مقالات رأي

د.محمد حسين أبو الحسن يكتب : مصر والكونجو.. نقلة على رقعة المستقبل

في رسالته إلى الرئيس السيسي، أخيرا، أكد فليكس تشيسكيدى رئيس الكونجو الديمقراطية دعمه موقف القاهرة تجاه السد الإثيوبي، وتطلعه للاستفادة من الخبرة المصرية في البنية التحتية والمشروعات الكبرى. من ناحيته شدد السيسي على أن يد مصر ممدودة بالتعاون في جميع المجالات إلى الكونجو، مثمنا موقفها بقضية السد، لاسيما أنها إحدى دول منابع النيل- متاخمة لجنوب السودان- وترتبط مع مصر بعلاقات تاريخية: نالت استقلالها بمساندة جمال عبدالناصر، يوليو 1960، في إطار استراتيجيته لتأمين منابع النيل وتخليصها من السيطرة الاستعمارية، وأرسلت القاهرة قوات حفظ سلام إلى الكونجو، بقيادة العقيد سعد الشاذلي (الفريق)، وعندما اغتالت بلجيكا والمخابرات الأمريكية زعيم الاستقلال باتريس لومومبا، تمكن الشاذلي من تهريب أولاده؛ ليعيشوا بكنف الدولة المصرية.. احتفظ الشعبان بعلاقات وطيدة، بيد أنها لا تزال، في شقها الاقتصادي، بعيدة عما تختزنه من فرص هائلة، تكفل لهما ولبقية شعوب القارة النماء والازدهار، لو أُحسن استثمارها؛ فلا يتعدى التبادل التجاري بينهما 100 مليون دولار.
تتوسد الكونجو الديمقراطية قلب إفريقيا، بمساحة مليونين و350 ألف كم، تضم 85 مليون نسمة، ناتجها الإجمالي 70 مليار دولار. وهي أغنى دول القارة بالثروات الطبيعية، كالمياه والغابات والأراضي الزراعية، وتقدر احتياطاتها من المعادن بنحو 24 تريليون دولار، كاليورانيوم والنحاس والألماس… ولأنها عانت ويلات الاحتلال (البليجيكي) ثم الديكتاتورية والحروب الأهلية، لايملك ثمانية ملايين مواطن قوت يومهم. لكن الكونجو بدأت تشق طريقها صوب الاستقرار، إذ جاء الرئيس تشيسكيدى من صفوف المعارضة، فاز في انتخابات نزيهة على الرئيس جوزيف كابيلا، الذي سلم السلطة (سلميا)، يناير 2019، في تطور (فريد) بإفريقيا جنوب الصحراء، هذا أتاح لبلاده محاولة النهوض من كبوتها الطويلة، وبالفعل بدأت تحقق معدلات تنمية تبشر بمستقبل واعد.
إن الكونجو الديمقراطية لاعب رئيسي بإفريقيا، تحظى باهتمام القوى الإقليمية والعالمية، في إطار ما سماه كونراد- في روايته (قلب الظلام)- (التزاحم بالمناكب على إفريقيا)، كما تحوز أهمية استثنائية بالنسبة لمصر، إذ ترفض التغول الإثيوبي، وتحترم حقوق دول النيل، بموجب اتفاقيات الحقبة الاستعمارية (9 مايو 1906) مع بريطانيا- تطبيقا لاتفاق بروكسل 1894- وفيه تتعهد الكونجو بعدم إنشاء أعمال، على نهري سمليكي وإيسانجو تخفض المياه إلى بحيرة ألبرت إحدى منابع النيل الأبيض.. وتلعب الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية دورا مهما في بناء القدرات الكونجولية في الصحة والتعليم والكهرباء والري والزراعة..ولعل إسهام القاهرة المرتقب بتنفيذ (سد إنجا) على مراحل، بمنحدرات نهر الكونجو، نقطة تحول جوهرية في مسار التعاون بين القاهرة وكينشاسا، إنه أضخم مجموعة سدود في العالم، بتكلفة إجمالية 100 مليار دولار، بتمويل البنك الإفريقي وغيره، لتوليد 44 ألف ميجاوات، أي ضعف إنتاج سد (الممرات الثلاثة) الصيني، أو40 مفاعلا نوويا، ويزود إفريقيا بنحو 40% من احتياجاتها، مع تصدير الفائض عبر مصر وقبرص إلى أوروبا، بما يعزز مكانة مصر كمركز إقليمي، ويجعل الكونجو من كبري الدول المصدرة للطاقة عالميا، يؤكد الرئيس الكونجولي: إن المياه والكهرباء معركة يتعين الفوز بها بكل الوسائل.
وبجانب النتائج المذهلة، لإمكانية المزاوجة بين القدرات المصرية والموارد الكونجولية، يصعب إغفال (فكرة) الربط بين نهري النيل والكونجو؛ يقدر الإيراد السنوي للأخير بنحو 1450 مليار متر، تعادل 17 مرة إيراد نهر النيل (84 مليارا). الفكرة طرحها آباتا باشا كبير مهندسى الرى المصريين فى السودان عام 1902، وتجددت فى عهد عبدالناصر، ثم في عام 1980 كلف السادات شركة (آرثر دى ليتل) الأمريكية بدراسة المشروع، فنصحت بتنفيذه، لنتائجه الاقتصادية المذهلة لمصر، بتوفيره 112 مليار متر مياه واستصلاح 80 مليون فدان. برغم ذلك فإن بعض الخبراء المرموقين اعتبروا مشروع الربط مجرد وهم غير قابل للتنفيذ، وساقت وزارة الري المصرية 22 سندا علميا- لها وجاهتها- لرفضه نهائيا؛ محبذة التفرغ لحماية حقوق مصر المائية في المعركة الحالية حول النيل الأزرق.
ما أود قوله إن مشاركة مصر بجدية في تنمية إفريقيا، بخاصة حوض النيل، في ظل المنافسة الشرسة، من الأصدقاء والأعداء، يبطل الدعاية الإثيوبية المعادية للقاهرة، أنها تعرقل تقدم الآخرين، ويمنحها وجها مغايرا، وفرصة لبناء منطقة نفوذ واعدة في القارة، إن أزمة مياه النيل لن تتوقف عند إثيوبيا، ووجود حليف قوي، مثل الكونجو، نقطة قوة ونقلة مهمة على رقعة المستقبل، لصالح مصر بجميع الأحوال.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى