التعليم قبل الجامعي المصري: المؤشرات الدولية تنفي التصورات الخاطئة
تعتبر المؤشرات والتقارير الدولية التي تتناول جودة نظم التعليم حول العالم أحد أبرز المعطيات التي تستند إليها المجتمعات في تقييم نظام التعليم في دولة ما؛ ولعل المجتمع المصري كان من بين المجتمعات الأكثر تأثراً بنتائج تلك التقارير حتى وقت قريب، ما أدى إلى ترسيخ صورة ذهنية سلبية تجاه نظام التعليم، وتراجع مستويات الثقة في الخدمة المقدمة في المدارس الحكومية، واعتماد كثيرين على أشكال أخرى من التعليم غير الرسمي. وعلى الرغم من تحسن أداء نظام التعليم المصري في المؤشرات الدولية، إلا أن التصورات الخاطئة بشأن صلاحية نظام التعليم المصري مازالت منتشرة بين بعض الفئات، وهو ما يفرض توضيح التأثير السلبي الذي خلّفه التناول السطحي لنتائج المؤشرات الدولية، وواقع التحسن في نظام التعليم المصري وفق أحدث النتائج لتلك المؤشرات.
المؤشرات الدولية: بين التناول السطحي والأغراض الحقيقية
غالباً ما ينشغل الإعلاميون وأولياء الأمور بترتيب نظام التعليم الذي تخرج به التقارير والمؤشرات الدولية، وغالباً ما يتبع تراجع ترتيب نظام تعليمي ما في التصنيفات الدولية هجوم إعلامي على السياسة التعليمية ومطالبة باتباع سياسات جديدة تفضي إلى تحسن ترتيب هذا النظام في التصنيفات اللاحقة؛ وقد يذهب البعض إلى عقد مقارنات بين النظام التعليمي في دولته ونظم التعليم في دول متقدمة ذات ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية مختلفة تماماً، بما يجعل المقارنة غير منطقية، ويؤدي إلى نشر تصورات خاطئة بين فئات المجتمع المختلفة حول أداء النظام التعليمي.
هذا هو ما يمكن تسميته التناول السطحي لنتائج التقارير والمؤشرات الدولية، حيث يتم حصر غرض التقارير الدولية في مقارنة ترتيب الدول دون تدقيق في معايير المقارنة ومؤشرات قياس الأداء التي يستند إليها كل تقرير؛ أما الغرض الحقيقي من وراء إصدار تلك التقارير، فيمكن تحديده بشكل مبسط في “تقديم صورة واقعية لنظام التعليم في دولة ما وفق مؤشرات ومنهجية محددة استناداً إلى البيانات التي توفرها تلك الدولة حول نظامها التعليمي، بهدف إلقاء الضوء على أوجه القصور في كل مؤشر، وتقديم أفضل الممارسات التي يمكن أن تساهم في إصلاح السياسة التعليمية من خلال المقارنة مع باقي الدول التي يتضمنها كل تقرير”؛ وليس بالضرورة أن تصلح السياسة التعليمية المتبعة في دولة ما لتصحيح مسار نظام التعليم في دولة أخرى، حيث تلعب الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة دوراً مباشراً في تحديد إمكانية تبني سياسة تعليمية جديدة في مجتمع ما، واحتمالات نجاح تلك السياسة مستقبلاً.
كيف رسخت التقارير الدولية صورة سلبية حول التعليم المصري؟
تمثل أحد أهداف برنامج إصلاح التعليم الذي شرعت الدولة المصرية في تنفيذه منذ العام الدراسي 2018/2019 في رفع مستوى ثقة المجتمع في نظام الثانوية العامة الجديد، أو بمعنى آخر زيادة مستوى الثقة في نظام التعليم؛ حيث كانت ثقة المجتمع في نظام التعليم قد تراجعت بشكل كبير بسبب عدم حصول الطلاب على المهارات التي تؤهلهم لسوق العمل، وضعف مستوى الطلاب في مرحلة التعليم الأساسي سواء في القراءة أو أداء العمليات الحسابية الأساسية وفقاً لما جاء في وثيقة مشروع إصلاح التعليم.
ولعل تراجع ترتيب جودة التعليم المصري في التصنيفات والتقارير الدولية بين عامي 2014 و2018 هو ما ساهم في ترسيخ صورة ذهنية سلبية حول جودة نظام التعليم المصري؛ ففي مؤشر رأس المال البشري لسنة 2015، جاءت مصر في المرتبة 123 من بين 124 دولة في جودة التعليم الابتدائي. نفس الأمر أكده تقرير التنافسية الدولية الذي كان يتضمن مؤشراً خاصاً بجودة التعليم الابتدائي حتى 2018، حيث كان أفضل ترتيب لمصر في جودة التعليم الابتدائي خلال تلك الفترة هو 133 من بين 140 دولة في تقرير 2017/2018، أي قبل تنفيذ مشروع الإصلاح مباشرةً.
على مدى أكثر من أربع سنوات بين 2013 و2017، كان تركيز الإعلاميين وغير المتخصصين منصباً على تراجع ترتيب نظام التعليم المصري في تقرير التنافسية، ليطالبوا بتغيير نظام التعليم كلياً لأنه لم يعد صالحاً لمتطلبات العصر الحالي؛ وانضم إليهم بعض الأكاديميين الذين أكدوا بدورهم على ضرورة الاستفادة من التجارب الدولية الرائدة في مجال التعليم للخروج من الوضع السيء الذي عانى منه نظام التعليم المصري خلال تلك الفترة، إلا أن معظم التجارب التي طرحت في دراسات منشورة كانت لدول ذات ظروف مختلفة تماماً عن ظروف الدولة المصرية آنذاك، وقد ساهم ذلك في خلق حالة من عدم الاعتراف بصلاحية النظام القديم، بالإضافة إلى حالة مقاومة للنظام الجديد الذي بلغ الصف السادس الابتدائي خلال العام الدراسي الحالي.
المقارنة الصحيحة توضح مدى التحسن
مازال قطاع عريض من المجتمع المصري يؤكد استمرار معاناة نظام التعليم رغم جهود الإصلاح التي بذلت خلال السنوات الست الماضية؛ فنجد أن هناك تركيز على المشكلات التاريخية لنظام التعليم المصري مثل تلك المتعلقة بارتفاع الكثافة والعجز في أعداد المعلمين، وهي مشكلات حقيقية تحتاج إلى بذل مزيد من الجهود وتوجيه مزيد من الإنفاق العام على التعليم للتغلب عليها خلال فترة زمنية ليست قصيرة، إلا أن التصنيفات الدولية لا تعتمد على هذين المتغيرين فقط، حيث يظهر “مؤشر المعرفة العالمي” الذي يصدر عن مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن التعليم قبل الجامعي المصري شهد تحسناً ملحوظاً في عدد من المؤشرات انعكست على ترتيب مصر في هذا المؤشر، حيث احتلت مصر المرتبة 80 من بين 133 دولة في مؤشر التعليم قبل الجامعي. علاوةً على ذلك، فقد أكد تصنيف US News الأمريكي أن التعليم المصري قد تحسن كثيراً خلال الفترة الماضية، حيث جاءت مصر في المرتبة 37 من بين 85 دولة فيما يتعلق بجودة التعليم.
وعلى الرغم من التحسن الملحوظ في تصنيف التعليم المصري في التقارير الدولية ليقبع في مكانة متوسطة بعد أن كان قد بلغ أدنى مستوى في تقارير 2014 و2015، إلا أن بعض وجهات النظر مازالت تقارن نظام التعليم المصري بنظم تعليم الدول المتقدمة، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى المبالغة في تصدير صورة سلبية حول وضع التعليم المصري. لذلك، من الضروري أن يتم قياس التحسن في الخدمة التعليمية وفقاً لكل المؤشرات مجتمعة وليس مؤشراً منفرداً، وأن تتم المقارنة مع دول ذات ظروف شبيهة لتكون النتائج منطقية.
على سبيل المثال، إذا تمت مقارنة نظام التعليم المصري مع نظيره في المكسيك، وهي دولة تنتمي للشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل، أي الشريحة الأعلى من الشريحة التي تنتمي إليها مصر، وتمتلك نظام تعليمي مشابه إلى حد ما لنظام التعليم المصري، يتضح أن المكسيك تأتي في مرتبة لاحقة لمصر في مؤشر المعرفة العالمي وتصنيف US News على الرغم من أن حجم إنفاق المكسيك على التعليم أعلى من نظيره المصري كما هو موضح بالجدول أدناه.
جدول مقارنة بين ترتيب نظم التعليم في بعض الدول ذات الظروف الشبيهة
الدولة | عدد السكان | طلاب التعليم قبل الجامعي | فئة الدخل | حجم الإنفاق على التعليم (%GDP) | ترتيب مؤشر المعرفة “133 دولة” | ترتيب US News “85 دولة” |
مصر | 106 مليون | 24.4 مليون | الشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل | 4% | 80 | 37 |
المكسيك | 128 مليون | 24.5 مليون | الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل | 4.6% | 81 | 40 |
تركيا | 86 مليون | 15.5 مليون | الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل | 2.8% | 72 | 30 |
كولومبيا | 52 مليون | 9 مليون | الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل | 5.3% | 75 | 54 |
إيران | 89 مليون | 16 مليون | الشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل | 3.2% | 83 | 81 |
ماليزيا | 34 مليون | 5.5 مليون | الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل | 3.5% | 87 | 39 |
كينيا | 55 مليون | 11.4 مليون | الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل | 4.1% | 88 | 70 |
جنوب إفريقيا | 60 مليون | 13.5 مليون | الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل | 6.2% | 103 | 41 |
الهند | مليار و429 مليون | 259.5 مليون | الشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل | 4.6% | 96 | 34 |
من الجدول السابق، يتضح أن تركيا تتقدم على مصر في التصنيفين، وقد يرجع ذلك إلى انتماء تركيا للشريحة الأعلى من الدخل، وانخفاض عدد التلاميذ في النظام التعليم مقارنةً بمصر، وتوجيه التمويل للتعليم الأساسي فقط، أي 8 سنوات من التعليم الإلزامي، في اختلاف واضح عن توجيه التمويل في مصر لكل الصفوف الدراسية التي تبلغ 12 صفاً دراسياً. أما ماليزيا التي كانت نموذجاً يطالب الأكاديميون المصريون باتباعه في تحسين جودة التعليم، فقد جاءت في ترتيب متأخر عن ترتيب مصر في التصنيفين على الرغم من انتماء ماليزيا لشريحة الدخل الأعلى، وقلة عدد التلاميذ في النظام التعليمي بشكل ملحوظ ليمثل حوالي 25% من حجم نظام التعليم المصري.
ختاما، يمكن القول إن النظرة السلبية التي رسختها التقارير الدولية في 2014 و2015 لم تعد صالحة لتقييم نظام التعليم المصري بوضعه الراهن، كما أن الخطوات التي اتخذتها الدولة المصرية لمعالجة أوجه القصور التي تسببت في تراجع التعليم قبل 2018 ساهمت في تحسين وضعية نظام التعليم المصري في المؤشرات الدولية المختلفة؛ وهذا هو الهدف الرئيسي من وراء إصدار التقارير والتصنيفات الدولية- أن تتعرف الدول على أوجه القصور وتقوم بتعديل السياسات لتعديل مسارها.