
تعددت بيانات الإدانة والشجب التى يصدرها الإتحاد الأوروبى وعدد من العواصم الغربية المؤثرة بحق تركيا وممارساتها الاستفزازية في منطقة شرق المتوسط وكان آخرها يوم الاثنين الماضي حين أدان الاتحاد في بيان له حالة التوتر التي تسبب فيها قرار أنقرة بإرسال سفينة استكشاف مجددًا إلى المياه اليونانية، وقرر مناقشة المسألة في القمة الأوروبية المقررة الخميس والجمعة في بروكسل. وأوضح وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في ختام لقاء مع وزراء خارجية دول الاتحاد في لوكسمبورج، أن المهمة الجديدة لسفينة البحث الزلزالى عروج ريس “سيناقشها القادة الأوروبيون خلال قمتهم المقبلة”.
في بعض الأحيان يجد المراقب للأحداث أنه في حاجة إلى أن ينظر للأمور ويحللها بوجهة نظر الطرف الفاعل في العلاقة بين دولتين أو عدة دول داخل المنظومة الدولية في محاولة للوقوف على طبيعة تطور العلاقة والملفات التى تتقاطع أو تتصادم فيها تلك الأطراف، ويكون لها تأثير مباشر أو غير مباشر على منطقتنا وإقليمنا الذى يتأثر بهذا الذى يقع على الجانب الأخر من شاطئ البحر الذى يربطنا جغرافيًا؛ والنظرة العميقة للملف تحتم رؤية ما هو أبعد من شريط الأخبار والأحداث اليومية إلى خلاصة ما ترسخ على السطح لدى الحكومات والرأى العام الغربى تجاه تركيا.
أصبح هناك اعتقاد سائد لدى الرأي العام الغربي وخاصة داخل الدوائر السياسية والنخبة الثقافية والاقتصادية أن تركيا التى كانوا يعرفونها ذات يوم لم تعد موجودة وأن الكيان الموجود على شاطئ البوسفور والمتوسط يمضي في طريقه بعيدا عن الحاضنة الغربية؛ فعلى الرغم من اعتراضات حلف الناتو والتحذيرات الأمريكية المتتالية، حصلت أنقرة على نظام الدفاع الجوى الروسى S400. وردًا على ذلك، ألغت واشنطن المشاركة التركية في برنامج المقاتلة F-35في الحلقة الأخيرة من هذه الملحمة؛ وحكمت محكمة تركية على موظف في القنصلية الأمريكية بالسجن قرابة تسع سنوات بتهمة مساعدة حركة فتح الله جولن؛ حتى أصبح الغرب يرى أن أردوغان يتصرف “كبلطجي” تجاه الاتحاد الأوروبي حين قام بتسليح اللاجئين والمهاجرين “المسلمين”، كما أصدر تهديدات مباشرة لليونان ويثير استعداء إسرائيل بانتظام طبقا للتصور السائد.
وفى واشنطن ما زالت النخبة السياسية الأمريكية تعاني من متلازمة “لماذا خسرنا ذلك البلد؟ ومن السبب؟” والتى بدأت مع إدارة ترومان، التى فشلت في منع الاستيلاء الشيوعي على الصين في عام 1949؛ ثم تم إلقاء اللوم على الرئيس كينيدي لانتصار فيدل كاسترو في كوبا عام 1959؛ وشهدت إدارة نيكسون وفورد انهيار جنوب فيتنام في عام 1975؛ ولم يستطع الرئيس كارتر إنقاذ الشاه من الثورة الإيرانية على الرغم من هذه الخلفية التاريخية، يرفض العديد من صانعي السياسة الأمريكيين -الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء- قبول حقيقة أن تركيا تبتعد عن الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا)؛ وأجمعوا على أن ما يحدث له خمسة أسباب تجيب على سؤال “لماذا؟”:
- أولًا، تركيا من وجهة النظر الغربية تتغير بسرعة؛ حيث ترصد تلك النظرة أن عملية “أسلمة” البلاد هى عملية تصاعدية وليست من أعلى إلى أسفل وأن تركيا ليست نسيجًا واحدًا، فأتراك الأناضول الذين يميلون إلى أن يكونوا أكثر تحفظًا وتدينًا، لديهم معدلات مواليد أعلى من الأتراك الغربيين في إسطنبول وساحل بحر إيجه. وينظر الكثيرون الآن إلى العلمانية الكمالية على أنها نظام سياسي وثقافي مفروض يتجاهل التراث الإسلامي الغني للبلاد؛ ومعدلات الزيادة في المواليد واستمرار “أسلمة” المجتمع ستجعل الكفة تميل لصالح ثقافة أتراك الأناضول وسيطرة النزعة الدينية على مقاليد وقرارات الدولة وسياساتها تجاه الآخر “الغربى”.
ويرى الغرب أن أردوغان، مثل غيره من القادة الشعبويين خطابه السياسي يتماهى ويتناغم بشدة مع توجهات عامة الشعب ويدغدغ مشاعرها؛ فضلا عن أن خطابه المعادى لأمريكا، والمناهض لأوروبا، وأحيانًا المعادي للسامية جعله يتمتع بشعبية بين العديد من الأتراك المتدينين. وقبل كل شيء، ترى البلاد نفسها خليفة للإمبراطورية العثمانية حيث كانت إسطنبول مقرًا للخلافة لخمسة قرون، وكان يُنظر إلى السلطان العثماني على أنه زعيم العالم الإسلامى.
تريد تركيا في عهد أردوغان ومشروعها “العثمانية الجديدة” أن تلعب الدور نفسه، كما يتضح من دعمها للإخوان المسلمين وحماس والجماعات الإسلامية الأخرى؛ وتدرك عدة عواصم غربية وأجهزتها الاستخباراتية حقيقة وعمق العلاقة التى تجمع نظام أردوغان بكل الجماعات الإرهابية المسلحة في المنطقة ودعمه اللوجيستي لها واستخدامه للمرتزقة والجهاديين على كافة مسارح العمليات وطرق نقل وإمداد هؤلاء المسلحين ومصادر تمويلهم من قطر وغيرها مرصودة.
- ثانيًا: أدى اندلاع ما يصفه الغرب “بالحرب الأهلية” في سوريا إلى تنشيط دراماتيكي للمسألة الكردية. في نوفمبر 2013، ترك إنشاء منطقة الحكم الذاتي الكردية في روج آفا Rojava أثار صادمة لدى أنقرة. فالمؤكد أن تركيا لا تزال تعاني من ذكريات مؤلمة من “معاهدة سيفر” التى دعت صراحة إلى تشكيل دولة كردية مستقلة حيث كان من السهل تحديد ملامح الدولة الجديدة من أطلال الإمبراطورية العثمانية المهزومة.
لطالما اتهم أردوغان الولايات المتحدة وبعض العواصم الغربية بدعم القومية الكردية وتجاهل الحساسيات التركية بشأن هذه القضية، وتصور وسائل الإعلام المحلية الولايات المتحدة على أنها حليف متغطرس وما تقدم عليه من سياسات تجاه الملف الكردي هو بمثابة “طعن في الظهر”. وتعتقد أنقرة في أن إسرائيل تشجع أكراد العراق على إقامة دولة. ومن المرجح أن تلك الشكوك التركية ستزداد لأن الغرب لا يستطيع التخلي عن الأكراد.
- ثالثًا: أدى الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة من الشرق الأوسط والعودة اللاحقة لروسيا إلى تغيير ديناميكيات الأمن الإقليمي. تشعر القيادة التركية بأنها أقل التزامًا باتباع مسار موالٍ للغرب في “عالم ترمبي” من الالتزام التكتيكي وعدم اليقين الاستراتيجي. تنظر تركيا الآن “إلى نفسها” على أنها قوة صاعدة ذات اقتصاد كبير (أحد أفضل 20 اقتصادًا في العالم) وجيشًا قويًا (ثاني أكبر جيش في الناتو)، قادر على خوض الحروب وكسبها. في الواقع و”من وجهة النظر الغربية”، فإن القوات المسلحة التركية نفذت عمليات قتالية ناجحة في العراق وسوريا وليبيا دون دعم أمريكي.
تجلى ثقة تركيا المتزايدة أيضًا في قيامها بإنشاء قواعد عسكرية في قطر والصومال، وهما دولتان تقعان جغرافيا بعيدًا عن المجال الحيوى التركى. والأهم من ذلك، طورت صناعتها الدفاعية بشكل كبير خلال السنوات الخمس الماضية وهي الآن تمثل قطاع عالي التقنية بمليارات الدولارات في الاقتصاد. وتشير الرؤية الغربية إلى أن تركيا في عهد أردوغان تتمتع بثقة -ربما أكثر من اللازم- في قدرتها على التعامل مع التحديات الخارجية.
- رابعًا، علاقات تركيا المتنامية مع روسيا ليست تكتيكية ولا من قبيل الصدفة وتفسر الاعتبارات الجيوسياسية جزئيًا خروج تركيا عن توجهها الموالي للغرب. على الرغم من عودتها المذهلة إلى الشرق الأوسط، من المتوقع أن تركز روسيا على منطقة القطب الشمالي بسبب تغير المناخ، وفى جمل تليغرافية: لا تحتاج موسكو بإلحاح للوصول إلى البحر المتوسط الدافئ. في المقابل، أطلق بوتين على القطب الشمالى “المنطقة الأكثر أهمية التى ستوفر مستقبل روسيا”. ستصبح نظريات نيكولاس سبيكمان ريملاند (1942) وجورج كينان للاحتواء (1947) عفا عليها الزمن بمجرد أن يصبح المحيط المتجمد الشمالى صالحًا للملاحة. وبالتالي، لن تخشى أنقرة من القوة العسكرية الروسية. قد تصبح عضوية تركيا في الناتو غير ذات صلة إن لم تكن عقبة في سياسة خارجية أكثر فاعلية.
- خامسًا، في خلفية التعامل بين تركيا والعواصم الغربية هناك عدد من الحقائق الراسخة حيث تدرك تلك العواصم أن تركيا أصبحت دولة استبدادية؛ ان تركيا لديها تقليد طويل من التغريب، لكنها تقع على منحدر زلق حيث أصبحت سيادة القانون إشكالية بشكل متزايد وأصبح تقسيم السلطات ضبابيًا. فبعد الانقلاب الفاشل في عام 2016، سُجن عشرات الآلاف وفقد المزيد وظائفهم في مطاردة سياسية لا تنتهي. علاوة على ذلك، تعد تركيا واحدة من أبرز الدول التي تسجن الصحفيين في العالم، وتأتي في المرتبة الثانية بعد الصين. إن تحقيق العضوية في الاتحاد الأوروبي هو أقرب إلى المستحيل. في عصر تتدفق فيه المعلومات عبر الإنترنت، لا يمكن لحلف الناتو أن يتجاهل انتهاكات حقوق الإنسان لأعضائه.
ختامًا؛ أن الدول العربية أمام فرصة تراجع بعض الأدوار الوظيفية للقوى التقليدية التى كانت تنافسها شرق أوسطيًا في تقديم خدمات تفوق القدرة والإرادة العربية؛ وأن حالة السيولة التى تصاحب إعادة تمركز المواقف والسياسات الخارجية للدول والكيانات الفاعلة في العالم والخاصة برؤيتها لمنطقة الشرق الأوسط قد أضرت بالمشروعات الثلاثة المنافسة: المشروع الإسرائيلي؛ والمشروع الإيراني والمشروع التركي. رغم ما يبدو من حالة انتعاش للمشروع الإسرائيلى جراء التوقيع على اتفاقيات سلام وتطبيع مع دول عربية رئيسة؛ ولكن في المقابل ومن الزاوية الاستراتيجية تخلق تلك التطورات هوامش عدة للحركة والمناورة وإعادة صياغة التحالفات والأدوار، وهو ما يستلزم مشروعًا عربيًا في مقابل تلك المشروعات يستند إلى رؤية إستراتيجية ونظرية أمن واضحة ومصالح حقيقية وشراكات ممتدة وآليات حركة محسوبة الإيقاع؛ وتظل مصر بثقلها الدولي والإقليمي مرشحة دائمًا لأن تقود هذا المشروع إلى بر الأمان.