أوروبا

سياسي روسي يشرح طبيعة “عالم ما بعد خروج” بريطانيا من الاتحاد الأوروبي

عرض – داليا يسري

في نهاية العام الماضي، أو تحديدًا في لحظاته الأخيرة، بالكاد نجحت المملكة المتحدة في عقد اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، جنب الإنجليز إمكانيات الخروج من الاتحاد بدون التوصل إلى اتفاق، وعلى هذا الأساس، توصل الطرفان إلى اتفاقية تجارة حرة، تم وصفها من قبل مسؤولي الجانبين بأنها فرصة “لتقليل حجم الأضرار”.

وفي هذا السياق، وتحت عنوان “أصدقاء قِدامى ومنافسون جُدد: كيف ستتطور العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة؟“، نشرت صحيفة “الحياة الدولية” الروسية، مقالاً لكاتبه العالم السياسي “أندريه كادومتسيف”.

وقال السياسي الروسي إنه على الرغم من وجود اتفاقية بشأن التجارة، إلا أن لندن وبروكسل لازالتا تواجهان شهورًا وإن لم يكن سنوات من المفاوضات المتوترة، حول معظم القضايا المتعلقة بالعلاقات الثنائية. كما أن روح التنافس بين المملكة المتحدة والعديد من الدول الرائدة في الاتحاد الأوروبي، أصبحت تهدد العلاقات التي لطالما كانت تقع في الماضي تحت مظلة مشروع أوروبي مشترك. وعند هذه النقطة، يطرح الكاتب تساؤلا، حول إلى أي مدى سيتمكن الأصدقاء القدامى من عدم التحول إلى منافسين لدودين؟

وقبل أن يجيب الكاتب عن السؤال، سلط الكاتب أولاً الضوء على لحظات سابقة وقعت في فبراير من 2020، عندما دخل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حيز التنفيذ.

ولفت إلى أن “ميشيل بارنييه”، رئيسة مجموعة العمل في المملكة المتحدة، و”جوزيب بوريل”، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، قد عبرا وقتها في بيان مشترك عن أملهما باستمرار “الشراكة” مع المملكة بعد وقوع الطلاق الرسمي.

 وبدوره، صرح “بوريس جونسون”، رئيس الوزراء البريطاني، في ذلك الوقت أيضًا، أنه من الضروري الحفاظ على العلاقات بل وحتى تطويرها في مجالات السياسة الخارجية والدفاع كذلك. كما تحدث جونسون عن وحدة التحالف الغربي والعلاقات مع أوروبا، ووصف المملكة باعتبارها قوة أوروبية خالصة بسبب الحقائق الجغرافية والتاريخية.

ولكن يقول الكاتب، إنه على الرغم من كل ذلك، ووفقًا لوسائل الإعلام البريطانية نفسها، فإن الإتفاقية التي تم توقيعها بصعوبة بين الطرفين بعد بذل جهود هائلة بتاريخ 24 ديسمبر، لا تتعلق إلا بالمسائل الأكثر إلحاحًا فقط، أو تحديدًا المسائل التجارية.

ووفقًا لم تم نشره وتداوله، فإنه لم يتم التطرق إلى القضايا العسكرية والقضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية، وذلك بفعل إصرار من الجانب البريطاني.

ويُعلق الكاتب على هذه النقاط لافتًا إلى أن هذه الأمور تشير الى ضيق الوقت المُحيط بمسار عملية المفاوضات المتوترة بالفعل، وتشير أيضًا الى رغبة المفاوضين في أخذ قسط من الراحة لأجل إعادة النظر في أولويات العلاقات مع أوروبا.

علاوة على ذلك، يرى الكاتب أنه ينبغي على الطرفين، قبل أن يقوموا بالعمل على توسيع الاتفاقية، الاعتراف أولاً بأن النتائج المترتبة على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبية هي نتائج تبدو سلبية للغاية على كلا الجانبين. إذ أن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، يعني للاتحاد الأوروبي أن يخسر أحد أغنى اعضائه، والذي كان في الماضي يُسهم بإجمالي 15% من إجمالي ناتج الاتحاد. كما أنه مع خسارة 66 مليون شخص، سينخفض عدد سكان الاتحاد الأوروبي إلى 446 مليونًا، وستنخفض مساحة أراضيه بنسبة 5.5%.  كما أن الاتحاد الأوروبي يفقد بهذه الطريقة أحد اعضائه الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ويفقد كذلك إحدى قوتيه النوويتين.

وبالنسبة لبريطانيا، يقول الكاتب، إن المملكة المتحدة وجدت نفسها بعد مغادرة الاتحاد، في حالة من عدم اليقين القانوني الدولي الكبير. وهذه الحالة تعود إلى أن المملكة بمجرد مغادرتها للاتحاد الأوروبي، تترك خلفها المئات من الاتفاقيات الدولية، التي أبرمها الاتحاد الأوروبي في قضايا مختلفة. وبالإضافة الى كل ما سبق، تسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في تعزيز المشاعر الانفصالية لدى كلاً من اسكتلندا وأيرلندا الشمالية مما يُحيى احتمالات انهيار المملكة المتحدة. وبوجه عام، يقول الكاتب أن اتفاقية ديسمبر 2020، تترك خلفها الكثير من الثغرات التي سوف تؤدي بجميع الأطراف الى الانزلاق في عملية مفاوضات لا تنتهي أبدًا في المستقبل.

واستبعد الكاتب أن تقوم المملكة المتحدة في المستقبل بالاعتماد على التوجهات التقليدية للسياسة الخارجية البريطانية في الاتجاه الأوروبي. بمعنى آخر، يقول الكاتب أن المملكة المتحدة سوف تُعارض نشوء أي قوة مهيمنة محتملة على الساحة الأوروبية، نظرًا لأن عدم وجود قوة أوروبية مهيمنة يمثل ضمانة لبقاء النفوذ البريطاني في القارة، ويسهم في الحفاظ على مكانة لندن كواحدة من الدول الأوروبية الرائدة. هناك نقطة أخرى يرى الكاتب أنها شديدة الأهمية، هذه النقطة تتلخص في أن عددًا من دول أوروبا الوسطى والشرقية يتجهون بشكل تاريخي نحو لندن، ويعتمدون عليها كعمود لثقل موازين القوى أمام ألمانيا وفرنسا.

مثال على ذلك، يرى الكاتب أنه خلال السنوات الأخيرة، ظهرت مقالات كثيرة على صفحات الجرائد البريطانية، أظهر مؤلفوها قلقهم المتزايد من احتمالات الحفاظ على وحدة حلف الناتو، والأمن الأوروبي بوجه عام. وكان السبب الرئيسي وراء قلقهم لا يُعزى الى الأعمال التخريبية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولكن كان يُعزى الى التغييرات السلبية في السياسة الألمانية. إذ أن ألمانيا في سياساتها تعود دائما نحو القارة الأوروبية، بينما يظل من المثير للقلق أن تقع المانيا الى جوار دولة أوروبية، قد تفكر في وضع مصالحها مع روسيا والدول المعادية الأخرى في موضع يسبق مصالحها مع الاتحاد الأوروبي نفسه.

ومن هذا التضاد في السياسة الخارجية، شرح الكاتب كيف أثارت سياسة بريطانيا العظمى غضب فرنسا وألمانيا منذ وقت بعيد. وقال الكاتب، أنه لهذا السبب ربما، ومن دون الحاجة الى فرض سيطرة كاملة على جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، لطالما عملت برلين جنبًا الى جنب مع باريس. والدليل على ذلك يظهر بوضوح في عام 2020، عندما حدث ترادف في سياسة الدولتان الأوروبيتان، اللتان اشتركتا في طرح مبادرة مشتركة لإنقاذ القارة. بل أن كلاهما اتفقتا على برنامج للإفراج عن الدين المشترك للاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، يقول الكاتب أن هذا التوافق بين برلين وباريس سوف يخضع لاختبارات جديدة في 2021، بالتزامن مع وصول إدارة جديدة الى الرئاسة الأمريكية، ورحيل المستشارة أنجيلا ميركل المقرر سلفًا عن منصبها.

وفيما يتعلق العلاقات البريطانية مع الولايات المتحدة، يقول الكاتب أنه في مجالات الكفاح لأجل الاحتفاظ بعلاقة خاصة مع الولايات المتحدة، نجد أن مصالح بريطانيا تتعارض بشكل علني مع المصالح الفرنسية والألمانية. ولكن من ناحية أخرى، ذكر الكاتب، أن “جو بايدن”، الرئيس الجديد للولايات المتحدة، قد حذر من أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا ينبغي أن يؤدي إلى تفاقم الأوضاع في أيرلندا الشمالية. مما يشير إلى أن الرئيس الأمريكي الجديد أقل ميلاً إلى استخدام بريطانيا باعتبارها وسيلة ضغط فعالة أخرى على أوروبا، أي من حيث التناقضات التى تجمع بينها وبين شركائها في أوروبا الوسطى والشرقية والمحور الفرنسي الألماني.

ومن جهة أخرى، يرى الكاتب، أن فرنسا تمتلك الآن فرصة ذهبية للمضي قدمًا في علاقاتها مع واشنطن. ربما يكون السبب وراء هذه الفرصة، يكمن في شخص “أنطوني بلنكين”، الذي قرر بايدن أن يقوم بتعيينه في منصب وزير الخارجية، والذي يصدف أن يكون قد درس مع إيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي، في برنامج القيادات الشابة التابع للمؤسسة الفرنسية الأمريكية.   علاوة على ذلك، تربط علاقات وطيدة بين “بلينكين”، وبين المستشار الدبلوماسي للرئيس “ماكرون”، “إيمانويل بون”، من خلال عملهم المشترك في الأمم المتحدة.

هناك شريك آخر، يرى الكاتب، أنه يُعد “الشريك الأكثر منطقية”، بالنسبة لبايدن في أوروبا، هي “أنجيلا ميركل”. ولكن قد يتم استبعادها كعنصر للتقارب، نظرًا لأنها أعلنت رغبتها في ترك مهام منصبها، في أعقاب الانتخابات المقبلة التي من المقرر أن تُجرى في اوائل الخريف المقبل. ويرى الكاتب أن المتنافسين على منصب خليفتها، كثيرون من السياسيون ذوي الخبرة، ولكن على خبرتهم يظل جميعهم في منأى تمامًا عن الاقتراب من حيز الشعبية أو من النطاق السياسي للمستشارة.

ومن الناحية الاستراتيجية، من الممكن أن تلعب القدرات العسكرية الفرنسية لصالح الولايات المتحدة. ومن الممكن أن تلعب كذلك القدرات الاقتصادية لألمانيا لصالح الولايات المتحدة. أما بالنسبة لانجلترا، فبمقدورها أن تضم الجانبين، الجانب العسكري والجانب الاقتصادي، نظرًا لأنها تمتلك بالفعل كلتا القوتين. وبالإضافة الى ترسانتها النووية، فإن بريطانيا تمتلك أكبر ميزانية عسكرية داخل الناتو بعد الولايات المتحدة، ووفقصا لصندوق النقد الدولي، يحتل اقتصادها المرتبة الخامسة حول العالم. وعلى هذا الأساس، يتكهن الكاتب، أنه لأجل إحداث وقيعة بين ألمانيا والولايات المتحدة، من المحتمل أن تشارك لندن في إشعال المزيد من النزاعات بين الأوروبيون والأطلنطيين.

وهناك محور خارج، يرى الكاتب أن بريطانيا سوف تتجه نحو تعزيزه. هذا المحور هو محور العلاقات الانجليزية التركية. إذ أن التطور السريع للعلاقات بين البلدين يبدو جليًا في الآونة الأخيرة، حتى في اللحظات التي سبقت الانفصال الرسمي عن الاتحاد، نرى أن المملكة المتحدة من بين جميع دول الاتحاد الأوروبي، كانت هي الدولة الوحيدة التي دخلت في اتفاقية تجارية شاملة مع تركيا، التي ينتقدها الجميع بسبب تحركاتها الأخيرة سواء على نطاق سياساتها الداخلية أو تحركاتها العدوانية في حوض شرق المتوسط.

وختامًا، يقول الكاتب أن بريطانيا تجد نفسها تلعب دور قوة صغيرة محصورة بين القطبين، الولايات المتحدة وأوروبا. وتجد نفسها كذلك في دور أصغر بين الثلاثية “أمريكا- الصين- أوروبا”. ومن الناحية النظرية، كل الطرق الآن نحو لندن مفتوحة تمامًا. ومن الناحية العملية، قد يكون الطريق الوحيد الواعد المتبقي أمام المملكة هو نفسه المبدأ الإمبراطوري الشهير، القائم على عبارة “فَرِق تَسُد”.

بمعنى، أن تعمد بريطانيا الى تفرقة محاور القوة، ثم تقوم بعد ذلك بعرض نفسها كوسيط بين الأطراف التي فرقتهم بنفسها. وهو مبدأ حدث وبادرت بريطانيا بالفعل الى الشروع في تنفيذه من خلال المفاوضات التجارية الأخيرة. ولكن لتجنب هذه الوقيعة، ينبغي على الاتحاد الأوروبي، أن يستوعب ويتفهم أي نموذج من العلاقات مع المملكة المتحدة سيكون مفيدًا بشكل أكبر للمجموعة على المدى الطويل.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى