كورونا

تحديات نمو الاقتصاد العالمي بعد عام من “كورونا”

ألقت جائحة “كورونا” بظلالها على مختلف دول العالم النامية والمتقدمة على حد سواء، وعلى الرغم من كونها أزمة صحية بالأساس إلا إن ما فرضته تلك الأزمة من إجراءات الحظر والاغلاق، جعل لها عواقبها الاقتصادية الممتدة على مختلف القطاعات الاقتصادية. وبالرغم من الاختلاف الملحوظ في درجة تطور قطاع الصحة بين الدول في صالح الدول المتقدمة، جاءت توقعات المؤسسات الدولية لتشير إلى أن الاقتصادات الكبرى هي الأكثر تضررا من تلك الازمة؛ فأشارت بيانات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى تراجع معدلات النمو الاقتصادي المتوقعة خلال عام 2020 في الدول المتقدمة بدرجة أكبر من التراجع بالدول النامية، في حين أن الانتعاش الاقتصادي المتوقع خلال عام 2021 في الدول النامية أكبر من الدول المتقدمة.

وعلى ذلك يستعرض المقال معدلات النمو الاقتصادي المتوقعة خلال عامي 2020، و2021، على صعيد الاقتصاد العالمي واقتصادات الدول المتقدمة والنامية، مع الإشارة الى أبرز تداعيات الأزمة على المؤشرات الاقتصادية كالتجارة الدولية وسوق العمل ومعدل التضخم.

معدلات النمو الاقتصادي المتوقعة خلال عامي 2020 و2021

أصدر صندوق النقد الدولي، في أكتوبر الماضي، توقعاته بشأن معدلات النمو الاقتصادي العالمية المتوقعة؛ فعلى المدى القريب توقع صندوق النقد الدولي أن يبلغ النمو العالمي -4.4% عام 2020، ثم يرتفع الى 5.2% عام 2021.

معدلات النمو المتوقعة للاقتصاد العالمي والاقتصادات المتقدمة والصاعدة وفقا لصندوق النقد الدولي

وجاءت توقعات البنك الدولي تشير أيضا إلى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي العالمي خلال عام 2020 إلى -5.2%، ثم استعادة النمو عام 2021 ليصل الى 4.2%. وعلى الرغم من تقارب توقعات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إلا إن توقعات النمو النهائية لاتزال غير مؤكدة، حيث جاءت تلك التوقعات في ظل بدء تخفيف إجراءات الحظر تدريجيا وعودة الأنشطة الاقتصادية في مختلف الدول من جهة، وتوقعات بشأن الموجه الثانية لفيروس كورونا والتي من المتوقع أن تكون أشد شراسة وأطول أمدا من جهة أخرى.

ومن المتوقع، وفقا لصندوق النقد الدولي، أن ينكمش النمو الاقتصادي في الاقتصادات المتقدمة بنسبة 5.8% عام 2020، ويحقق معدلات إيجابية تصل إلى 3.9% عام 2021، وعلى المدى المتوسط يتوقع أن يتباطأ النمو إلى 1.7% عام 2025. وعلى مستوى الأقاليم الكبرى، تشير التوقعات إلى انكماش الاقتصاد الأمريكي بنسبة 4.3 % عام 2020، قبل أن ينمو بنسبة 3.1% عام 2021.  

أما بالنسبة لمنطقة اليورو فمن المتوقع حدوث انكماش أعمق بنسبة 8.3 % عام 2020، ثم يرتفع إلى 5.2 % عام 2021. ومن المتوقع أن تشهد الاقتصادات الآسيوية المتقدمة تباطؤًا أكثر اعتدالًا إلى حد ما من اقتصادات أوروبا، نتيجة احتواء الوباء بشكل أسرع، ويستدل على ذلك من الانخفاضات الأقل في الناتج المحلي الإجمالي خلال النصف الأول من عام 2020.

أما بالنسبة لتوقعات النمو في البلدان النامية فيتوقع صندوق النقد الدولي أن ينخفض النمو الاقتصادي إلى -3.3% عام 2020، وهو انخفاض أقل نسبيا مما هو متوقع للدول المتقدمة، ثم يرتفع عام 2021 ليصل الى 6%، وهو معدل أعلى مقارنة بالدول المتقدمة.

ويمكن تفسير ذلك بان الدول المتقدمة قائمة على الحريات والانفتاح بدرجة أكبر من الدول النامية فأدت إجراءات الحظر والاغلاق إلى تداعيات أكثر حدة، فضلا عن أن توفر واتاحة البيانات الفعلية عن حالات الاصابة والوفيات في الدول المتقدمة ساعد على تشديد إجراءات الحظر والإغلاق بخلاف الوضع في الدول النامية التي لم تتمكن من حصر الأعداد بنفس السرعة والدقة.

