة، بعد أن باتت الحاجة ماسة لتحديث عماد هذه القوة الذي يتكون من نحو 227 دبابة قتال رئيسية من نوع (تشالينجر-2). خلال فترة بحث الاستراتيجية الدفاعية البريطانية الجديدة، وهي الفترة التي انتهت في نوفمبر الماضي، انقسمت قيادة الجيش البريطاني بين من يرى أن الحاجة لم تعد موجودة في الحروب الحديثة، للأرتال المدرعة الثقيلة والكثيفة التدريع والتسليح، وأن مستقبل الصراعات المسلحة يكمن في الأنظمة المتحكم بها عن بعد، والهجمات السيبرانية، والتطبيقات الفضائية القتالية، وبين من يرى أن الدبابات ما زالت تمثل سلاحًا ميدانيًا أساسيًا في الحروب التقليدية، ويجب إخضاعها للتعديل والتحديث.
على ما يبدو فإن الرأي الغالب كان رأيًا وسطيًا، فقد نصت الخطة الدفاعية الجديدة على أن يتم تحديث ما بين 150 إلى 170 دبابة من هذا النوع بحزمة تحديثات شاملة تضم أبراجًا قتالية مدرعة جديدة، ومدافع رئيسة حديثة وأجهزة استشعار وتهديف متطورة، بجانب محركات جديدة. على أن يتم تفكيك الدبابات المتبقية -ويبلغ عددها في هذه الحالة ما بين 77 و57 دبابة- والاستفادة من أجزائها كقطع غيار للدبابات التي سيتم تحديثها.
تتضمن هذه الخطة بندًا خاصًا بعربات القتال المدرعة، حيث تنص على أن يتم التخلي بالكامل عن نحو 767 عربة قتال مدرعة من نوع (واريور)، التي يعود تاريخ صنعها إلى حقبة ثمانينات القرن الماضي، بحيث يتم تخزينها ضمن المعدات الاحتياطية، أو بيعها –وهو الاحتمال المرجح- لإحدى الدول الصديقة لبريطانيا. علمًا بأن هذا النوع من عربات القتال المدرعة سبق وأن خضع لعمليات تحديث عام 2015 بقيمة مليار دولار نفذتها شركة (لوكهيد مارتن) الأمريكية.
الخطة تتضمن أيضًا شراء ما يصل إلى 500 عربة قتال مدرعة من نوع (بوكسر)، التي كانت باكورة برنامج تصنيع مشترك جمع بين المملكة المتحدة وهولندا وألمانيا، لكن خرجت منه المملكة المتحدة في وقت سابق، ثم عادت في مارس عام 2018. هذا البند ليس جديدًا، فقط وقعت بريطانيا في نوفمبر 2019 عقدًا بقيمة 2.3 مليار إسترليني لشراء 500 عربة من هذا النوع، إلا أن الجديد في البند الخاص بهذه الصفقة في الخطة التي نحن بصددها أنه تم تسريع بدء تسلم هذه العربات ليصبح بداية من مطلع العام المقبل، عوضًا عن عام 2023 حسب ما نص عليه العقد الرئيسي لشراء هذه العربات، وهذا كله بهدف سد الفجوة التي ستنتج عن خروج عربات (واريور) من الخدمة.
القدرات البحرية النووية والبالستية
يعد البند المتعلق بالتسليح النووي والباليستي من أهم البنود اللافتة في هذه الخطة الجديدة، حيث تنص على أن يتم إيقاف الخفض التدريجي لعدد الرؤوس النووية التي تمتلكها الترسانة العسكرية البريطانية، وهو الخفض الذي كان قد أقره رئيس الوزراء الأسبق توني بلير في ديسمبر عام 2006. الخطة الجديدة تفيد أن المملكة المتحدة ستحتفظ بالمستوى الحالي لعدد الرؤوس النووية التي تمتلكها -ويتراوح عددها حاليًا ما بين 160 و180 رأسًا- دون أي خفض مستقبلي لأعدادها.
هذا القرار يترافق مع توجهين يسيران في نفس اتجاه إدامة القدرة النووية للمملكة المتحدة، الأول هو تحديث صواريخ (ترايدنت-2) الباليستية العابرة للقارات، والثاني تسريع عملية دخول الغواصات النووية الجديدة من الفئة (دريدنوت) إلى الخدمة في البحرية الملكية البريطانية، بدلًا من غواصات الفئة (فانجارد) المتقادمة.
القرارات الثلاثة تسير في نفس التوجه الداعم لإدامة التسلح النووي للمملكة المتحدة، فالرؤوس الحربية التي يمتلكها الجيش البريطاني مخصصة لتسليح صواريخ (ترايدنت) الباليستية التي تتخذ من الغواصات النووية من الفئة (فانجارد) منصة أساسية للإطلاق، بواقع ما بين ثمانية إلى ستة عشر صاروخًا لكل غواصة.
النية البريطانية في تحديث صواريخ (ترايدنت) التي تمتلكها، وتمثل بالنسبة لها سلاح الردع النووي الأول (والوحيد)، لم تكن جديدة، فقد اتخذت الحكومة البريطانية هذا القرار بشكل مبدئي عام 2006، ورصدت مبلغًا يناهز 20 مليار جنيه إسترليني من أجل صيانة وتحديث هذه الصواريخ. تفعيل هذا القرار تأخر حتى عام 2010، لكن طرأت مشكلة أخرى صعبت من مهمة تحديث هذه الصواريخ، ألا وهي مشكلة حالة الغواصات النووية الموجودة حاليًا في الخدمة لدى البحرية الملكية.
الثقل الرئيسي الحالي لقوة الغواصات النووية البريطانية، يتركز في أربعة غواصات نووية من الفئة (فانجارد)، دخلت إلى الخدمة خلال الفترة ما بين عامي 1993 و1999، وتعد القوة الرئيسية المنوط بها تنفيذ دوريات أعالي البحار، حيث حرصت البحرية البريطانية على أن تقوم كل منها بالتبادل، بتنفيذ دوريات تمتد لنحو ثلاثة أشهر، في بحار بعيدة عن الأراضي البريطانية، لكن هذه الخطة تعرضت مؤخرًا لبعض المشاكل، نظرًا لعدة عوامل، كشفت عن بعضها مؤخرًا، لجنة الدفاع في مجلس العموم البريطاني، في مارس الماضي، حيث أفادت أن غواصتين من الغواصات الأربع من هذه الفئة لم تنفذا أية مهام منذ أكثر من عام؛ نتيجة لتأخير طرأ على عمليات الصيانة الخاصة بهما، نتيجة لتداعيات جائحة كورونا، مما يقلص عدد الغواصات المتوفرة، لتنفيذ دوريات أعالي البحار، إلى اثنتين فقط.
خطورة عدم الجاهزية التي تتسم بها نصف الغواصات النووية الرئيسية في البحرية البريطانية تضاف إليها مشاكل أخرى، منها حقيقة أن غواصات هذه الفئة قد تظل في الخدمة إلى ما بعد عام 2030، وهذا يتعدى فعليًا العمر الافتراضي لهذه الفئة من الغواصات، والمقدر بـ25 عامًا.
سبب هذا يرجع إلى تأخر عمليات الإنتاج، في برنامج الغواصات النووية الجديدة، من الفئة (دريدنوت)، حيث بدأت بريطانيا عامي 2016 و2019، بناء أول غواصتين من هذه الفئة، التي تستهدف البحرية البريطانية بناء أربعة غواصات منها، تقدر التكلفة الإجمالية لهذا البرنامج بنحو 31 مليار جنيه إسترليني (37 مليار دولار أمريكي)، لكن التأخير الكبير في عمليات التصنيع، يجعل من الصعب إدخال أول غواصة من هذه الفئة إلى الخدمة، قبل عام 2030، وبالتالي تعمل الخطة الدفاعية الجديدة على تسريع عملية دخول هذه الغواصات للخدمة قدر الإمكان، لتجنب الخلل الذي سيطرأ على منظومة الردع البحرية البريطانية.
جدير بالذكر أن الخطة الدفاعية التسليحية الجديدة للمملكة المتحدة تشتمل أيضًا في الجانب البحري، على شراء نحو ثمانية فرقاطات مضادة للغواصات من الفئة (تايب-26)، وخمس فرقاطات من الفئة (تايب-31).
التسليح الجوي
فيما يتعلق بالتسليح الجوي، احتوت الخطة البريطانية الجديدة على بند يتعلق بالمقاتلات الأساسية في سلاح الجو الملكي البريطاني، وهي مقاتلات (إف-35)، حيث ستقلص لندن ما ستحصل عليه من هذا النوع، ليصبح فقط 48 مقاتلة، ستتسلمها كاملة بحلول عام 2025، بقيمة 12.6 مليار دولار، عوضًا عن 138 مقاتلة كانت تخطط لامتلاكها من هذا النوع الذي يعد الأحدث عالميًا. رغم هذا التقليص، إلا أن سلاح الجو الملكي يمتلك أنواع أخرى من المقاتلات التي من الممكن أن تتكامل مع هذا النوع، بحيث يتم سد الفجوة العديدة الناشئة عن هذا التخفيض، مثل مقاتلات (تايفون).
يضاف إلى ذلك، احتواء الخطة البريطانية الجديدة، على بنود خاصة بتسريع برنامج تصنيع مقاتلة الجيل السادس محلية الصنع (تيمبست)، الذي تم الإعلان عنه للمرة الأولى عام 2018، وتشارك فيه شركتان بريطانيتان، هما (رولز رويس) و(بي إي أيه)، بجانب شركة (ليوناردو) الإيطالية، وهو وأن كان مازال في مرحلة التجارب، إلا أنه يمثل مستقبل سلاح الجو البريطاني، خاصة في حالة ما إذا تم تخصيص موارد مالية كافية له بموجب الخطة الجديدة، التي تستهدف إدخال أول مقاتلة من هذا النوع إلى الخدمة بحلول عام 2035، ليكون بمثابة مقاتلة صف ثاني خلال مقاتلات (إف-35).
ملامح استراتيجية دفاعية جديدة
مما تقدم يمكن أن نستشف أن ما ظهر حتى الآن من بنود متعلقة بالخطة البريطانية الجديدة، ركز بشكل أساسي على الجانب التسليحي، لكن رغم ذلك توجد بعض المؤشرات التي تشير إلى تغير في الاستراتيجية الدفاعية البريطانية، منها تأكيد لندن على توجهها لخفض أعداد الجنود والضباط العاملين في الجيش، وهو توجه تم الكشف عنه للمرة الأولى في فبراير الماضي. الخطة تقتضي تخفيض أعداد الأفراد العاملين في القوات البرية، من نحو 83 ألف جندي حاليًا، إلى نحو 73 ألف جندي فقط، وذلك لاستخدام المخصصات المالية التي ستتوفر من هذا التخفيض، لشراء معدات وأنظمة جديدة.
من النقاط اللافتة في هذه الخطة أيضًا، التأكيد على مفهوم (بريطانيا الدولية)، الذي طرحه رئيس الوزراء الحالي بوريس جونسون، كاستراتيجية بديلة للتعامل مع المحيط الدولي، عقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ضمن الخطة التي نحن بصددها، تخطط البحرية البريطانية لزيادة تواجدها في المحيطات الدولية، خاصة المحيطين الهندي والهادئ، وذلك ضمن مراجعة أوسع لعمليات الانتشار البريطاني في الخارج، تستهدف زيادة (القواعد الأمامية الخارجية) للندن، وتحديدًا في مناطق مثل الشرق الأوسط والمحيط الهادئ، لتوفير قدرة أكبر على تحريك القوات إلى أي مكان في العالم، بشكل أكثر مرونة. وفي هذا الصدد تطرح بعض الأوساط العسكرية البريطانية، دول مثل سنغافورة وأستراليا واليابان، كخيارات محتملة لتنفيذ هذه الاستراتيجية، التي قد تتضمن أيضًا تعزيز تواجد القوات الجوية الملكية في قواعدها الخارجية الحالية، مثل قبرص وقطر وجزر الفوكلاند، وكذا استعادة مكانة بريطانيا على المستوى البحري، كقوة أولى في أوروبا، وذلك عبر النشر المستمر للوحدات البحرية في الخارج، وكذا بناء مزيد من القطع البحرية، خاصة الفرقاطات والسفن المساندة لحاملات الطائرات.
التوجهات الجديدة للذهنية الدفاعية البريطانية، تتضمن بشكل واضح الأنظمة المتحكم بها عن بعد، فقد تضمنت الخطة الجديدة، البحث في إمكانية التزود بطائرات انتحارية دون طيار – يطلق عليها أيضًا الذخائر الجوالة – وذلك على ضوء تجارب استخدام مثل هذا النوع من المنظومات الهجومية في نزاعات مثل الحرب في ناجورنو قره باغ. الروبوتات العسكرية بجميع أنواعها دخلت أيضًا ضمن دائرة الاهتمام البريطانية، فقد صرح أواخر العام الماضي قائد الجيش البريطاني الجنرال نيك كارتر، انه من المتوقع أن يصبح ربع تسليح الجيش البريطاني مكونًا من الروبوتات بحلول عام 2030، وهذا ما تم التأكيد عليه أيضًا في الخطة الجديدة، التي ستدعم تفعيل وكالة لتطبيقات الذكاء الصناعي، بهدف تطوير أنظمة قتالية مستقلة، وكذا استخدام تطبيقات للتنبؤ بسلوك الخصوم.
تضمنت الخطة الجديدة أيضًا تفعيل أكبر للقيادة الخاصة بالحرب السيبرانية، التي تم تدشينها مؤخرًا من أجل تعزيز حماية الداخل البريطاني من مخاطر الهجمات السيبرانية، وكذا تطوير أساليب جديدة لتنفيذ الهجمات الإلكترونية. كذلك يتضح من بنود الخطة الجديدة، توجه القيادة العسكرية البريطانية نحو تفعيل قيادة الفضاء في سلاح الجو الملكي البريطاني، بحيث تكون قادرة على تنفيذ مهام قتالية بحلول عام 2022، وتوفير حماية أفضل للأقمار الصناعية البريطانية.
إذن نصل إلى خلاصة مفادها، أن الخطة البريطانية الجديدة لتحسين الأمن الدفاعي والتسليحي، ترتكز بشكل واضح على ما صرح به رئيس الوزراء البريطاني في النسخة الأخيرة من مؤتمر ميونيخ للأمن المنعقدة في فبراير الماضي، حيث قال “سنركز استثماراتنا على التقنيات الجديدة التي ستحدث ثورة في الحروب المستقبلية، مثل الذكاء الاصطناعي والطائرات بدون طيار، وأسلحة الطاقة الموجهة، وغيرها”.
باحث أول بالمرصد المصري