ليبياأوروبا

“الصيد في المكان الخطأ” … حرب “القريدس” الإيطالية – الليبية

وأكد في ذلك التوقيت رئيس بلدية بلدة (ماتزارا ديل فاللو) الواقعة أقصى غرب جزيرة صقلية الإيطالية، نبأ احتجاز السفينتين اللتين تتبعان أسطول الصيد الخاص بهذه البلدة، والذي يعمل بشكل أساسي على صيد عدة أنواع من القريدس (الجمبري) في المياه الواقعة بين إيطاليا وليبيا. 

هذه الحادثة ارتبطت بتفاعلات عديدة اختلطت فيها الاعتبارات السياسية والاعتبارات الاقتصادية، وكانت لها تداعيات لافتة في الداخل الإيطالي، وفي العلاقات بين روما والحكومة المؤقتة والجيش الوطني الليبي، وهي تداعيات استمرت في التصاعد ببطء، حتى تم حل هذا الملف بشكل نهائي الشهر الجاري، عبر إطلاق سراح السفينتين وعودتهما خلال الساعات الماضية إلى جزيرة صقلية.

كان الجيش الوطني الليبي قد أحال أواخر سبتمبر الماضي، طاقمي السفينتين (Antartide) و(Medinea) البالغ عددهم 18 شخصًا (ثمانية إيطاليين وستة تونسيين وشخصين من السنغال واثنين آخرين من إندونيسيا)، إلى النيابة العسكرية في مدينة بنغازي، للتحقيق معهم حول التهم المنسوبة إليهم، والتي تتلخص في التسلل إلى المياه الليبية والصيد فيها دون تصريح قانوني، والوجود في منطقة محظور على سفن الصيد الوجود فيها.

منذ ذلك التوقيت، دخل كلا الطرفين في سجال مستمر بشأن هذا الملف، إذ بدأ رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي منذ أكتوبر الماضي محاولات لإيجاد وساطات دولية للتدخل لإطلاق سراح هؤلاء الصيادين الذين اعترف وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو أنهم ربما يكونوا قد اجتازوا المياه الإقليمية الليبية، لكنه في نفس الوقت أشار إلى أن هذه الحوادث تحدث بشكل عادي وغير مقصود، وطالب بضرورة الإفراج عنهم، وحذر من إدخال هذا الملف في دائرة المساومات أو الابتزاز.

الرد على هذا التصريح جاء من جانب الجيش الوطني الليبي الذي رفض اعتبار احتجاز هؤلاء الصيادين بمثابة ابتزاز أو محاولة للمساومة من جانب الجيش الليبي، وأشار إلى أن إيطاليا سبق وأن احتجزت منذ عام 2015 أربعة مهاجرين ليبيين حاولوا الوصول إلى سواحلها هربًا من الحرب في ليبيا، وحكمت عليهم بالسجن 30 عامًا، ولم تفرج عنهم حتى الآن رغم كافة الاعتبارات الإنسانية.

الصحافة الإيطالية في تناولها لهذا الملف حاولت خلال الفترة الماضية اللعب على وتر أن الجيش الوطني الليبي يحاول وضع الإفراج عن الصيادين الإيطاليين في كفة والإفراج عن الليبيين الأربعة في كفة أخرى؛ إذ روجت بعض وكالات الأنباء الإيطالية مثل وكالة (نوفا) إلى هذا الاتجاه الذي لم تنفه قيادة الجيش الوطني الليبي ولم تؤكده، لكنها في عدة مناسبات اشارت إلى أن التهم التي وُجهت إلى الليبيين الأربعة الذين هم في الأصل لاعبي كرة قدم كانوا يحاولون الوصول إلى الأراضي الأوروبية للعب في أحدى الأندية، ووجدوا أنفسهم فجأة متهمين بالإتجار بالبشر، والاحتجاز غير القانوني لمهاجرين غير شرعيين، ثم تم الحكم على كل منهم بالسجن لمدة 30 عام، ورفض أية محاولات للإفراج عنهم، بما في ذلك محاولات حكومة الوفاق في طرابلس، التي حاولت أن تطلب الإفراج عنهم لإكمال مدة الحكم عليهم على الأراضي الليبية، بموجب اتفاق تسليم السجناء الموقع عام 2019، بين روما وطرابلس.

خلفيات حرب (القريدس)

حوادث دخول سفن الصيد الإيطالية إلى المياه الإقليمية الليبية  تصاعدت بشكل كبير منذ عام 2005، حين قامت الحكومة الليبية في حقبة معمر القذافي بإعلان توسيع المياه الإقليمية الليبية لتصبح ضمن مسافة 74 ميل بحري بدلًا من 12 ميل بحري، وهو إعلان تم من جانب واحد ولم تقره أو تعترف به روما، التي تفصل بينها وبين ليبيا مسافة 180 ميل بحري، واستمرت سفن الصيد الإيطالية خاصة أساطيل الصيد التابعة لجزيرة صقلية في  الصيد في النطاق الواقع شمالي المياه الإقليمية الليبية التي تعترف بها روما (12 ميل بحري من الأراضي الليبية)، مدفوعة بتميز هذه المياه باحتوائها على عدة أنواع من القريدس الأحمر، المعروف بالإيطالية ب (جامبيرو روسو)، وهو نوع باهظ الثمن، تصل قيمة الكيلو الواحد منه إلى نحو 70 يورو على الأقل.

البحرية الليبية على مدار السنوات الماضية استهدفت سفن الصيد الإيطالية، سواء بالاعتراض والمصادرة أو إطلاق النار المباشر عليها، حيث تم اعتراض أكثر من 50 سفينة صيد إيطالية منذ عام 2005 وحتى الآن. 

عمليات التوقيف والاعتراض التي نفذتها البحرية الليبية تمت قبل توقيع هيئة الاستثمار العسكري التابعة للجيش الوطني الليبي في مارس الماضي اتفاقية مع اتحاد صيد الأسماك في صقلية، تسمح لعشر سفن صيد إيطالية بالوجود في المياه الليبية، دون أن يتم اعتراضها، مقابل دفع رسوم مالية شهرية، إلا أن اعتراض البحرية الليبية لسفينتي الصيد في سبتمبر الماضي، دفع اتحاد صيد الأسماك في صقلية إلى إنهاء هذه الاتفاقية الشهر الجاري.

يذكر أن الوحدات البحرية التابعة للجيش الوطني الليبي، قامت خلال فترة ما بعد عام 2011، باعتراض سفن صيد إيطالية في عدة مناسبات، ففي أكتوبر 2012، احتجزت لفترة وجيزة سفينتي صيد إيطاليتين واقتادتهما لميناء بنغازي، وفي أكتوبر 2018، تم احتجاز سفينتين مماثلتين كان على متنهما طاقم يتكون من تسعة إيطاليين وأربعة تونسيين، بعد دخولهم المياه الاقتصادية الليبية، رغم تحذيرات سابقة أعلنها الجيش الوطني الليبي، بشأن الوجود في المنطقة المحاذية لمدينتي بنغازي ودرنة.

الداخل الإيطالي يستثمر في هذه الأزمة

حقيقة الأمر، أن هذا الملف خضع لاستثمار كبير من جانب كافة الأطراف السياسية في الداخل الإيطالي، خاصة الأحزاب المعارضة التي اتهمت حكومة كونتي بالعجز الكامل في التعامل مع هذا الملف الذي استمر لأكثر من مائة يوم. هذا الموقف تعزز بشكل كبير بعد الاستجواب الذي خضع له وزير الخارجية لويجي دي مايو أمام مجلس الشيوخ الإيطالي في أكتوبر الماضي، وبدا فيه عجز حكومته الكامل في هذا الملف، خاصة بعد أن أقر أنها بدأت في البحث عن وساطات أجنبية، خاصة مع فرنسا والولايات المتحدة وروسيا والإمارات العربية المتحدة.

هذا الاعتراف دفع قادة أحزاب المعارضة الإيطالية إلى تصويب سهام النقد لهذه الحكومة، مثل زعيمة حزب (إخوة إيطاليا)، جورجا ميلوني، التي انتقدت عدم وجود حل لهذه الأزمة طيلة الفترة الماضية، ونصحت رئيس الوزراء جوزيبي كونتي أن يتجه بشكل مباشر إلى باريس لطلب وساطتها.

زعيم حزب (الرابطة) المعارض ووزير الداخلية السابق، ماتيو سالفيني، انتقد أيضًا العجز الإيطالي في هذا الصدد، مشيرًا إلى أنه من المنطقي أن تتوقع روما من ليبيا عكس ما يحدث الآن، بالنظر إلى “المليارات” التي منحتها إيطاليا لليبيا. هذه المواقف صدرت بشكل متكرر من جانب أعضاء في مجلس الشيوخ الإيطالي، في ظل اعتصام دائم لأقارب الصيادين المحتجزين، خارج مقر المجلس. بعض أعضاء البرلمان الأوروبي، مثل نائب رئيس حزب (فورتسا إيطاليا)، أنطونيو تاياني، والنائب في البرلمان الأوروبي جوزيبي ميلاتسو، طالبا في أكتوبر الماضي، عبر رسالة للممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية والأمنية جوزيب بوريل، بتدخل الاتحاد الأوروبي، من أجل إطلاق سراح الصيادين المحتجزين في بنغازي، نظرًا لعجز الحكومة الإيطالية عن تحقيق أي تقدم في هذا الملف.

في نفس الشهر، أكتوبر، دخل الفاتيكان على خط هذه الأزمة، حيث عبر بابا الفاتيكان في إحدى عظاته الأسبوعية، وبعد مقابلته لأهالي الصيادين، عن دعمه لقضيتهم، ومطالبته بإطلاق سراحهم، وهو موقف تم تأييده في الخامس من الشهر الجاري، عبر مناشدة أطلقها الاتحاد الأوروبي، ناشد فيها الإفراج الفوري عن الصيادين الإيطاليين المحتجزين في بنغازي. وهي مناشدة اعتبرها البعض دليلًا على قرب إطلاق سراحهم، خاصة وأن وكان وكيل وزارة الخارجية بالحكومة الإيطالية مانليو دي ستيفانو قد أكد قبل أيام أن هناك جهودًا استخباراتية تقوم بها أجهزة مخابرات عدة دول من أجل الإفراج عن الصيادين الإيطاليين، 

تصريحات دي ستيفانو، مضافًا إليها ما نشره موقع (الفورميستا) الإيطالي حول دور مصري في تسهيل عملية الإفراج عن هؤلاء الصيادين، تمت من خلال زيارة مدير المخابرات العامة المصرية الوزير عباس كامل إلى بنغازي منذ أيام، تؤكد أن إيطاليا خرجت من هذه الأزمة مصحوبة بحالة من التشكيك الداخلي والخارجي في كيفية إدارتها لملف علاقاتها مع ليبيا على كافة المستويات. وهي شكوك قد تتعزز في حالة ما تم الإفراج خلال الأيام المقبلة عن الرياضيين الليبيين الأربعة، وهي مقايضة لم يطرحها فقط بعض المقربين من دوائر السلطة في بنغازي، بل طرحها أيضًا في نوفمبر الماضي أحمد معيتيق نائب رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق في طرابلس.

 هذه الشكوك في حالة تأكدها قد تفسد الفرحة الإيطالية الكبيرة التي نتجت عن إطلاق سراح هؤلاء الصيادين، أو هكذا يرى أسقف أبراشية مدينة (مازارا ديل فالو) في صقلية، الذي قال في تصريحات صحفية تعليقًا على الإفراج عن الصيادين إنه يأمل ألا تكون إيطاليا قد قدمت تنازلات كبيرة إلى ليبيا مقابل الإفراج عنهم، لأن هذا الأمر لو تم تأكيده سيغطي على الفرحة الكبيرة التي نتجت عن عودتهم إلى ديارهم.

مصادر

1- https://2u.pw/0ogjc

2- https://2u.pw/hurtw

3- https://2u.pw/6o4Tx

4- https://2u.pw/QwU3V

5- https://2u.pw/ohnpy

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى