
الخميس الدامي في فرنسا … إرهاصات ما بعد مواقف أردوغان
الفرنسية مع سلسلة من الهجمات الإرهابية ومحاولات الطعن، تأتي في ظل استنفار أمني فرنسي مستمر منذ الهجوم على مقر صحيفة (شارلي إيبدو) منتصف يناير 2015، والذي للمفارقة تم على نفس الخلفية التي تمت – على ما يبدو- عليها هجمات اليوم ألا وهي نشر الرسومات المسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، لكن يبقى اختلاف أساسي يتعلق بـ المحرض الأساسي على شن هذه الهجمات، والذي يختلف كليًا عن المحرض على هجمات عام 2015 خاصة أن هجمات اليوم تأتي بعد أسبوعين من قطع رأس المدرس الفرنسي صمويل باتي، على يد رجل من أصل شيشاني في سياق هجمات باتت تعرف إعلاميًا ب (هجمات الذئاب المنفردة)، التي أسفرت حتى الآن عن مقتل 250 شخص منذ عام 2015.
نيس .. إعادة عقارب الساعة إلى الوراء

الحدث الإرهابي الرئيسي اليوم كان مسرحه جنوب شرق فرنسا وتحديدًا مدينة نيس، وموقعه كان بعد أقل من كيلو متر واحد من مسرح حادث إرهابي أخر حدث في يوليو 2016 حين اقتحم شخص يستقل شاحنة بضائع، حشدًا من الناس كان يحتفل بذكرى يوم الباستيل مما أسفر عن مقتل أكثر من 80 شخص. هجوم اليوم كان مختلفًا في تفاصيله ونتائجه حيث هاجم صباح اليوم، شخص يبلغ من العمر 25 عام مسلح بسكين المارة أمام كنيسة (نوتردام)، مما أسفر عن مقتل ثلاثة فرنسيين اثنين منهما حسب عمدة مدينة نيس كريستيان أستروسي قتلا داخل الكنيسة (من بينهما امرأة تم قطع رأسها)، والثالث توفى داخل إحدى الحانات القريبة من موقع الحادث متأثرًا بالطعنات التي أصابه بها المهاجم.

الشرطة الفرنسية اشتبكت مع المهاجم وتمكنت من اعتقاله، وقد تزامن هذا مع هجوم آخر كان مسرحه مدينة (أفينيون) التابعة لأقليم الألب جنوبي شرق البلاد، حيث هاجم مسلح يحمل مسدسًا المارة في منطقة (مونتفافيه)، مما أدى إلى مقتله بعد اشتباك إحدى دوريات الشرطة الفرنسية معه. تم خلال هذا اليوم أيضًا إحباط هجومين حيث اعتقلت إحدى دوريات الشرطة في مدينة (ليون) جنوب شرق البلاد، مهاجرًا أفغانيًا كان يحمل سكينًا قرب أحدى محطات الترام، وقد ساهم أحد سكان بلدة (سارتروفيل) شمال غرب العاصمة الفرنسية في إحباط هجوم آخر، بعد أن أبلغ عن نية أبنه تنفيذ هجوم باستخدام سكين قرب كنيسة (سانت مارتن)، مما أفضى إلى اعتقال الأمن الفرنسي لهذا الأبن وتفتيش سيارته بحثًا عن أية متفجرات محتملة.

يضاف إلى هذه الهجمات هجوم أخر كان مسرحه القنصلية الفرسية العامة في مدينة جدة السعودية، حيث هاجم مواطن سعودي الجنسية في العقد الرابع من العمر، فرد حراسة تابع لأحدى الشركات الأمنية الخاصة التي تتولى حماية مداخل القنصلية، وأصابه بجروح متوسطة باستخدام سكين كان يحمله، قبل أن تتمكن القوة الخاصة التابعة للأمن الدبلوماسي السعودي من القبض عليه.
استنفار حكومي وأمني فرنسي

عقب هذه السلسلة من الهجمات ومحاولات الهجوم، بدأت قوات الأمن الفرنسية في تنفيذ سلسلة من الإجراءات المشددة وفرضت وحدات شرطة مدينة نيس طوقا أمنيا حول الكنيسة محل هجوم اليوم، خاصة أنها تقع في الشارع التجاري الرئيسي في المدينة وهو شارع (جان ميديسان)، وأصدرت السلطات في كل من نيس وكان قرارًا بإغلاق الكنائس ودور العبادة لفترة مؤقتة، وفعلت وحدات الشرطة في المدن التي تعرضت لأحداث أمنية اليوم مثل نيس وليون، دوريات مسلحة للشرطة على مدار الساعة وتم كذلك تفتيش عدد من محطات المترو تحسبًا لوجود عبوات متفجرة مثل محطة للمترو في مدينة (تولون) بأقصى الجنوب الفرنسي، إذ عثر فيها على حقيبة مشبوهة تم تفتيشها لكن لم يُعثر بداخلها على أية متفجرات.
حكوميًا، ترأس وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، فور انتهاء هذه الهجمات اجتماعا لخلية إدارة الأزمة في وزارته، وتحدث رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستكس أمام البرلمان، معلنًا رفع مستوى التأهب الأمني في عموم البلاد إلى درجة (الطوارئ) وهي الدرجة الأمنية الأعلى على الإطلاق في تسلسل درجات التأهب الأمني الفرنسية، مؤكدًا أن مجلس الدفاع والأمن القومي الفرنسي سوف يعقد اجتماعا طارئا غدا الجمعة، لإعداد ما وصفه ب “الرد الحاسم والفوري والقوي” على هجمات اليوم. المجلس الإسلامي الفرنسي أعلن من جانبه، إلغاء احتفالات المولد النبوي، تضامنًا مع ضحايا هجمات اليوم.
رئيس الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون سافر بشكل عاجل إلى مدينة نيس، وزار محيط كنيسة نوتردام وتفقد الإجراءات الأمنية حولها وأكد في تصريحات صحفية، على بدء خطة لزيادة تواجد القوات الأمنية في شوارع البلاد وتعزيز حماية أماكن العبادة بما فيها الكنائس، وكذلك تعزيز أمن المدارس والمؤسسات التعليمية.
ردود الفعل الدولية حول هجمات اليوم

تتالت عقب هذه الأحداث بيانات الإدانة الدولية، حيث أعرب كل من مفتي الجمهورية المصرية الدكتور شوقي علام وشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب عن إدانتهما لهجمات اليوم الإرهابية، وكذلك فعلت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وذلك عبر بيانات لوزارتي خارجيتها. مستشار الأمن القومي الأميركي روبرت أوبراين أعرب في تصريحات صحفية عن وقوف بلاده إلى جانب فرنسا في المعركة ضد “الإرهاب والتطرف الراديكالي”، وأكد رئيس الوزراء اللبناني المكلف سعد الحريري، إدانته واستنكاره الشديدين لهجوم كنيسة روتردام اليوم، وغرد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون على موقع تويتر، مستنكراً حوادث اليوم وقال “روعني سماع الأنباء الواردة من نيس هذا الصباح عن هجوم وحشي بكاتدرائية نوتردام، قلوبنا مع الضحايا وعائلاتهم، وتقف المملكة المتحدة بثبات مع فرنسا ضد الإرهاب والتعصب”.

وزارة الخارجية التركية أصدرت من جانبها بيانًا لافتًا أدانت فيه الهجوم على كنيسة روتردام في نيس الفرنسية، وأعربت عن تضامنها مع (الشعب الفرنسي) وقالت “كدولة تكافح مختلف أنواع الإرهاب وتفقد مواطنيها بسبب الإرهاب نؤكد أننا متضامنون مع الشعب الفرنسي، وخاصة سكان نيس، ضد الإرهاب والعنف”. الفاتيكان أدان كذلك هجمات اليوم، وأعربت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، عن صدمتها من هذه الأحداث وذلك عبر بيان لمجلس الوزراء الألماني. بدوره أدان رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي هجمات اليوم، عبر تغريدة على صفحته الرسمية في موقع تويتر وقال “قناعاتنا أقوى من التعصب والكراهية والإرهاب”، كذلك والت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين في تغريدة “أدين الاعتداء البغيض والوحشي الذي وقع في نيس وأقف مع فرنسا بكل قلبي”، ودعا رئيس البرلمان الأوروبي ديفيد ساسولي الأوروبيين إلى “الاتحاد ضد العنف وضد الذين يسعون إلى التحريض ونشر الكراهية”. أما رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز فقال تعليقاً على أحداث اليوم “نواصل الدفاع عن الحرية وقيمنا الديموقراطية والسلم وأمن مواطنينا. نقف في صف واحد ضد الإرهاب والكراهية”.
الذهنية الفرنسية للتعامل مع الواقع الإسلاموي على أراضيها

من أجل قراءة متعمقة للمشهد الأمني الحالي في فرنسا لابد من النظر من زاويتين، الأولى هي زاوية الذهنية الفرنسية الجديدة في التعامل مع الملف الإسلامي على أراضيها، والثانية هي زاوية العلاقة الفرنسية – التركية ودور أنقرة في إذكاء التوترات الحالية في العلاقة بين فرنسا والعالم الإسلامي. في الزاوية الأولى، يجب أن نعود إلى أوائل العام الجاري، وتحديدًا الثامن عشر من فبراير حين زار الرئيس الفرنسي مدينة (مولوز) شمال شرق البلاد، وتجول في عدة أحياء بداخلها على رأسها حي (بورتزفيلر) الذي يضم أعداد كبيرة من المهاجرين، وشهد سابقًا عدة توترات بسبب كثافة المهاجرين الكبيرة فيه.
خلال هذه الزيارة، أعلن ماكرون اعتزامه تشديد الحرب على التشدد والراديكالية الإسلامية، وعن قناعته بضرورة عدم القبول قطعياً بتغليب الاعتبارات الدينية على قوانين الجمهورية الفرنسية. وقد دشن خلال هذه الزيارة ما يعرف بخطة (النقاط الأربعة) للتعامل مع التهديدات التي يمثلها التطرف الاصولي.
البند الأول لهذه الخطة وهو البند الرئيسي والأهم، ينص على تخليص المساجد والمدارس الدينية من تأثيرات التمويلات الأجنبية وذلك عبر بدء فرنسا في الاستغناء تدريجيًا عن أئمة المساجد المبتعثين من دول أجنبية، مثل الجزائر وتركيا، ويتولون إدارة مساجد على الأراضي الفرنسية، وفي نفس الوقت رفع وتيرة تدريب الأئمة الحاملين للجنسية الفرنسية. لتحقيق هذا الغرض، كان ماكرون قد أسس في يناير 2019 (المجلس الفرنسي للإسلام )، الذي يعد الجهة الأساسية المنوط بها تدريب أئمة المساجد وكذا مراقبة عملية جمع التبرعات وتحديد مصادرها بدقة، وكذلك تجمع الضرائب المفروضة على تداول وبيع المنتجات الغذائية المذبوحة على الطريقة الإسلامية. البند الثاني في هذه الخطة، يدعو ممثلي المجتمع الإسلامي في فرنسا، إلى التنسيق بشكل أفضل فيما بينهم، وتم تكريس البند الثالث لمكافحة الأساليب الانعزالية والانفصالية التي تلجأ بعض الأقليات لانتهاجها خاصة في الأماكن العامة. البند الرابع يهدف إلى معالجة إشكالية افتقار الكثير من الأحياء في فرنسا خاصة الأحياء التي تقطنها أغلبية من المهاجرين والأقليات إلى العروض العامة، سواء كانت اجتماعية أو رياضية أو ثقافية، وكذا الخدمات المرتبطة بهذه الاتجاهات.
هذه البنود السالف ذكرها، خاصة البند الأول منها تلقت دفعة قوية للأمام، من خلال قانون (الانعزالية الإسلامية) الذي قدم الرئيس الفرنسي في الثاني من الشهر الجاري عرضاً له، مشيراً إلى أنه يستهدف (هيكلة الوضع الإسلامي) في فرنسا. هذا القانون ينص على أن يقوم (المجلس الفرنسي للإسلام)، خلال فترة لا تتجاوز ستة أشهر بتأسيس المسارات الخاصة ببرنامج تأهيل وتدريب أئمة المساجد، بحيث يتم منح المؤهلين منهم (شهادات اعتماد) واخضاعهم للعمل تحت طائلة (ميثاق) يتم عزل كل من لا ينفذ البنود الواردة فيه. وقد بدأ المجلس بالفعل في الخطوات العملية لهذا البرنامج حيث ستجتمع اللجنة المنوط بها تنظيم هذه الملفات، للمرة الأولى أوائل الشهر القادم والهدف القريب هو تأسيس برنامج مشترك، يضع في الاعتبار خصوصيات المجتمع الفرنسي وقوانينه وتاريخه، ومن ثم يتم تأسيس معهد إسلامي خاص لكل منطقة فرنسية بناء على هذا البرنامج.
يستهدف المشروع الفرنسي أيضاً، إنهاء أنشطة نحو ثلاثمائة إمام مسجد يحملون الجنسيات التركية والمغربية والجزائرية يعملون على الأراضي الفرنسية، بموجب بعثات مرسلة من دولهم نظراً لشبهات تتعلق بانتماءاتهم الشخصية ناهيك عن اختلاف مناهجهم الدعوية، فبعضهم تدرب عن طريق ممارسة الشعائر في حين تخرج عدد منهم من معاهد فرنسية، وبعضهم تلقى تدريبه وتعليمه الديني في دول أخرى. في ما يتعلق بمعاهد التدريب الإسلامية على الأراضي الفرنسية، يستهدف البرنامج زيادتها وتحسين محتواها لأن المعاهد الموجودة حالياً قليلة ولا تتعدى ثمانية معاهد، يرتبط أغلبها بدول وجماعات خارجية مثل الجزائر وتركيا وجماعة الإخوان المسلمين.
ملف الجمعيات الإسلامية على الأراضي الفرنسية، يعتبر من الملفات الأساسية التي تتوجه إليها انظار باريس في الوقت الحالي لمواجهة مخاطر التطرف على أراضيها، ففي التاسع من فبراير الماضي، صرح رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس أنه “أنه ينبغي مكافحة خطاب الإخوان المسلمين في فرنسا”، محذراً من تأثير هذه الجماعة خاصة في الأحياء الفرنسية الفقيرة وهو تحذير له ما يبرره، فجماعة الإخوان تحتفظ بتمثيل واضح في اتحاد الهيئات الإسلامية في فرنسا الذي يشمل حوالى 250 جمعية، وجدير بالذكر هنا، أنه صدر بفرنسا في يونيو الماضي كتاب (أوراق قطر – كيف تمول الإمارة الإسلام السياسي في فرنسا وأوروبا)، للصحفيين الفرنسيين جورج مالبرونوت وكريستيان شيسن، وهو مؤلف من 295 صفحة يوثق عبر 140 وثيقة، التمويلات القطرية لجماعة الإخوان المسلمين في كافة أنحاء أوروبا وفي فرنسا تحديداً، حيث مولت الدوحة عبر مؤسسة قطر الخيرية قادة الإخوان في أوروبا وساهمت في إنشاء أكثر من 90 مركز للإخوان في دول أوروبية مختلفة، مثل مركز النور في فرنسا، وتمويل 140 مشروع في أوروبا بقيمة تتجاوز 120 مليون يورو منها 22 مشروع في فرنسا وإسبانيا، وقد أشار الكتاب إلى أن بؤرة النشاط الإخواني في فرنسا تتركز في مدينة ليل شمالي البلاد، ومدينة بورود الواقع في الجنوب الغربي وقد مولت الدوحة في هاتين المدينتين، حسب التفاصيل الواردة في هذا الكتاب عدد كبير من المؤسسات والمراكز الإسلامية، منها ما يسمى (رابطة المنظمات الإسلامية).
لمواجهة هذا الخطر، بدأت فرنسا منذ أمس في تتبع وحل الجمعيات الإسلامية التي يشتبه في تلقيها تمويلاً خارجياً بصورة غير قانونية، فقام مجلس الوزراء الفرنسي بحل جمعية (بركة سيتي) التي تتهمها الحكومة بأنها تقوم بتبرير الأعمال الإرهابية التي تستهدف المصالح الغربية، وبأن لها علاقات وثيقة بالتيار الإسلامي الأصولي علماً أنه سبق وقامت السلطات الفرنسية بالتحقيق مع رئيس الجمعية إدريس يمو، للاشتباه في ضلوعه في محاولة الاعتداء على صحفية سابقة في صحيفة (شارلي إيبدو). يضاف إلى هذا الإجراء، إجراء أخر لافت تحدثت عنه الصحافة الفرنسية، وفي قامت السلطات الفرنسية خلال اليومين الماضيين بترحيل نحو 400 مهاجر بعد أن تم الاشتباه في علاقتهم بالأنشطة الأصولية المتطرفة على الأراضي الفرنسية، سواء كان ذلك عبر الانخراط الفعلي في هذه الأنشطة، أو تأييدها بشكل علني.
العلاقات الفرنسية – التركية … فتش عن المستفيد

المحور الثاني الذي يمكن من خلاله النظر لتطورات اليوم هو ملف العلاقات الفرنسية – التركية، الذي شهد تصعيداً كبيراً خلال الأشهر الماضية حول العديد من الملفات، كان أحدثها ملف (الرسوم المسيئة للرسول). هذا الملف شهد تراشقاً بين الجانبين، ففي الواحد والعشرين من الشهر الجاري ورداً على تصريحات الرئيس الفرنسي، بشأن عدم توقف فرنسا عن السماح بنشر الرسوم الكاريكاتورية محل الأزمة، دعا الرئيس التركي إلى وضع حد لما سمّاها (الأجندة المعادية للإسلام)، وأطلق دعوة لمقاطعة البضائع الفرنسية ممهورة بتعليق حول حاجة الرئيس الفرنسي (لرعاية عقلية) وهو ما فجر غضب الرئاسة الفرنسية، التي استدعت سفيرها من أنقرة للتشاور.

الدعوة التركية لمقاطعة البضائع الفرنسية، رآها بعض المحللين محاولة من أنقرة لمحاصرة الدعوات التي بدأت منذ فترة في المنطقة العربية لمقاطعة المنتجات التركية، وفي نفس الوقت الانتقام من باريس نتيجة لمواقفها المتقدمة أوروبياً في مناهضة التوجهات التركية التوسعية في المنطقة، وفي هذا الصدد لم يستبعد البعض ضلوع تركيا (أو متعاطفين معها ومتأثرين بخطابها الإعلامي)، في هجمات اليوم، خاصة أنها أتت بعد يوم واحد من تصريحات وزير الدولة الفرنسية للشؤون الأوروبية كليمون بون أمام مجلس الشيوخ الفرنسي، والتي قال فيها بوضوح “سندعم اتخاذ إجراءات أوروبية حازمة ردا أهانات تركيا، وصولا إلى العقوبات”.
فتركيا لم تكتفي فقط بتصريحات رئيسها، بل أوعزت إلى حلفائها في المنطقة للتصويب على فرنسا ومنهم رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد الذي كتب سلسلة من التغريدات على صفحته الرسمية على موقع تويتر، في احداها دعوة صريحة لقتل الفرنسيين رداً على (مجازر الجيش الفرنسي في الماضي). رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان وجه أمس رسائل الى زعماء الدول الإسلامية، يدعوهم فيها الى العمل معا لمواجهة الإسلاموفوبيا مروجاً أن (حياة المسلمين باتت صعبة في فرنسا)، وهو نفس التوجه التركي.
العلاقة بين باريس وأنقرة بشكل عام كانت تسير منذ سنوات في منحى تصعيدي مستمر، فملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي والموقف الفرنسي من هذا الملف، كان محور أساسي من محاور هذا التوتر خاصة بعد تصريحات سابقة للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أبان توليه لمنصبه، قال فيها “من المستحيل السماح بانضمام بلد فيه 80 مليون مسلم إلى الاتحاد الأوروبي”، يضاف إلى ذلك تصريحات صحفية سابقة للرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون وصف فيها سياسات الرئيس التركي “بالمشروع القومي الإسلامي الذي يُقدَّم عادة على أنه معاد لأوروبا”.
ملف المذابح التي تعرض لها الأرمن على يد الجيش العثماني، كانت من الأسباب الإضافية للتوتر بين أنقرة وباريس، فقد أعلن الرئيس الفرنسي الحالي العام الماضي يوم الرابع والعشرين من أبريل من كل عام يوماً وطنياً لتذكر هذه المذبحة، وحينها ردت تركيا بالحديث عن مذابح فرنسا في الجزائر ورواندا، وهو للمفارقة نفس المنطق الذي تتبعه تركيا حالياً في ردودها على الجانب الفرنسي، علماً أن البرلمان الفرنسي كان قد أقر في ديسمبر 2011 قانون تجريم مذابح الأرمن، وهو ما جوبه في هذا التوقيت بغضب تركي كبير وإجراءات عديدة تم فيها أيقاف التعاون العسكري بين البلدين.
ملف ليبيا وشرق المتوسط، يعتبر الملف الأكثر أهمية في العلاقات بين البلدين والذي فيه اتخذت فرنسا مواقفاً متقدمة للغاية ضد تركيا، فقد دعمت فرنسا توجهات حكومة شرق ليبيا والجيش الوطني الليبي في مواجهة حكومة الوفاق التي دعمتها أنقرة، ونفذت البحرية الفرنسية عدة عمليات لاعتراض شحنات الأسلحة التركية المرسلة إلى الأراضي الليبية، وقد وصلت هذه العمليات إلى حد التواجه المباشر بين البحرية التركية والفرنسية في يونيو الماضي. في ملف شرق المتوسط، دعمت فرنسا بشكل واضح التوجهات القبرصية واليونانية، وسعت مؤخرا لفرض عقوبات من جانب الاتحاد الأوروبي على أنقرة، على خلفية عمليات التنقيب عن الغاز التي قامت بها في المياه الاقتصادية اليونانية وفعلت مؤخراً تعاونها العسكري مع أثينا، بما في ذلك الجوانب التسليحية والتدريبية وهي كلها خطوات تراها أنقرة معادية بشكل صارخ لتوجهاتها الحالية في المنطقة.

نستخلص مما سبق، أن موجات التصريحات المعادية لفرنسا من جانب أنقرة وحلفاؤها في المنطقة، بجانب تزامن أحداث اليوم مع تحركات فرنسية لمحاصرة التوجهات الراديكالية والأصولية على أراضيها، تؤشر إلى أن أنقرة تحاول استغلال ملف الرسومات المسيئة للرسول لأهداف انتقامية تتعلق برغبتها في توجيه ضربات سياسية واقتصادية لباريس، رداً على سلسلة طويلة من الضربات التي كالتها باريس لتركيا على مدار الأشهر الماضية وتمثيلها للصوت الأوروبي المرتفع في وجه النهج التركي العدائي في المنطقة، وصداقتها وتحالفها مع عدد من الدول التي تناهض النهج التركي، هذا يضاف إلى رغبة تركية في عكس دائرة مقاطعة المنتجات التركية في المنطقة العربية واليونان، وتوجيهها نحو الخانة الفرنسية، تجنباً لمزيد من الانهيار في الاقتصاد التركي، الذي يعاني أساساً من ركود وتدهور يومي في قيمة العملة التركية الوطنية.
باحث أول بالمرصد المصري



