
د. نيڤين مسعد تكتب: ماكرون والصحوة الجمهورية
في ٢ أكتوبر الجاري ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطاباً مطولاً من ١٦ صفحة كاملة نشرها قصر الإليزيه على موقعه الإلكتروني، وهذا يعني أننا أمام وثيقة كبيرة محمّلة بالعديد من الأفكار التي من حقنا أن نختلف معها لكن لا يجوز لنا اختزالها في جملة أو عبارة واحدة.
وسوف أحاول تقديم قراءة تحليلية لخطاب ماكرون ككل و دون اجتزاء ، أخذاً في الاعتبار أنني استوحيت من نصه عنوان المقال “الصحوة الجمهورية” لأن ماكرون أكثر جداً من استخدام كلمة الجمهورية والجمهوري في خطابه حتي أنني أحصيت منها ٧٦ مرة هذا إذا لم أخطئ في العدّ ، ومرجع ذلك أن فكرة الجمهورية هي فكرة راسخة في فرنسا لأنها تستمد شرعيتها من شرعية الثورة الفرنسية نفسها التي هي أساس فرنسا الحديثة ، كما أن فكرة العلمانية كمكّون رئيسي من مكونات الجمهورية تتمتع بقوة مماثلة في الدولة الفرنسية ، فعلي العكس من العلمانية الألمانية مثلاً التي تتمتع ببعض المرونة وتتأثر بالأفكار الإصلاحية لمارتن لوثر كينج، فإن العلمانية الفرنسية هي علمانية صارمة تنظمها قوانين تعود إلي مطلع القرن العشرين ، ولذلك تكررت أيضاً كلمة العلمانية في مواضع متفرقة من خطاب ماكرون . وهذا التوضيح مهم حتي يوضع الخطاب في سياقه، والآن إلي تناول قضية الانفصالية الإسلامية التي تكلم عنها ماكرون ، وفي الأسبوع المقبل إن شاء الله يتم تناول القضية التي وصفها ماكرون بأنها أزمة الإسلام حول العالم .
الفكرة الأساسية في خطاب ماكرون هي محاولة تحرير مسلمي فرنسا من التأثيرات الخارجية الوهابية والسلفية وتأثيرات الإخوان المسلمين التي بدأت سلمية كما قال ، ثم بالتدريج تحولت إلي الراديكالية وحملت مشروعاً سياسياً موازياً ومتصادماً مع مشروع الجمهورية الفرنسية . ما قاله ماكرون هو إقرار بفشل سياسات إدماج المهاجرين المسلمين من أبناء الجيلين الثاني والثالث في المجتمع الفرنسي ، وهذه ظاهرة قديمة تعرض لها رؤساء سابقون حتي أن الرئيس چاك شيراك شكّل في عام ٢٠٠٣ لجنة للتفكير في كيفية تطبيق مبدأ العلمانية في الجمهورية الفرنسية ، وشارك في عضوية هذه اللجنة مفكرون عرب/فرنسيون بارزون أمثال محمد أركون . لكن ظاهرة فشل الإدماج هذه تفاقمت إلي الحد الذي عبّر عنه ماكرون بلفظ الانفصال ، ويقصد بذلك الانفصال الشعوري عن الدولة الفرنسية رغم العيش علي ترابها . وساق الرئيس الفرنسي عدداً كبيراً من الممارسات الغريبة علي العلمانية الفرنسية كأن يُمنَع ركوب بعض السيدات في أوتوبيسات تعود لجمعيات أهلية لأن ملبسهن غير ملائم ، أو كأن تتم المطالبة بتحديد ساعات معينة للنساء في المسابح ، أو كأن يرفض الأهل إرسال أطفالهم إلي المدارس تجنبًا للاختلاط …إلخ . والواقع إن كل من يعرف فرنسا يعرف أن هذه الظاهرة حقيقية وأن هناك أحياءً بل مدناً فرنسية كمدينة مارسيليا لا تشبه فرنسا في شيء ، وأن هناك مجموعة كبيرة من الأسباب التي أوصلت فرنسا لهذه النقطة ، منها ما هو خارجي ومنها ما هو داخلي ، وبالتالي فإن من حق رئيس الدولة التصدي لها فلا رئيس يقبل خروج أجزاء من دولته أو شعبه خارج سلطته.
لقد لعب المال والفكر دوراً مهماً في سلخ المسلمين الفرنسيين عن المجتمع الفرنسي ، فحيثما قصّرت الدولة أو حتي غابت عن الضواحي التي صارت أشبه ماتكون بالجيتوهات كما اعترف بذلك ماكرون ” نحن أنفسنا صنعنا انفصالنا” ، وحيثما تم تهميش المهاجرين -المسلمين بالذات -تقدمت الجمعيات ذات الواجهة المدنية والممولة من الخارج لتملأ فراغ الدولة . لكن الأمر الغائب هو أن المسألة ليست مسألة خدمات فقط وأن التعريض بالرموز الإسلامية قد يدفع بعض مسلمي فرنسا للانفصال الشعوري عن المجتمع والتواصل مع الخارج . ثم هناك عملية تكوين الأئمة الفرنسيين خارج الدولة بتنشئتهم علي قيم لا تتفق مع قيم الجمهورية ، إلا أن الخطاب خلا من الإشارة إلي مسؤولية الدولة في استقبال قيادات الحركات الإسلامية -وليس فقط الأئمة- ومن هؤلاء قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية اعتباراً من عام ١٩٩٢، كما لا ننسي أن الخميني أدار الثورة الإيرانية من ضاحية نوڤال لوشاتو الفرنسية ثم أصبحت أفكار هذه الثورة وممارساتها عبئا علي الجميع .ومن أجل تعميق الانفصال الشعوري عن الجمهورية الفرنسية فإنه تتم باستمرار عملية إنعاش ذاكرة المسلمين بالتاريخ الاستعماري لفرنسا ، و النتيجة هي أن أبناء الجيل الثالث من المهاجرين الذين لم يعايشوا الاحتلال ينتقدون بمنتهي القوة الحقبة الاستعمارية وينددون بدور فرنسا في تشويه الهوية العربية / الإسلامية .
وبعد أن وضع ماكرون يده علي سبب المشكلة أي التأثير الخارجي علي المهاجرين المسلمين والتقصير الداخلي في حقهم ، حدد الملامح العامة للإجراءات القانونية والتنفيذية التي يعتزم اتخاذها والتي يمكن وصفها بالتحرك علي خطين متوازيين ، الخط الأول هو قطع علاقة الداخل بالخارج من خلال ضبط عملية التمويل للجمعيات وإلزامها بتوقيع عقد تتعهد فيه باحترام قيم الجمهورية ، وتكوين الأئمة في فرنسا لا في المغرب ولاتركيا كما في السابق مع الاعتماد علي المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية من أجل ربط الدين الإسلامي بالواقع الفرنسي . والخط الآخر هو تأكيد حضور الدولة عبر الحفاظ علي حياد المجال العام ومنع تديينه ، وزيادة عدد الفصول الدراسية حتي يكون هناك وجود جمهوري “تحت كل مبني” كما قال ماكرون ، وكذلك زيادة عدد ساعات عمل المكتبات ، مع إلزامية التعليم في المدرسة اعتباراً من سن ثلاث سنوات فلا يُسمح بالتعليم المنزلي إلا لأسباب صحية. أما النقطة الجديرة بتسليط الضوء عليها فهي قرار تدريس اللغة العربية في المدارس كي لايدرسها التلاميذ خارج أسوار المدرسة ، والاهتمام بالحضارة العربية / الإسلامية حيث قال ماكرون بوضوح ما نصه ” أريد أن تصبح فرنسا البلد الذي يمكن أن ندرّس فيه أفكار ابن رشد وابن خلدون “، بالإضافة إلي تشجيع الحوار العلمي والأكاديمي كي لا يُترَك “فهم الإسلام كدين ، والحضارة التي يحملها ، وكذلك الإسهام الذي قدمه لبلدنا وللقارة إلي المناظرات الأيديولوجية ” ، وهذا يعني الاعتراف بفضل الحضارة العربية / الإسلامية علي أوروبا .لكن الملاحظ أن هذه الجوانب الإيجابية في خطاب ماكرون غابت عن معظم التعليقات عليه وذلك لأن قوله غير الدقيق “إن الإسلام حول العالم يمر بأزمة” قد خطف الأنظار ، وهذا موضوع المقال المقبل .