وعلى المدى المتوسط، فيتوقع أن ينخفض النمو في الاقتصادات النامية والصاعدة إلى 4.7% عام 2025 بعد أن حقق نسبة 5.6% خلال الفترة 2000-2019. وذلك نتيجة التباطؤ الهيكلي في الصين، وانخفاض أسعار السلع، وضعف احتمالات الطلب الخارجي، وانخفاض حركة السياحة والتجارة الدولية.

وبمراجعة نسب النمو المتوقعة بالاقتصادات الناشئة والدول النامية يتبن وجود اختلافات إقليمية كبيرة، حيث تأثرت العديد من بلدان أمريكا اللاتينية بدرجة أكبر من غيرها من الدول، ومن المتوقع تراجع كبير للإنتاج في العديد من بلدان منطقة الشرق الأوسط، وآسيا الوسطى، والبلدان المصدرة للنفط في أفريقيا جنوب الصحراء المتأثرة بانخفاض أسعار النفط والصراعات الأهلية، أما بالنسبة للهند، فقد تقلص الناتج المحلي الإجمالي بشكل أكثر حدة مما كان متوقعًا في الربع الثاني من عام 2020، لتأتي التوقعات بانكماش اقتصاد الهند بنسبة 10.3% عام 2020، ثم يرتفع النمو بنسبة 8.8%عام 2021. وعلى عكس الوضع بالهند جاءت توقعات معدل نمو الصين أعلى بكثير من معظم البلدان الأخرى نتيجة الدعم القوي ومرونة الصادرات، اذ سجل الناتج المحلي الإجمالي للربع الثاني معدلات إيجابية مع توقع نمو الاقتصاد بنحو 10% خلال 2020-2021 (1.9% عام 2020، و8.2% عام 2021).

تداعيات جائحة كورونا على أبرز المتغيرات الاقتصادية عالميا

بحسب صندوق النقد الدولي فان التحولات التي نتجت عن جائحة كورونا لا مثيل لها منذ الحرب العالمية الثانية؛ إذ أثرت الجائحة على معدلات النمو العالمية والتجارة الدولية والبطالة والتضخم وجذب الاستثمارات وتراكم الديون وتراجع التراكم في رأس المال البشري فضلا عن رفع معدلات الفقر وعدم المساواة.

وانخفضت معدلات التجارة العالمية بشدة خلال النصف الأول من عام 2020، ثم بدأت في الانتعاش في يونيو 2020 مع تخفيف إجراءات الاغلاق، وتزامن ذلك مع إعادة الانتعاش في الاقتصاد الصيني لتساهم صادراتها بنسبة كبيرة في التجارة الدولية في ظل انتعاش الطلب الخارجي خاصة على المعدات الطبية والمعدات اللازمة للتحول إلى العمل عن بعد. ومن المتوقع أن تتقلص التجارة العالمية بنسبة تزيد عن 10% عام 2020 لتتعافى بعد ذلك بنحو 8.3% خلال عام 2021.

أما عن معدلات البطالة المتوقعة، فمع توقع وجود فجوات إنتاجية سلبية كبيرة خلال عام 2020، و2021، ترتفع معدلات البطالة في البلدان المتقدمة والصاعدة. ووفقا لبيانات منظمة العمل الدولية، فإن الانخفاض العالمي في ساعات العمل في الربع الثاني من عام 2020 مقارنة بالربع الرابع من عام 2019 يعادل فقدان 400 مليون وظيفة بدوام كامل. وكانت النساء الأكثر تضررا خاصة العاملات بشكل غير رسمي، اذ قدرت منظمة العمل الدولية أن 42 % من النساء العاملات بشكل غير رسمي يعملن في قطاعات الاقتصاد المتضررة بشدة، مقارنة بحوالي 32%من الرجال في وظائف غير رسمية.

وتماشيا مع نمط الانتاج والتجارة العالميين، تحسنت مؤشرات العمالة والقوى العاملة منذ مايو2020؛ فانخفض معدل البطالة بشكل كبير وزاد خلق فرص العمل في الولايات المتحدة، وتباطأت طلبات تخفيض ساعات العمل في ألمانيا بشكل حاد في مايو 2020 واستمرت في الانخفاض بشكل مطرد طوال شهر أغسطس 2020، وتعافت مشاركة القوى العاملة النسائية جزئيًا في اليابان اعتبارًا من يوليو 2020.

أما بالنسبة للأثر المتوقع على معدلات التضخم، فعلى الرغم من ارتفاع أسعار بعض السلع كالسلع الأساسية والمعدات الطبية، الا انه بصفه عامة انخفضت معدلات التضخم بشكل حاد خلال المراحل الأولى لانتشار الوباء نتيجة ارتفاع تأثير ضعف الطلب بالمقارنة بانخفاض العرض. ويلاحظ أن قطاعات الخدمات التي تعتمد على التفاعلات وجهًا لوجه – كتجارة الجملة والتجزئة، والسياحة والمطاعم، والفنون والترفيه – شهدت تقلصات أكبر من قطاع الصناعة، وذلك بخلاف المتعارف عليه في الأزمات غير الصحية.

ومع تراجع معدلات النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة تتراجع نسب تراكم راس المال المادي والبشري؛ فأما بالنسبة لرأس المال المادي فان تراجع الطلب وفرض إجراءات الحظر والاغلاق يعرض قطاع الشركات الى تحديات كبرى ينتج عنها تراكم الديون وزيادة نسبة التعثر في سداد القروض وخروج بعض الشركات من السوق، مما يشكل تهديدا للأسواق وتقليص فرص دخول الاسواق والمنافسة للشركات الصغيرة. وعلى مستوي التراكم في رأس المال البشري فيتوقع انخفاض كفاءه مخرجات التعليم عن بعد من جهة، وتفاقم أمراض سوء التغذية في بعض الدول مع تعطيل الدراسة وتوقف برامج التغذية المدرسية من جهة أخرى، ويؤدي التراجع في تراكم رأس المال البشري إلى التأثير على الأداء الاقتصادي العام على مدى فترة زمنية متوسطة المدى.

أولويات السياسة العامة لمواجهة تداعيات جائحة كورونا

من مجمل تلك التوقعات يتعين على صانعي السياسات توجيه مسار النمو الاقتصادي لتحقيق أعلى مستوى للإنتاجية من خلال إجراء التعديلات اللازمة على أنماط الإنتاج والتوزيع، وإعادة توزيع الموارد بين القطاعات الاقتصادية المختلفة في اتجاه القطاعات التي لا تتأثر بإجراءات تقييد النشاط والتباعد الاجتماعي، مع دعم تقنيات جديدة للعمل عن بعد، والعمل على توجيه المستهلكين نحو أنماط استهلاكية جديدة مثل الشراء عبر الانترنت وتشجيع التجارة الالكترونية والتحول السريع نحو الاقتصاد الرقمي. بالإضافة إلى توجيه الاستثمارات الى قطاعي الصحة والتعليم لتحقيق مستوى مرتفع من التراكم في رأس المال البشري، وكذلك تحفيز الاستثمار الخاص من خلال التركيز على مشروعات البنية الأساسية المحفزة لجذب الاستثمارات والانفاق على البحث العلمي والابتكار والتوجه نحو الاقتصاد الأخضر.

ومن جهة أخرى، يجب مراعاة ضمان تقاسم المكاسب بالتساوي بين فئات المجتمع، وذلك من خلال التركيز على توسيع القاعدة الضريبية المستقبلية بدلا من الاقتراض لتمويل الإعانات والانفاق الجاري، كما يجب الاهتمام بتوجيه الانفاق الاجتماعي للفئات الأكثر احتياجا ذات الميل الحدي للإنفاق المرتفع.

وعلى جانب آخر، يتعين على الحكومات التي لديها أرصدة ديون كبيرة النظر في خيارات لزيادة الإيرادات وخفض النفقات تدريجياً على المدى المتوسط، وقد يتطلب الأمر إعادة هيكلة الديون السيادية للتخفيف من ضغوط التمويل واستعادة القدرة على تحمل الديون، وخاصة في ظل ارتفاع احتياجات الإنفاق وتضرر الإيرادات العامة نتيجة الأزمة.

ولا يغفل أن مواجهة الصدمات والتحديات العالمية يتطلب تكاتف الجهود الدولية في مجال الرعاية الصحية والآثار الاقتصادية المترتبة عليها. فاذا كانت الدول المتقدمة هي الأكثر تضررا من انتشار الوباء، إلا أن التحديات التي تواجهه الدول النامية من ارتفاع معدلات النمو السكاني وانخفاض مستويات الدخل والصراعات الأهلية، تشير إلى أن نسبة الانكماش الأكثر تواضعاً سيمتد تأثيرها السلبي إلى مستويات المعيشة، وخاصة بالنسبة للفقراء بما يزيد من معدلات الفقر وعدم المساواة داخل حدود الدول وبين الدول النامية والمتقدمة.

+ posts

باحثة ببرنامج السياسات العامة

أسماء رفعت

باحثة ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى