القضية الفلسطينيةإسرائيل

اتجاهات الصراع السياسي الداخلي في إسرائيل

تشهد تل أبيب درجة من الغليان السياسي المرتبط باتساع هوة الخلاف بين المستوى السياسي والعسكري فيما يتعلق بإدارة الحرب الجارية في قطاع غزة وسيناريوهات اليوم التالي، على وقع تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف غالانت” التي عبر خلالها بشكل واضح رفضه للاحتلال العسكري للقطاع، في توجه على ما يبدو بأنه تنامي في الإدارك لدى المستوى العسكري بخطورة المناورة السياسية التي يقوم بها قادة الائتلاف الحكومي بقيادة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو والوزراء المتطرفين “إيتمار بن غفير” و”بتسلئيل سومتريش”، ومحاولتهم توظيف المفاهيم العملياتية لإدارة المعركة المرتبطة بما أسماه نتنياهو بـ “النصر الكامل” أو “النصر الحاسم” (وهو المفهوم الذي روجه رئيس الأركان السابق “أفيف كوخافي” في استراتيجيته المعروفة بأسم “الزخم” أو “تنوفا” بالعبري) بشكل سياسي تستهدف من خلاله البقاء في المشهد السياسي أطول فترة ممكنة، دون الأخذ في الاعتبار الحسابات العسكرية والمصلحة الوطنية لطول أمد تلك الحرب. وهو ما انسحب إلى الأفكار المطروحة حول سيناريوهات اليوم التالي التي أصبحت تدار بذات المنهجية التي ستغرق تل أبيب في “مستنقع” – بحسب وصف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن – مرتبط بصراع استنزافي سيمتد لسنوات خاصة في ظل ميل نتنياهو وشركاءه المتطرفين نحو سيناريو الاحتلال العسكري للقطاع ومحاولتهم تغذية وإذكاء التيار اليميني المتطرف بهذا التصور الذي ستكون له تكلفته وتداعياته السياسية والعسكرية على مستقبل الدولة العبرية المأزومة.

تفرض تلك المتغيرات الناشئة في اللحظة الحالية الحاجة للوقوف على اتجاهات التصعيد المحتملة ارتباطًا بالخلاف الحادث في الوقت الراهن، وذلك في ضوء المسارات التالية:

  1. مستقبل حكومة الحرب الراهنة: يأتي في مقدمة الآثار المباشرة لتصاعد هذا الخلاف الحالي بين المستويين العسكري والسياسي، الانعكاسات المحتملة على تزايد درجة الخلاف بين أعضاء حكومة الحرب الحالية، خاصة في ظل تأييد كل من “بيني غانتس” و”غادي أيزنكوت” أعضاء مجلس الحرب، دعوة وزير الدفاع الإسرائيلي “غالانت”، وكانوا قد هددوا أكثر من مرة بالانسحاب من حكومة الحرب خاصة في ظل عدم وجود رؤية واضحة لليوم التالي للحرب في قطاع غزة، وقد يُلقي هذا الخلاف وتصاعده في اللحظة الحالية – خاصة على خلفية مطالبة الوزراء المتطرفين “إيتمار بن غفير” و”بتسلئيل سومتريش” نتنياهو بإقالة وزير الدفاع – بظلاله على حكومة الحرب الحالية وانهيارها، هذا فضلا عن أزمة “قانون تجنيد الحريديم” المتصاعدة في الوقت الراهن، وهو ما سيكون له تداعياته السلبية على شرعية الائتلاف الحكومي لاستكمال الحرب والمخططات التي تخدم بقاء أعضاءه في السلطة وتعزز حظوظهم الانتخابية، وذلك نتيجة انسحاب مكون المعارضة الوحيد، الذي يمثله كل من “بيني غانتس” و”غادي إيزنكوت” بعد انسحاب زعيم حزب “أمل جديد”، وهو ما قد يشكل جبهة معارضة قادرة على حشد وتعبئة الشارع الإسرائيلي في مواجهة الائتلاف. 
  2. استقرار الائتلاف الحكومي ومدى هشاشته: تتضاءل فرص رهان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو على استقرار الائتلاف نتيجة إذعانه للابتزاز السياسي الذي يتعرض له من جانب شركاءه في الائتلاف، ومرونته في التعامل مع مطالبهم بشأن إدارة الحرب وسيناريوهات ما بعد انتهاءها، وهو ما انعكس بشكل واضح على مدار الأشهر السبعة الماضية، حيث تبدلت مواقف نتنياهو السياسية بشكل متسارع في أكثر من مناسبة، فبعد أن أبدى مرونة بشأن سيناريو عدم الاحتلال العسكري للقطاع في بداية الحرب وعبر عن ذلك بشكل واضح للمسؤولين الأمريكيين في إطار سيناريوهات اليوم التالي، عاد اليوم لتأييد فكرة الاحتلال لمغازلة أنصار اليمين المتطرف، رغم إدراكه بعدم واقعية هذه الفكرة التي تستحيل في ظل الفشل العسكري في تحقيق أيا من أهداف الحرب حتى الآن.

أيضًا عكست مفاوضات عقد اتفاق هدنة خلال الأيام الماضية، التي فشلت نتيجة إذعان نتنياهو لمطالب شركاءه برفض اتفاق الهدنة وتنفيذ مخطط اجتياح مدينة رفح، هذا الملمح. وبالتالي، تؤدي هذه التباينات التي تتسع يومًا بعد يوم بين مؤسسات الدولة العبرية على المستويين العسكري والسياسي، وبدأ ينعكس ذلك في تقديم عدد من المسؤوليين العسكريين الكبار استقالاتهم، وكان أخرها استقالة رئيس شعبة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي (أمان) “أهارون هاليفا”، إلى تزايد الضغوط التي يتصدع معها هذا الاستقرار الهش، نتيجة تآكل شرعية هذا الائتلاف على مستوى الداخل الذي يواجه أزمات كبيرة يتصاعد معها الحراك الاحتجاجي للشارع الإسرائيلي، هذا بالإضافة إلى التصاعد المحتمل للضغط الدولي والإقليمي لإيقاف الحرب المستعرة التي تقوم بها إسرائيل ضد قطاع غزة منذ سبعة أشهر قادت في كثير من الأحيان الاستقرار الإقليمي نحو حافة الهاوية، على النحو الذي ستكون له تداعيات وخيمة على مصالح القوى الكبرى بالمنطقة، هذا فضلا عن انسحاب آثار تلك الأحداث إلى داخل تلك الدول التي تعاني في الوقت الراهن من الاضطراب وعدم الاستقرار نتيجة تجاوب الرأي العام لديهم مع هذا التصعيد، واتساع رقعة التضامن الاحتجاجي في الجامعات الغربية بشكل ملحوظ خلال الفترة الماضية وحتى الآن.     

  • ميول الرأي العام الداخلي واتجاهات التصعيد: تحفز هذه الخلافات المتصاعدة في الوقت الراهن بين أعضاء الحكومة الميل الاحتجاجي الذي يشهده الشارع الإسرائيلي منذ فترة طويلة ويستمر حتى اللحظة الحالية والذي يقوده أهالي الأسرى الإسرائيليين الذين يروا في توجهات الائتلاف الراهن عدم اكتراث لأرواح ذويهم في مقابل تفضيلات مصالحهم السياسي التي تتماس مع استمرار الحرب. وينعكس هذا التوجه في نتائج استطلاعات الرأي، وكان أخرها نتائج استطلاع الرأي الذي أجرته القناة 12 الإسرائيلية ونشرته في 16 مايو 2024، حيث رأت غالبية عينة المستطلعين إن حزب “معسكر الدولة” المعارض بقيادة “بيني غانتس سيكون أكبر حزب في إسرائيل بـ 29 مقعدا، في مقابل 19 مقعد لحزب الليكود بقيادة نتنياهو.

أيضًا عكست هذه النتائج درجة الاستقطاب والانقسام المجتمعي الذي يشهده الداخل الإسرائيلي في الوقت الراهن حول مسائل الحرب الجارية، حيث أجاب 40% من أفراد العينة بأنه يجب أن يكون هناك حكم عسكري إسرائيلي، وفي المقابل اختار 40% سيطرة العناصر الفلسطينية بدعم من الدول العربية، وأجاب 20% أنهم لا يعرفون. كما أجابت أغلبية الجمهور (60%) بأنه لا ينبغي لنتنياهو إقالة غالانت وأجابت نسبة من 23% بنعم، ومن بين ناخبي كتلة نتنياهو أجاب 47% أنه لا ينبغي إقالة غالانت مقابل 38% أجابوا بنعم. ومن بين ناخبي المجموعة المعارضة لنتنياهو، أجابت أغلبية كبيرة (82%) بأنه لا ينبغي إقالة غالانت مقابل 9% فقط أجابوا بنعم. وهو ما يعكس حالة التدهور المحتملة بتصعيد الاحتجاجات، إذا ما تصاعد الخلاف بين نتنياهو وشركاءه والجناح الأخر في الحكومة الذي يمثله في الوقت الراهن غالانت وغانتس وإيزنكوت، خاصة إذا ما نظرنا إلى هذه النتائج بأنها ليست استطلاع على وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت بقدر ما تمثل استطلاع على موقفه من الحرب الحالية ورفضه للاحتلال العسكري للقطاع، الذي يبدو أنه لا يحظى بتأييد الأغلبية داخل حزب نتنياهو نفسه الذي أبدى فقط 38% الموافقة على إقالة غالانت، في مقابل 47% قالوا أنه لا ينبغي إقالته، و39% وافقوا على الاستقالة الطوعية من غالانت، في مقابل 47% أجابوا بأنه لا ينبغي أن يستقيل.

بشكل عام، بات الوضع الداخلي الإسرائيلي يتحسس لمجريات أحداث الحرب التي تقوم بها تل أبيب ضد قطاع غزة، ويدعم استمرارها قادة الائتلاف الراهن، خاصة وأن مصائر عدد كبير من الإسرائيليين بات مرتبط بما ستؤول إليه نتائج تلك الحرب، من النازحين في مناطق الشمال المحاذي للحدود اللبنانية والجنوب المحاذي لغلاف غزة، هذا فضلا عن مصائر الأسرى الإسرائيليين، بالإضافة إلى القطاعات الاقتصادية الكبيرة المتضررة من الحرب. وبالتالي، يقود الخلاف الذي يظهر إلى العلن في الوقت الراهن بين ممن يتوجب عليهم إدارة الحرب، نحو زيادة عدم ثقة الرأي العام الإسرائيلي في تلك الحكومة وخاصة الفئات المتضررة السابقة، والتي قد تترجم ذلك في صورة تصعيد احتجاجي قد ينضم إليه أعضاء الحكومة المعارضين لسياسات وتوجهات أعضاء الائتلاف المتطرفين، والتي يروا فيها إنها تعكس حسابات سياسية ضيقة لا ترقى لمستوى اللحظة الفارقة التي تشهدها الدولة العبرية في الوقت الحالي.     

مهاب عادل

باحث بوحدة الدراسات الفلسطينية والإسرائيلية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى