تركيا

العقوبات الأمريكية على قطاع الصناعات الدفاعية التركية.. تأثيرات ضاغطة وفرص استجابة محدودة

أخيرًا، نفذت إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب تهديداتها المستمرة على مدار ثلاث أعوام بفرض عقوبات على أنقرة -الحليف في الناتو -جراء شرائها نظام الدفاع الصاروخي الروسي “إس-400” في 2017.

ففي 14 ديسمبر الجاري أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية فرض عقوبات على إدارة الصناعات الدفاعية التركية “SSB” التابعة لرئاسة الجمهورية، وأربعة مسؤولين كبار فيها هم رئيسها إسماعيل دمير، ونائبه فاروق يجيت، وسرحات جين أوغلو رئيس قسم الدفاع الجوي والفضاء، ومصطفى ألبير دنيز مدير برنامج الإدارة الإقليمية لأنظمة الدفاع الجوي؛ وذلك لمشاركتهم عن علم في صفقة مع شركة “روس أوبورون إكسبورت” (Rosoboronexport) – الوكالة الوسيطة الحكومية الوحيدة لصادرات وواردات روسيا من المنتجات والتكنولوجيات والخدمات ذات الصلة بالدفاع – لشراء نظام صواريخ أرض-جو “S-400”. 

وفُرضت العقوبات الأمريكية بموجب المادة 231 من قانون مكافحة خصوم أمريكا من خلال العقوبات “كاتسا” الصادر في أغسطس 2017، والذي هدف إلى تقييد يدي الرئيس دونالد ترامب لضمان عدم قدرته على رفع العقوبات المفروضة على روسيا بسبب تدخلها المزعوم في انتخابات الرئاسة والكونجرس لعام 2016، ويتضمن التشريع أيضًا ما يسمى بالعقوبات الثانوية المتعلقة بفرض عقوبات على البلدان التي تتعامل مع الصناعات الدفاعية الروسية، كجزء من مساعي واشنطن لخفض صادرات الأسلحة الروسية.

وشملت العقوبات فرض حظر على منح تراخيص وتصاريح تصدير أي سلعة أو تكنولوجيا إلى إدارة الصناعات الدفاعية التركية “SSB”. وفرض حظر على مساعدة بنك التصدير والاستيراد الأمريكي للصادرات لإدارة الصناعات الدفاعية التركية. ومطالبة الولايات المتحدة بمعارضة أي قروض قد تمنحها المؤسسات المالية الدولية وتستفيد منها إدارة الصناعات الدفاعية. وحظر تقديم قروض أو اعتمادات مالية من المؤسسات المالية الأمريكية لـ “SSB” تزيد قيمتها عن 10 ملايين دولار لمدة 12 شهرًا. إلى جانب العقوبات المفروضة على مسؤولي الهيئة وتشمل تجميد أصولهم الخاضعة للسلطة القضائية الأمريكية، ومنع الأشخاص الأمريكيين من الدخول في أي معاملة معهم.

تأثيرات محتملة

يحمل قرارات العقوبات الأمريكية في طياته تحديات جديدة تضاف إلى سلسلة من العقبات الداخلية والخارجية التي سيكون على الحكومة التركية التعامل مع تداعياتها السلبية خلال الفترة المقبلة، ومن ذلك: 

الانعكاسات السياسية: من الطبيعي أن قرار على هذا المستوى والحجم سيكون له مردوده السياسي على العلاقات بين البلدين وعلى النظام التركي؛ إذ يأتي في وقت يتوقع أن تشهد فيه العلاقات التركية-الأمريكية توترًا مع دخول الرئيس المنتخب جو بادين إلى البيت الأبيض بحلول 20 يناير المقبل، وبالتالي سيضاف هذا الملف إلى الأجندة المزدحمة بالقضايا الخلافية على مائدة العلاقات الثنائية الفترة القادمة. 

علاوة على أن رمزية القرار الذي استهدف إدارة تابعة لرئاسة الجمهورية ستسبب إحراجًا داخليًا لأردوغان يخصم المزيد من رصيده الشعبي المتداعي أصلًا، بعدما أصبح نظام “إس -400” موضوعًا للسياسة الداخلية بشكل متزايد في وقت تسعى فيه أنقرة جاهدة لتحويل انتباه الجمهور عن المشاكل الاقتصادية الخطيرة، كما كان يتم تقديم أي منتج عسكري جديد يتم تصنيعه محليًا أو بيعه للأجانب على أنه نوع من الانتصار السياسي في وسائل الإعلام الموالية للحكومة.  

هذا فضلًا عن تأثيراته السلبية على الدور الذي شرعت تركيا في لعبه إقليميًا وعالميًا ومثلت فيه الصناعات الدفاعية وصادراتها حجر الزاوية، بعدما قدمت نفسها كأحد مُلّاك التكنولوجيا العسكرية إقليميًا. وفي نظرها، تعتقد أنقرة أن تطوير قاعدة الصناعات الدفاعية جزء لا يتجزأ من المكانة الدولية التي اكتسبتها في العمليات عبر الحدود في سوريا والعراق منذ عام 2016. 

• الانعكاسات الفنية العسكرية: تمحورت ردود الفعل الرسمية التركية التي روج لها المسؤولون ووسائل الإعلام الموالية حول فكرة واحدة مفادها إنكار تأثيرات القرار السلبية على قطاع الصناعات الدفاعية، بل والذهاب بعيدًا إلى الفرص التي يوفرها له لزيادة الاعتمادية الذاتية وتحقيق المزيد من الاستقلالية وفك الارتباط بالخارج عبر تطوير استراتيجية للإنتاج المحلي للمكونات الرئيسية، مستندين إلى التقدم الذي أحرزه القطاع في السنوات الماضية. إلا أن الواقع يخبرنا بعكس ذلك، فلا زال هذا القطاع يعتمد بشكل كبير على الشراكات الدولية لتلبية متطلباته بما في ذلك محركات الدبابات والطائرات، وبالأخص الشراكة مع الولايات المتحدة.

فمن ناحية، وبحسب الأرقام الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية، منحت واشنطن عام 2019 تراخيص تصدير مكونات عسكرية لأنقرة بقيمة 581.6 مليون دولار، منها 199.5 مليون دولار لمكونات الطائرات، و161.4 مليون دولار لمحركات توربينات الغاز، ارتفاعًا من 472.75 مليون دولار عام 2018، حيث استحوذت محركات توربينات الغاز على 142.6 مليون دولار. 

وأظهرت الإحصاءات الأخيرة الصادرة عن هيئة التعاون الأمني ​​الدفاعي الأمريكية “DSCA” أنه في السنة المالية 2020، تمت الموافقة على 82.2 مليون دولار كمبيعات عسكرية خارجية إلى تركيا، منخفضة من 134.8 مليون دولار عام 2019. ومن ناحية أخرى، تدير إدارة الصناعات الدفاعية التركية حاليًا نحو 700 مشروع تصل قيمتها إلى 70 مليار ليرة (9 مليارات دولار)، بما في ذلك العديد من المشاريع التي تعتمد على مئات الأنظمة الفرعية الأمريكية الصنع. 

https://www.armytimes.com/resizer/Kfrny4XMjkuueTOKmEMBVdjuZuM=/2000x1125/filters:quality(100)/cloudfront-us-east-1.images.arcpublishing.com/mco/XUQGODVNR5HILN57HWI2ZCGEBI.jpeg

هذا الارتباط يقودنا إلى نتيجتين مهمتين؛ الأولى هي خسارة إدارة الصناعات العسكرية التركية العقود المبرمة مع واشنطن والتي تتراوح قيمتها بين 1.5 و2.3 مليار دولار بنسبة 5% من حجم التجارة الثنائية. وفي هذا الشأن، يعتقد خبير دفاعي تركي أن العقوبات ستؤثر على ما يقرب من 40٪ من واردات صناعة الدفاع من الولايات المتحدة، وقد يكون لها تأثير مدمر إذا استمرت لمدة عامين أو ثلاثة؛ إذ ستكون العقود القديمة الموقعة قبل سريان العقوبات قد انتهت ولن يتم تجديدها.   

وهنا تبرز القوات الجوية والأنظمة الأرضية باعتبارهما الأكثر تضررًا؛ إذ سوف تتأثر عملية تحديث وصيانة الطائرات المقاتلة من طراز “F-16″، ومشروع الطائرات المقاتلة الوطنية “TF-X”، وقد تلقت القوات الجوية بالفعل ضربة قاسية عقب طرد تركيا من برنامج المقاتلة “F-35” العام الماضي. أما فيما يتعلق بالأنظمة الأرضية، تهدد العقوبات بتقويض الكفاءة التشغيلية للرادارات وأنظمة التحكم في القيادة والعربات المدرعة وغيرها. 

أما الثانية، فتتعلق بإثناء العقوبات الأطراف الثالثة عن التعاون مع إدارة الصناعات الدفاعية، وهو ما سيوثر على سلسلة من المشاريع الوطنية مثل المروحية متعددة المهام “T70″، والمروحية الهجومية “T129″، والطائرة المقاتلة “TF-X”، وطائرة التدريب “HurJet”، والسفينة الحربية “MILGEM”. فمن المحتمل أن تتأثر العقود مع باكستان بشأن توريد المروحيات الهجومية “T129 ATAK” وطائرات التدريب “HurJet”.

تي-129 - ويكيبيديا

نخلص من هذا إلى استنتاج عام مفاده مواجهة قطاع الصناعات الدفاعية تحديات كبيرة في استكمال خطط الإنتاج وفق التوقيتات المحددة وتراجع إمكانيات ترقية وتحديث المعدات الحالية، وبالتبعية تعطل عقود التوريد إلى المستوردين، والتأثير في مصداقية الشركات التركية. علاوة على إمكانية تحفيز استجابة أوروبية مماثلة خاصة مع قول المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إن الاتحاد يريد مناقشة صادرات الأسلحة إلى تركيا مع حلفاء الناتو وتنسيق إجراءاته مع إدارة جو بايدن في ظل رغبة مشتركة لتبني مقاربة مماثلة بشأن القضايا العالمية والتهديدات المشتركة. وقد جاءت تصريحاتها بعد اتفاق زعماء الاتحاد على تحديد عقوبات محدودة على أنقرة بسبب الخلاف حول التنقيب عن الغاز مع اليونان وقبرص، لكنهم أرجأوا أي إجراءات أكثر صرامة حتى مارس.

دوافع واشنطن وخيارات أنقرة

من الملاحظ أن العقوبات الأمريكية لم تستهدف بشكل مباشر الشركات العسكرية التركية المملوكة للدولة أو للقطاع الخاص، وهدفت فقط لمعاقبة إدارة الصناعات الدفاعية، لتجنب الإضرار بالعلاقات الواسعة بين الجيشين الأمريكي والتركي، بالنظر إلى أهمية أنقرة في عقلية واشنطن العسكرية لاستضافتها أهم القواعد الأمريكية في الخارج ألا وهي قاعدة “إنجرليك” التي تضم 50 قنبلة نووية من طراز “B-61” وتوفر ميزة استراتيجية للنشاط العسكري الأمريكي في مناطق الصراعات في الشرق الأوسط وآسيا.

وتشجع الولايات المتحدة أساسًا استراتيجية أنقرة لتصنيع السلاح محليًا بدءًا من بيع طائرات “F-16” لها في أوائل الثمانينيات إلى مدها بعدد من البرامج الحديثة مثل تجميع طائرات الهليكوبتر “Blackhawk” الأمريكية في تركيا. كما تفاوضت الولايات المتحدة مع أنقرة على إنتاج عناصر من نظام الدفاع الصاروخي الجوي “باتريوت” والمكونات المرتبطة به، لكنها تعثرت قبل أن تتجه الأخيرة لشراء النظام الروسي.

Sikorsky awarded $556.1M for Black Hawk production

علاوة على ذلك، تسعى واشنطن من خلال هذا القرار إلى إيصال رسالة ردع للبلدان الأخرى التي وقعت اتفاقيات مع روسيا منذ تمرير قانون “CAATSA”: “حليف الناتو عوقب فما بالكم وأنتم لا ترتبطون مع الولايات المتحدة بهذا التحالف الأمني العميق”. هذه الرسالة ذكرت بوضوح في أحد فقرات البيان الصادر عن وزير الخارجية مايك بومبيو: “إجراء اليوم يرسل إشارة واضحة مفادها أن الولايات المتحدة ستنفذ المادة 231 من قانون كاتسا بالكامل ولن تتسامح مع المعاملات المهمة مع قطاعي الدفاع والاستخبارات في روسيا”.

وفي هذا الإطار، تراقب الهند هذه التطورات عن كثب حيث تتجه البلاد نحو الحصول على نظام “S-400” العام المقبل، لكن المفارقة أن قانون الإنفاق الدفاعي “NDAA” لعام 2020 طالب إدارة ترامب بمعاقبة تركيا على شراء أنظمة “إس-400” وليس الهند. كما أن القانون الجديد لعام 2021 -الذي أقره الكونجرس وفي انتظار أن يوقعه الرئيس الأمريكي في الأيام المقبلة- يوجه صراحة أيضًا الحكومة الأمريكية لمعاقبة تركيا على استحواذ “S-400″، لكن لم يتم ذكر الهند أيضًا.

وفي مواجهة هذا الوضع، تمتلك أنقرة مجموعة من السيناريوهات للرد تتراوح بين التهدئة والتراجع أو التصعيد، نطرح منها:

• التراجع خطوة للخلف: والتعهد بعدم تفعيل النظام الروسي على أرضها، مع السماح لها باستخدامه في حالات طوارئ محدودة للغاية. واللجوء إلى الحوار كحل أمثل للأزمة، وهو ما طرحته وزارة الخارجية التركية في ردها، مبدية “الاستعداد لمعالجة القضية عبر الحوار والدبلوماسية بما يتفق مع حوار التحالف”، وداعية إلى “إعادة النظر في هذا القرار الجائر الذي سيؤثر حتمًا بالسلب على العلاقات بين البلدين”، ومع ذلك لم تتورع عن التهديد بالرد بطريقة وفي الوقت المناسبين. ولا شك أن هذا الملف سيتصدر أجندة العلاقات الثنائية بين الجانبين في المرحلة المقبلة.

• اتخاذ إجراءات تصعيدية: كتفعيل النظام الصاروخي الروسي، أو إغلاق القاعدة العسكرية الأمريكية في بلدة إنجرليك الجنوبية أو محطة رادار الإنذار المبكر “كوريتشيك” التابعة لحلف شمال الأطلسي في مقاطعة ملاطية الشرقية، أو تحقيق المزيد من التقارب مع روسيا حيث اقترح أردوغان شراء طائرات مقاتلة روسية واستفسر عن مدى توفر نظام الدفاع الصاروخي “S-500″، أو تنفيذ عملية عسكرية جديدة ضد الأكراد السوريين.

Alert at Incirlik Air Base

وبالنظر إلى تلك الاحتمالات سنجد أن الأقرب منها حال لجأت أنقرة لسيناريو التصعيد هو الاستمرار في تفعيل أنظمة “إس-400” وإجراء تجارب عليها ونشرها كما هو مخطط له. وبدرجة أقل تنفيذ عملية عسكرية نوعية ومحدودة داخل الأراضي السورية لإرسال رسالة للإدارة الأمريكية الجديدة بأنها لن تتراجع مع الحفاظ على قناة اتصال مفتوحة معها وطريق رجعة وعدم استفزازها إلى حد الوصول بالعلاقات الثنائية إلى حالة حافة الهاوية.

أما الحديث عن إغلاق قاعدة إنجرليك أو محطة رادار كوريتشيك فهو أمر مستبعد تمامًا، وعلى الرغم من كونها ورقة مساومة وضغط متكررة مع كل أزمة تعصف بالعلاقات مع واشنطن، إلا أن تركيا هي المستفيد الأكبر من تلك المنشآت التابعة للناتو بعدما منحتها وضعًا خاصًا في التفكير العسكري الأمريكي. كما أن هذا التهديد قد يفقد جدواه في لحظة ما إذ يثار من فترة لأخرى حديث عن بحث واشنطن -ولو بشكل غير رسمي- عن بدائل لإعادة تموضع قواتها والتواصل مع الأردن والكويت واليونان في هذا الشأن.  

ولعل قرار ألمانيا بإعادة تموضع قواتها من إنجرليك إلى قاعدة الأزرق بالأردن في يونيو 2017 عقب رفض أنقرة السماح لبرلمانيين ألمان بزيارة جنود بلادهم في القاعدة، حاضر في ذهن وأمام أعين القادة الأتراك في كل لحظة. ومن الجدير بالذكر أن قرار إغلاق القاعدة لم يحدث إلا مرة واحدة عام 1975 ردًا على قرار مجلس النواب الأمريكي بمنع تزويد أنقرة بالسلاح على خلفية استخدامها معدات وأسلحة أمريكية في غزو قبرص، لكن سرعان ما نجحت واشنطن في إقناع أنقرة بإعادة فتحها عام 1978.

• الالتفاف على العقوبات: سواء عبر إجراء تعديل قانوني يتم بموجبه نقل بعض المشاريع مرة أخرى إلى إدارة المشتريات الخارجية التابعة لوزارة الدفاع، والتي كانت مسؤولة عنها حتى سنوات قليلة مضت، لكن هذا يحمل مخاطرة احتمالية فرض عقوبات أمريكية على وزارة الدفاع، حيث يبدو أن واشنطن مصممة على معاقبة أنقرة. أو عبر الاتفاق على وسيلة تقنية وسط كتعهد أنقرة، على سبيل المثال، بعدم استخدام النظام مدعومًا بالمراقبة المادية أو عبر الأقمار الصناعية، لكن هذه الصيغة رفضت العام الماضي من الولايات المتحدة والناتو، ولا نعتقد أن الضمانات تغيرت لتقبلها هذه المرة.

• إزالة النظام الصاروخي “إس-400” من أراضيها: سواء عبر تأجيره إلى دولة أخرى مثل أذربيجان أو قطر أو أوكرانيا، أو بيعه لواشنطن، إلا أن هذا السيناريو يستحيل حدوثه، لأن العقد مع روسيا يحظر بيع الأنظمة لأطراف ثالثة، كما أن أنقرة تفضل الاحتفاظ به كورقة مساومة في أي مفاوضات مقبلة.

أصبحت الكرة الآن في ملعب أنقرة، أما بالنسبة للولايات المتحدة، فسوف يعتمد رفع العقوبات كليًا أو جزئيًا على سلوك تركيا؛ إذ سيتعين على الرئيس المنتخب جو بايدن عرض القضية على الكونجرس وتقديم حجج أكثر إقناعًا من الديباجة التقليدية بشأن الأهمية الجيوسياسية لأنقرة. وينص مشروع القانون على أنه لا يمكن إنهاء العقوبات دون ضمانات موثوقة بأن تركيا لم تعد تمتلك ولن تمتلك “إس-400” أو نظام لاحق –مقصود “إس-500. 

الموقف الحالي لقطاع الصناعات الدفاعية وتحدياته

تضيف العقوبات الأمريكية الأخيرة أعباء جديدة على قطاع الصناعات الدفاعية، بما يقوض طموحات أنقرة بجعل صناعة الدفاع مستقلة بنسبة 100٪ بحلول عام 2053. ويأتي ذلك على الرغم من الخطوات التي خطتها وجعلتها تحتل المرتبة 14 بين أكبر مصدري السلاح في العالم بعد أن كانت ثالث أكبر مستورد، وبات لها 7 شركات من بين أكبر 100 في العالم في هذا القطاع متفوِّقةً بذلك على إسرائيل وروسيا والسويد واليابان مجتمعين. 

وبلغ حجم مبيعات الصناعة حوالي 10.9 مليار دولار عام 2019، بزيادة قدرها 24٪ من حوالي 8.8 مليار دولار في عام 2018. وارتفعت عائدات المبيعات الخارجية بنسبة 40 ٪ إلى أكثر من 3 مليارات دولار من 2.2 مليار دولار في 2018. وخلال تلك المدة انخفضت نسبة الأسلحة المستوردة من الخارج إلى 30% من إجمالي احتياجاتها، مقابل 70% في بداية المدة. وباتت تركيا واحدة من 22 دولة فقط تصنع الطائرات الدرون.

لكن مع ذلك، لا يزال يواجه هذا القطاع مشاكل هيكلية وتحديات جسيمة، نذكر منها:

الاعتماد على المدخلات الأجنبية: كما أشرنا آنفًا، ويظهر هذا من ارتفاع حجم الواردات بل وتجاوزها قيمة المبيعات الأجنبية عام 2019، حيث بلغت 3.1 مليار دولار تقريبًا، بزيادة قدرها 28٪ عن 2.4 مليار دولار في 2018. والواردات عبارة عن مواد خام مثل الفولاذ من فنلندا لتصنيع المركبات المدرعة، والمنتجات الوسيطة مثل المحركات التوربينية من أوكرانيا لصنع الطائرات بدون طيار. وهو ما يجعل تلك الصناعة مرهونة بالعلاقات مع تلك الدول، وخاضعة بشكل مستمر لطبيعتها المتغيرة.

وهو ما حدث بالفعل عدة مرات، فردًا على العملية نبع السلام في شمال شرق سوريا في أكتوبر 2019، فرضت بعض شركات صناعة الدفاع الأوروبية حظرًا على بيع بعض المنتجات لتركيا، حيث أوقفت فنلندا صادرات الصلب إلى تركيا، بينما علقت لندن مشاركة الشركات البريطانية في أول مشروع محلي للطائرات المقاتلة في تركيا، والذي كان يعاني بالفعل من التأخيرات بسبب مشاكل المحرك، كما حظرت ألمانيا وإيطاليا والتشيك والنرويج والسويد المبيعات للشركات التركية، وهو ما كلف أنقرة حوالي مليار دولار من خسائر الإنتاج. 

وردًا على دعم أنقرة للدوحة بعد المقاطعة العربية في يونيو 2017، ألغت السعودية والإمارات عدة عقود مع شركات دفاع تركية.

كذلك، فإن الكونجرس سبق وأن جمد مبيعات الأسلحة إلى تركيا لمدة عامين على خلفية حصول الأخيرة على النظام الروسي “إس-400″، ما تسبب في وقف صفقة بقيمة 1.5 مليار دولار بين تركيا وباكستان لبيع 30 طائرة هليكوبتر هجومية تركية الصنع من طراز “T129″، حيث إن محركها “CTS800” تصممه شركة “لايت هليكوبتر تربيون إنجاين” (LHTEC)، وهو مشروع مشترك بين شركة “هانيويل” الأمريكية وشركة “رولزرويس موتور” البريطانية. وبالتالي لا يُمكن لتركيا بيع هذا الطراز من المروحيات أو أي نظام سلاح يحتوي على هذا المحرك دون الحصول على ترخيص تصدير من الحكومة الأمريكية.

Turkey tested second prototype of Akinci attack drone with a new engine

علاوة على ذلك، تسبب حجب ألمانيا التكنولوجيا العسكرية عن تركيا بسبب مخاوف سياسية في تأخر تنفيذ عقد بقيمة مليار دولار لتوريد 100 دبابة قتالية من طراز ألتاي (الأغلى في العالم بسعر 13.75 مليون دولار) إلى قطر، في صفقة من أكبر صادرات الأسلحة في صناعة الدفاع منذ عقود، حيث تعتمد تركيا على الخبرة الألمانية في المحركات لإنتاج هذه الدبابات. وبالمثل، تتردد أوكرانيا في تبادل التكنولوجيا العسكرية مع أنقرة بسبب مخاوف تتعلق بحقوق الملكية الفكرية والتكنولوجية، وهو ما يؤثر على إنتاج الطائرة بدون طيار “Akinci” كونها تعتمد على المحركات التوربينية الأوكرانية “AI-450”. 

• قصور الإطار القانوني والبيروقراطي بشأن حقوق الملكية الفكرية: حيث تورطت العديد من شركات الصناعات الدفاعية المشاركة في البحث والتطوير في معارك قانونية مع بعضها البعض بشأن ادعاءات بانتهاكات حقوق الملكية الفكرية، وهذا يفسد الثقة داخل القطاع ويمنع الشركات من التعاون وتشكيل مشاريع مشتركة والقفز إلى مشاريع أكبر.

• نقص رأس المال البشري الناجم عن هجرة العقول: فوفقًا لمسح أجرته إدارة الصناعات الدفاعية، خرج 272 من مسؤولي صناعة الدفاع، معظمهم من كبار المهندسين، من تركيا للحصول على وظائف في الخارج، وتصدرت هولندا والولايات المتحدة وألمانيا قائمة الوجهات الأجنبية لهم، وكذلك بريطانيا وكندا وأستراليا والنمسا وبلجيكا وإيطاليا والسويد وبولندا وفرنسا وفنلندا واليابان وتايلاند وقطر وسويسرا وأيرلندا، ويرجع ذلك إلى فرص الترقي المحدودة وتدني الرواتب.

• الحاجة إلى أسواق جديدة: تضمنت أكبر خمسة أسواق لأنقرة لمعدات الصناعات الدفاعية في عام 2018 الولايات المتحدة (726.7 مليون دولار) وألمانيا (226.1 مليون دولار) وعمان (153.4 مليون دولار) وقطر (83 مليون دولار) وهولندا (75 مليون دولار). وعلى الرغم من دخول تركيا أسواقًا جديدة في عام 2019، مثل غواتيمالا وغيانا وتنزانيا وترينيداد وتوباغو، إلا أن هذه القائمة لا تشمل أيًا من كبار مستوردي الأسلحة في العالم، مثل المملكة العربية السعودية والعراق ومصر. وسيكون الوصول إلى هذه الأسواق أمرًا حيويًا لضمان استدامة القطاع على المدى الطويل بعد تشبع السوق المحلية، لكن المناخ السياسي والخلافات مع أنقرة تجعل هذا الخيار صعبًا بما يشكل تحديًا لشركات الدفاع التركية.

الحاجة إلى تأمين استثمارات ضخمة: في الحالات العادية، يمكن تحقيق ذلك من خلال فتح القطاع للمستثمرين الأجانب، ولكن نظرًا لارتباط هذا النوع من الصناعات بالأمن القومي، لا يبدو أن هذا خيارًا مناسبًا. وفي حال السماح بالاستثمارات الخارجية فمن المرجح أن تكون الولايات المتحدة والدول الأوروبية وروسيا والصين هم أكبر المستثمرين ما يعني الحد من استقلال تلك الصناعة. وللتغلب على هذا، أقامت تركيا شراكة مع قطر، حيث وقع أردوغان في ديسمبر 2018 المرسوم رقم 481، بشأن خصخصة مصنع الدبابات “تانك باليت لصالح شركة BMC القطرية على مدى السنوات الخمس والعشرين القادمة. لكن بالطبع هذا ليس كافيًا لمساعدة قطاع بهذا الحجم.

ماري ماهر

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى