السد الإثيوبي

تصريحات ترامب: تحريك المياه الراكدة في مفاوضات سد النهضة

يبدو أن تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن سد النهضة الإثيوبي والتي أطلقها في الثالث والعشرين من أكتوبر الجاري جاءت لتحريك المياه الراكدة في عملية التفاوض التي توقفت منذ سبتمبر الماضي، كما يبدو أنها أثارت استياء الإثيوبيين على المستويين الرسمي والشعبي، حيث رد آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي في بيان رسمي على تصريحات ترامب مؤكدًا على أنه لا أحد يمكنه منع الإثيوبيين من استكمال مشروعهم. 

أما في مصر فقد تفاعل عدد كبير من المصريين مع هذه التصريحات، فمنهم من استنتج أن تصريحات الرئيس الأمريكي هي بمثابة الضوء الأخضر لضرب السد وإنهاء هذه الأزمة عسكريًا، ومنهم من ذهب إلى أن هذه التصريحات بمثابة استدراج لمصر للدخول في صراع عسكري لا حاجة لها به. 

السياق العام للتصريحات

تضمنت عبارات الرئيس الأمريكي في حديثه لرئيس الوزراء السوداني أن “الوضع بشأن سد النهضة خطير، وسينتهي الأمر بتفجير المصريين للسد”، وأبدى ترامب تفهمه لموقف مصر بعد انسحاب إثيوبيا من التوقيع على اتفاق واشنطن الذي استغرق شهورًا قبل التوصل إلى صيغته النهائية. وجاءت هذه التصريحات أثناء إجراء ترامب مكالمة تليفونية مع رئيسي وزراء السودان وإسرائيل بحضور جمع من الصحفيين للإعلان عن التفاهمات التي تم التوصل إليها بشأن تطبيع العلاقات بين البلدين، أي أن المناسبة لا علاقة لها بالخلافات حول السد الإثيوبي، ولكن يبدو أن ترامب يحاول أن يحقق أكبر قدر من النجاحات فيما يخص تعامل إدارته مع ملفات السياسة الخارجية للولايات المتحدة قبل الانتخابات الرئاسية هناك بأيام قليلة. 

الجدير بالذكر أن الرئيس الأمريكي طلب من رئيس الوزراء السوداني إبلاغ إثيوبيا بضرورة التوصل إلى اتفاق بشأن السد لأن الأمر قد ينتهي بمصر إلى تفجيره ولا يمكن لأحد أن يلومها حيث يمثل السد تهديدًا لوجود شعبها، وقد توقفت المفاوضات التي يرعاها الاتحاد الإفريقي ويراقبها كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة منذ سبتمبر الماضي، بعد طلب السودان الرجوع إلى الاتحاد الإفريقي اعتراضًا على خطوات إثيوبيا الأحادية في ملء السد وغياب الجدية في محاولات دمج مقترحات الدول الثلاث للتوصل إلى اتفاق.

دلالات متعددة

انطوت تصريحات ترامب على عدة دلالات مهمة فيما يتعلق بعملية التفاوض بين الأطراف الثلاثة،أبرزها:

  • تأكيد الولايات المتحدة دعمها التوصل إلى اتفاق: 

أكد ترامب أثناء حديثه مع رئيس الوزراء السوداني على ضرورة التوصل إلى اتفاق منعًا لنشوب صراع عسكري بسبب السد، وجاءت هذه التصريحات بعد مرور أقل من شهرين على حجب الولايات المتحدة حزمة من المساعدات لإثيوبيا تُقدر بـ130 مليون دولار بسبب القرار الإثيوبي الأحادي بملء السد.

  • اعتراض الولايات المتحدة على موقف الإثيوبيين من التفاوض:

بالرغم من وصف “أسوشيتيد برس” لإثيوبيا بأنها الحليف الأمني الإقليمي للولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن الطريقة التي طلب بها الرئيس الأمريكي إبلاغ الإثيوبيين بضرورة التوصل إلى اتفاق توحي بحجم الفجوة بين موقف البلدين من المفاوضات. ويمكن الاستدلال على هذه الفجوة من اللقاء الذي جمع بين مايك بومبيو وآبي أحمد في السودان قبل فرض العقوبات بفترة وجيزة، حيث أقرت الولايات المتحدة تعليق مساعدات لإثيوبيا بعد هذا اللقاء بأسبوع واحد تقريبًا، ما يعني فشل الجهود الأمريكية في إثناء إثيوبيا عن موقفها المتعنت.

  • اتفاق واشنطن كان كفيلًا بإنهاء الخلاف:

تضمنت تصريحات ترامب إشارة إلى انسحاب إثيوبيا من التوقيع على اتفاق واشنطن الذي استغرق شهورًا من التفاوض ومحاولات تقريب وجهات نظر الدول الثلاث، ما يعني اقتناع الرئيس الأمريكي الكامل بأن وثيقة واشنطن التي وقعت عليها مصر منفردة كانت كفيلة برسم مسار واضح لملء وتشغيل السد مستقبلًا.

  • دعم الولايات المتحدة لموقف مصر المتوازن:

اتضح دعم الولايات المتحدة للموقف المصري المتوازن في مفاوضات سد النهضة في حديث ترامب عندما برر انزعاج مصر من إخلال الإثيوبيين بالاتفاق، وأكد على عدم إلقاء اللوم على مصر إذا اتخذت خطوات للحفاظ على أمنها المائي ووجود شعبها.

  • ضعف الدور الذي قام به الاتحاد الإفريقي أثناء عملية التفاوض:

يدل توقيت تصريحات الرئيس الأمريكي على ضعف الدور الذي قام به الاتحاد الإفريقي في عملية التفاوض، حيث جاءت هذه التصريحات بعد توقف للمفاوضات دام لمدة شهرين تقريبًا، ولم يحرك الاتحاد الإفريقي برئاسة جنوب إفريقيا ساكنًا منذ ذلك الحين. إضافة إلى ما سبق، لم يتخذ الاتحاد الإفريقي أي إجراء تجاه إثيوبيا عندما أعلنت عن اكتمال الملء الأول للسد بالرغم من التزامها أمام مجلس الأمن بعدم الإقدام على اتخاذ أي خطوات أحادية قد تضر بمسار المفاوضات.

  • تكذيب ما يروجه الإعلام الإثيوبي حول مصر:

جاءت تصريحات ترامب لتكذب كل ما يتم ترويجه سواء داخليًا أو خارجيًا بشأن معاداة مصر لإثيوبيا، واستمرار القنوات الإعلامية هناك سواء المرئية أو المكتوبة في اتهامها بالتسبب في المشكلات التي وقعت على الحدود الإثيوبية السودانية، ودعم مظاهرات الأورومو بعد مقتل المطرب “هاتشالو هونديسا”، وعقد صفقات مع قادة التيجراي على حساب باقي شعوب إثيوبيا، حيث تؤكد تصريحات الرئيس الأمريكي على أن مصر قادرة عسكريًا على ضرب السد إذا أرادت ذلك، ولكنها ما تزال تتمسك بالحل السلمي للقضية من خلال المفاوضات.

رد الفعل الإثيوبي والخيارات المطروحة

قابلت إثيوبيا تصريحات الرئيس الأمريكي بإجراءات مرتبة للتأكيد على ثبات موقفها من إنهاء السد وتشغيله سواء تم التوصل إلى اتفاق أم لم يتم، وتمثلت هذه الخطوات فيما يلي:

  • بيان رسمي من رئيس الوزراء:

أكد آبي أحمد في بيان رسمي بعد ساعات من تصريحات ترامب، على الموقف الإثيوبي المتمثل في أن الإثيوبيين سيكملون هذا العمل ولا توجد قوة يمكنها أن تمنعهم من تحقيق أهدافهم، وأن إثيوبيا ملتزمة بالتعاون بشأن نهر النيل، وعدم اعتراف بلاده بالاتفاقيات الاستعمارية، وأن بلاده قادرة على الدفاع عن سيادتها ضد أي عدوان، ويشير هذا البيان إلى تمسك القيادة الإثيوبية بموقفها المتعنت.

  • استدعاء السفير الأمريكي في أديس أبابا:

تمثلت الخطوة الثانية لإثيوبيا في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في مواجهة الموقف الأمريكي في استدعاء السفير الأمريكي للاعتراض على تصريحات الرئيس ترامب بشكل رسمي.

  • تكثيف الجهود الإعلامية لدعم الموقف الإثيوبي:

بدأت الأدوات الإعلامية الإثيوبية في تنفيذ استراتيجية لدعم الموقف الإثيوبي، تمثلت في الترويج أولًا لقدرة إثيوبيا العسكرية للدفاع عن سيادتها ضد أي عدوان من خلال نشر صور القوات الجوية الإثيوبية، ثم الترويج لفكرة أن تصريحات ترامب ما هي إلا تصريحات فردية لا تعبر عن الموقف الأمريكي من السد وعملية التنمية في إثيوبيا، وأخيرًا التأكيد على أن الهدف من السد هو توليد الكهرباء وليس حجز المياه عن مصر والسودان.

لم يتوقف رد الفعل على تصريحات الرئيس الأمريكي عند إثيوبيا فحسب، ولكن امتد إلى الاتحاد الأوروبي أيضًا، حيث أصدر وزير خارجية الاتحاد “جوزيف بوريل” بيانًا يحث فيه الأطراف على العودة من جديد لطاولة التفاوض وبذل المزيد من الجهد من أجل التوصل إلى اتفاق. وفي إشارة إلى تصريحات “ترامب”، طالب “بوريل” بمزيد من العمل في اتجاه التهدئة وليس إثارة التوترات بما يتسبب في مزيد من التعنت. 

ويطرح الوضع الراهن ثلاثة خيارات أمام إثيوبيا فيما يتعلق بإدارة قضية سد النهضة، هي:

أولاً: الاستمرار في موقفها المتعنت:

قد يؤدي تمسك إثيوبيا بموقفها المتعنت ورفضها التوصل لاتفاق يحفظ مصالح مصر والسودان إلى تحقيق مكاسب وقتية تتمثل في استكمال بناء السد وتركيب التوربينات لتوليد الكهرباء، ولكن هذه المكاسب سريعًا ما ستتحول إلى خسائر كبيرة في ظل استمرار الولايات المتحدة في حجب مساعدات بملايين الدولارات سنويًا، كما أن تمهيد ترامب لفكرة توجيه مصر ضربة عسكرية للسد من أجل أمنها المائي دون إلقاء اللوم عليها، قد يتحول إلى توجه عام بين الدول الكبرى ما يعطي مصر شرعية دولية لضرب السد، وهو ما لا يحبذه أي طرف.

ثانياً: العودة للمفاوضات والاستمرار في المماطلة:

من الممكن أن تلجأ إثيوبيا إلى العودة إلى طاولة التفاوض من جديد بسبب الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة ومطالبة الاتحاد الأوروبي جميع الأطراف بالعودة للتفاوض، ولكن هذه العودة قد تكون شكلية كسابقاتها، فتشارك إثيوبيا في المفاوضات بالتزامن مع استكمال أعمال البناء في السد من أجل إنهاء الإنشاءات وفرض الأمر الواقع كما فعلت في مرحلة الملء الأول.

ثالثًا: إبداء مرونة والتوصل إلى اتفاق:

يتمثل الخيار الثالث في استجابة الإثيوبيين لمطالب مصر والسودان وتوقيع اتفاق يراعي الاحتياجات المائية للدولتين ويضمن أمان السد وسلامته، وتُعد الضغوط الداخلية التي يواجهها آبي أحمد بالإضافة إلى الضغوط الخارجية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والحديث عن احتمالية نشوب صراع عسكري مع مصر، أسبابًا منطقية لقبول إثيوبيا بهذا الخيار وتفضيله عن الخيارين السابقين.

في الأخير، نجحت عبارات ترامب المقتضبة في تحريك المياه الراكدة في مفاوضات سد النهضة بعد توقف دام قرابة الشهرين دون أن يحرك الاتحاد الإفريقي أو الاتحاد الأوروبي ساكنًا، وقد يتمثل دافع ترامب من وراء هذه التصريحات في كسب مزيد من التأييد مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، خصوصًا بعد أن اتهمت إثيوبيا إدارة ترامب بالمتحيزة ورفضت التوقيع على وثيقة واشنطن التي كانت تمثل حلًا كافيًا للأزمة من وجهة نظر ترامب.

+ posts

باحث ببرنامج السياسات العامة

محمود سلامة

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى