تُعد زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الصين، التي تم الإعلان عنها بدعوة من نظيره الصيني شي جين بينغ، حدثًا دبلوماسيًا مهمًا يبرز عمق العلاقات بين البلدين ويؤكد التزامهما بتعزيز التعاون الثنائي. كما تأتي تلك الزيارة في ظل تحديات جمة تواجه العالم، إضافة لتصاعد الصراعات والتوترات الدولية، الأمر الذي يُحتم على القوى الكبرى في النظام الدولي لعب دورًا حاسمًا في تحديد مسارات التطورات العالمية.
كما تأتي تلك الزيارة في وقت يجد فيه الرئيس الصيني شي جين بينغ نفسه في موقف صعب، حيث تتزايد الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية على الصين للتقليل من دعمها لروسيا في أوكرانيا. الأمر الذي يحتم على الصين موازنة مصالحها بين دعم شريكها الاستراتيجي الروسي والحفاظ على علاقات سليمة مع أوروبا والولايات المتحدة.
أجندة الزيارة
وفقًا لما أعلن من جانب الطرفين، فإنه من المقرر أن تتناول الزيارة مجموعة واسعة من القضايا ذات الاهتمام المشترك، بدءًا من الشراكة الشاملة والتعاون الثنائي الاستراتيجي، وصولًا إلى القضايا الدولية والإقليمية التي تهم كلًا من موسكو وبكين. ومن المتوقع أن يقوم الجانبان بتوقيع بيان مشترك يعكس التزام البلدين بتعزيز العلاقات وتطويرها في مختلف المجالات، بالإضافة إلى توقيع عدد من الاتفاقيات الثنائية التي من شأنها تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري والثقافي بين البلدين. ومن المتوقع أيضًا أن يشارك الرئيسان في احتفالات الذكرى الـ75 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين روسيا والصين، وسيعلنان إطلاق عامي الثقافة الروسية والصينية في البلدين، مما يعكس التزامهما بتعزيز التبادل الثقافي بين الشعبين.
وفي إطار الزيارة، سيلتقي الرئيس بوتين رئيس مجلس الدولة الصيني لمناقشة سبل تعزيز التعاون الثنائي في المجالات التجارية والاقتصادية والإنسانية، كما سيزور مدينة “خاربين” لحضور حفل افتتاح المعرض الروسي الصيني والمنتدى الروسي الصيني للتعاون بين الأقاليم، وسيلتقي أيضًا بطلاب وأساتذة جامعة خاربين، الأمر يبرز التزام البلدين بتعزيز التبادل الثقافي والتعاون الإنساني.
دلالات الزيارة
جاءت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الصين في وقت استراتيجي مهم، حيث تأتي بعد عامين من إعلان الرئيسان “شراكة بلا حدود” بين موسكو وبكين وكانت التحديات المتزايدة من الغرب بمثابة اختبار لحدود تلك الشراكة. في السياق ذاته تأتي الزيارة في وقت يشهد فيه العالم تصاعدًا في الصراعات والتوترات الدولية، وتزايدًا في الانقسامات العالمية. وقبل شهور قليلة على الانتخابات الرئاسية الأمريكية، الأمر الذي يعكس الاهتمام الدولي بالتوازن العالمي للقوى والتأثيرات المحتملة لتلك الانتخابات على العلاقات الدولية. وفي ظل تنامي التصعيد الإسرائيلي في فلسطين واستمرار الحرب الروسية الأوكرانية، وما ترتب على الأزمتين من تأثيرات إقليمية ودولية، تأتي هذه الزيارة لتحمل دلالات عدة من بينها:
- استمرارية التواصل: فزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الصين في هذا التوقيت تأتي بعد الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى موسكو قبل ما يزيد عن عام. ويمكن تفسير هذه الزيارة على أنها استمرار للتواصل الوثيق بين البلدين، وتعزيز للعلاقات الثنائية في ظل التحديات العالمية المتزايدة، كما يُمكن النظر إليها بمثابة اَلية لتعزيز التواصل والتنسيق بين البلدين في العديد من القضايا الدولية والإقليمية، وربما تعكس أيضًا رغبة البلدين في تعزيز الاستقرار العالمي ومكافحة التحديات الأمنية والسياسية وتحقيق الاستقرار العالمي.
- تعزيز الشراكة الثنائية: أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، “وانغ وين” في مؤتمر صحفي في بكين، بأن هذه الزيارة ستؤكد على التزام روسيا والصين بتعزيز الشراكة الثنائية في ظل التحديات العالمية، وتعزيز التعاون في مختلف المجالات بما في ذلك السياسية والاقتصادية والثقافية.
- توحيد المواقف الدولية: يمكن أن تكون الزيارة إشارة إلى توحيد المواقف الدولية بين روسيا والصين في مواجهة التحديات الدولية المشتركة، وربما تكون إشارة إلى التضامن في بعض القضايا الإقليمية والدولية.
- التنسيق المشترك: تبرز الزيارة التنسيق المتزايد بين روسيا والصين في بعض القضايا المتعلقة ببعض الدول مثل إيران وكوريا الشمالية، وهذا يعكس استعدادهما لتعزيز التعاون الثنائي في مواجهة التحديات المشتركة. وتعكس هذه العلاقات القوية بين الدول غير الغربية تحولًا في الديناميات العالمية، وربما تشير إلى تشكيل تحالفات جديدة أو توازنات جديدة في الساحة الدولية.
- رسالة إلى العالم: يمكن أن تكون الزيارة بمثابة رسالة واضحة إلى العالم بأن روسيا والصين تلعبان دورًا مهمًا في الحفاظ على السلام والاستقرار العالميين، وأنهما مستعدتان للتعاون لتحقيق هذه الأهداف.
كما تعكس الزيارة أيضًا الضغوط الدولية المتزايدة على الصين، وخاصة فيما يتعلق بدعمها المزعوم لصناعة الدفاع الروسية، وكذلك التحديات التي تواجهها بكين في تحقيق أهدافها الإقليمية والدولية في ظل تصاعد التوترات الدولية. وتؤكد هذه الضغوط على أهمية التوازن والتنسيق بين القوى العالمية. وإذا كان الرئيس الصيني “شي جين بينغ” يعمل على تعزيز العلاقات الدولية لبكين، فإن استضافته لبوتين والدعوات التي يطلقها لمساعدة العالم على تجنب “الحرب الباردة” تعكس رغبته في تعزيز الاستقرار العالمي وتجنب التصعيد الدولي. كما يُبرز التعاون بين الصين وروسيا في هذا السياق الدور المهم للدول غير الغربية في تشكيل السياسات العالمية ودعم الاستقرار الدولي. وستكون الزيارة بمثابة منصة لتعزيز التعاون بين الصين وروسيا في مواجهة الضغوط الدولية المشتركة. ومن المرجح أيضًا أن يضغط الزعيم الروسي على الرئيس شي للحصول على مزيد من الدعم لدعم اقتصاد بلاده المعزول وآلة الحرب في أوكرانيا.
موسكو وبكين. التحالف الذي يثير الغضب الغربي
تأتي هذه الزيارة في ظل بداية ولاية خامسة للرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” الأمر الذي يجعله الزعيم الأطول خدمة في روسيا. وخلال فترات حكمه، التقى الرئيسان الروسي والصيني أكثر من 40 مرة، ودائمًا ما يتبادلان الثناء ويُشير كلًا منها إلى الأخر بالـ “الصديق”.
كما أن تعميق الشراكة الروسية الصينية إلى مستوى “الشراكة والتحالف الاستراتيجي” جعل كلًا منهما ينظر للأخر على أنه شريكًا استراتيجيًا في منافسة جيوسياسية كبيرة، وقد يستخدمان مثل تلك المحادثات لتصوير أنفسهما كقادة لنظام عالمي بديل يهدف إلى تقويض الهيمنة الأمريكية.
لكن تضامن الصين مع روسيا خاصة من خلال دعمها للأخيرة في حربها ضد أوكرانيا؛ جعل الصين هدفًا للضغوطات الغربية، وأضر بموقفها مع الاتحاد الأوروبي، حيث تعتبر الولايات المتحدة أن بكين ما زالت تساعد جهود الكرملين الحربية من خلال توفير معلومات استخباراتية ومواد أخرى. لكن الصين نفت ذلك وأكد الزعيم الصيني خلال رحلته الأخيرة لأوروبا أن الصين “ليست طرفًا في الأزمة، ولا تشارك فيها”، بل تسعى لإيجاد حل سلمي يُجنب الجميع ويلات الحرب.
وفي سياق أخر، يحتاج الرئيس الصيني إلى روسيا كثقل موازن في التنافس بين بلاده والولايات المتحدة، خاصة في ظل الدعم الأمريكي لتايوان، والمطالبات الإقليمية للصين في بحر الصين الجنوبي، والحصول على التكنولوجيا المتطورة. إضافة لعلاقات الصين مع الولايات المتحدة، التي تراجعت إلى أدنى مستوياتها منذ عدة عقود.
في المقابل، كان بوتين يواجه خطر الاعتماد المفرط على الصين إلى درجة جعلت المسؤولين الروس غير مرتاحين في الماضي لهذا الاعتماد. لكن مع بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أصبحت الصين شريان الحياة بالنسبة لروسيا، الأمر الذي أدى إلى إزاحة الاتحاد الأوروبي باعتباره الشريك التجاري الأكبر لروسيا. وفي ظل عزلته عن الغرب، لم يتبق أمام الكرملين سوى القليل من الخيارات، فبوتن يحتاج إلى الصين لتوريد المكونات ذات الاستخدام المزدوج مثل رقائق الكمبيوتر لدعم جيشه، وتوفير العملة التي يستطيع بها شراء السلاح.
في الأخير، تعكس زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الصين عمق العلاقات الثنائية والتواصل الوثيق بين البلدين، فضلاً عن تزامنها مع تحديات دولية تتطلب تنسيقًا دبلوماسيًا قويًا، حيث تأتي في وقت تواجه فيه الصين ضغوطًا دولية متزايدة بسبب علاقتها مع روسيا، ما يجعلها تحتاج إلى موازنة دقيقة بين دعمها لموسكو والحفاظ على علاقاتها الأخرى مع باقي دول العالم، بينما يستهل بوتين ولايته الخامسة في خضم استمرار الحرب في أوكرانيا والمواجهة مع الغرب، وهو ما يزيد من أهمية الشراكة الاستراتيجية مع الصين.