
فرص الأزمات.. كيف ستؤثر وفاة أيقونة القضاء الأمريكي على السباق الانتخابي؟
كان عام 2020 صعبًا على الولايات المتحدة في ظل جائحة كوفيد 19 وما تبعها من تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية ضارية. والآن تدور رحى معركة مقبلة في محكمة العدل العليا، ليواجه الناخب الأمريكي أزمة جديدة تضاف إلى سلسلة أزماته قبل شهر ونصف تقريبًا من الانتخابات المقررة في نوفمبر المقبل. فقد أثارت وفاة أيقونة الثقافة والليبرالية القاضية “روث بادر جينسبورج” معركة سياسية حول من سيخلفها، وجدلًا بين الحزب الديمقراطي الذي ينادي بتأجيل عملية تعيين منصبها الشاغر إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، والحزب الجمهوري الذي يأمل في أن يتمكن الرئيس دونالد ترامب من اغتنام الفرصة لتعيين قاض محافظ، من أجل ترجيح كفة القضاة المحافظين.
المرأة الثانية المعينة في المحكمة العليا الأمريكية خدمت لمدة 27 عامًا بعد أن عينها بيل كلينتون في عام 1993. قد يؤدي رحيلها إلى تغيير كبير في التوازن الأيديولوجي للمحكمة التي تضم حاليًا أغلبية محافظة تمثل خمسة أعضاء جمهوريين مقابل أربعة أعضاء ديمقراطيين. وتمنح وفاتها للرئيس ترامب فرصة لتوسيع الأغلبية المحافظة في المحكمة. وعلى هذا أعلن ترامب عزمه تسمية بديل في المحكمة العليا، وذلك بالمخالفة لوصية الراحلة التي أعربت فيها عن رفضها الشديد لمثل هذه الخطوة. وكتبت في بيان لحفيدتها “أمنيتي الأكثر حرارةً هي ألا يتم استبدالي حتى يتم تنصيب رئيس جديد“.
وأظهر استطلاع للرأي أجرته رويترز/ إبسوس بعد الإعلان عن وفاة جينسبيرج، أن غالبية الأمريكيين يريدون أن يسمي الرئيس الفائز في الانتخابات المقبلة خليفة لجينسبيرغ في المحكمة العليا. ويشير الاستطلاع الوطني، إلى أن العديد من الأمريكيين يعترضون على خطة دونالد ترامب للتأكيد “بسرعة كبيرة” على تعيين شخص آخر مدى الحياة وتثبيت أغلبية محافظة 6-3 في المحكمة لصالح الجمهوريين. وأظهر الاستطلاع أن 62٪ من الأمريكيين وافقوا على بقاء المنصب شاغرًا حتى إعلان الفائز في الانتخابات.
وبالتالي، تطرح وفاة قاضية المحكمة العليا والشخصية الملحمية في تاريخ القانون الأمريكي سؤالين رئيسيين: هل يستطيع الرئيس ترامب الفوز بتعيين خليفة لجينسبيرج قبل نهاية فترة ولايته؟ إذا كان الأمر كذلك، فمن سيكون؟
في غضون ساعات من وفاة روث بادر جينسبيرغ وجدت واشنطن نفسها تستعد لمعركة متوقعة وشرسة حول تعيين بديل في المحكمة العليا، والبلاد تقف على مسافة أسابيع من الانتخابات الرئاسية. ويتوقع في حال تسمية ترامب لبديل أن تتم المصادقة عليه بسرعة قياسية في مجلس الشيوخ الذي يهيمن عليه الجمهوريون، وذلك بهدف تأمين غالبية مريحة للمحافظين في المحكمة التي تملك الكلمة الفصل في عدد من القضايا المهمة التي ينقسم حولها الأمريكيون مثل الإجهاض واقتناء السلاح وعقوبة الإعدام. وقد وجد استطلاع للرأي أجراه مركز بيو في يوليو 2016 أن 70٪ من مؤيدي ترامب قالوا إن التعيينات في المحكمة العليا كانت “مهمة للغاية” بالنسبة لهم مقارنة بـ 62٪ من مؤيدي هيلاري كلينتون.
إذا عين ترامب قاضيا بديلا فسوف ينقل ذلك التوازن الأيديولوجي للمحكمة نقلة حادة إلى اليمين. وقرارات المحكمة حول حق الإجهاض والهجرة وسلطة الرئيس التي اعتز بها الليبراليون سابقا والتي حسمت بهامش ضيق ستتحول إلى نصر للمحافظين. وقد تصبح نتيجة التصويت على قضايا الرعاية الصحية وتبني الأطفال في عائلة من نفس الجنس، وكذلك قانون السلاح وحقوق الانتخاب والحرية الدينية مختلفة بوجود أغلبية 6-3 لصالح الجمهوريين.
لطالما وَصف ترامب التحول المحافظ في المحكمة العليا بأنه مشروع سياسي مهم يتعلق بقضايا مهمة تُعتبر عاطفية للغاية بالنسبة إلى المحافظين اليمينيين. وسبق أن عيّن ترامب قاضيين منذ توليه منصبه، ووصف في تغريدة تسمية قضاة لهذه المحكمة بأنه “القرار الأهم” الذي ينتخب من أجله رئيس. وقال إن تسمية قاضٍ بديل لجينسبورج “واجب علينا المضي به دون تأخير”.
مأزق دستوري
بموجب الدستور الأمريكي، تعيين القضاة في الولايات المتحدة هو مسألة سياسية، ما يعني أن الرئيس يمكنه اختيار من يتم طرحه. ثم يصوت مجلس الشيوخ لتأكيد أو رفض الاختيار. وأبلغ رئيس مجلس الشيوخ الجمهوري “ميتش ماكونيل” أنه سيجري عملية تصويت، على الرغم من أنه رفض عام 2016 تنظيم جلسة استماع إلى قاض اختاره الرئيس باراك أوباما لملء منصب شاغر في محكمة العدل العليا عام 2016 لمدة عام كامل حتى جاء ترامب وعيّنه عام 2017 بحجة أنه كان عامًا انتخابيًا.
وبرر ماكونيل هذه الخطوة قائلًا إنه ليس هناك أي تناقض في موقفه بين دعوته لتأجيل تسمية قاض بديل في 2016 لما بعد الانتخابات ودعوته الآن الى عدم الانتظار حتى انتخاب رئيس جديد، موضحًا أنه منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر لم يؤيد أي مجلس شيوخ تعيين مرشح للمحكمة العليا من قبل رئيس ينتمي لحزب لا يملك الغالبية بمجلس الشيوخ في عام انتخابي، وهذا ما جرى في 2016، لكن الوضع مختلف اليوم؛ إذ إن الرئيس ينتمي إلى حزب يملك غالبية المجلس. وأضاف ماكونيل أن الجمهوريين “تعهدوا بالعمل مع الرئيس ترامب ودعم أجندته، خاصة تعييناته المتميزة في القضاء الاتحادي”.
ونظرًا للتشكيل الحالي لمجلس الشيوخ (53 جمهوريًا و45 ديمقراطيًا واثنين من المستقلين يدعمون في معظم الأحيان الديمقراطيين)، لا يملك حزب الأقلية سلطة إيقاف الرئيس وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ عن تعيين بديل لجينسبرج. وإن كان الجمهوريون يملكون غالبية 53 مقعدًا من أصل مائة في مجلس الشيوخ، فإن بعض الجمهوريين المعتدلين الذين يواجهون حملات صعبة لإعادة انتخابهم قد لا يشاركون في التصويت. وأيد اثنان من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، وهما ليزا موركوفسكي وسوزان كولينز تأجيل التصويت إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في نوفمبر القادم. وإذا انضم إليهما عضوان جمهوريان آخران في مجلس الشيوخ، فيمكنهم منع أو على الأقل تأخير التصويت، حيث يتمتع الجمهوريون بأغلبية ستة فقط في مجلس الشيوخ. وفي حالة تعادل الأصوات، يسمح دستور الولايات المتحدة لنائب الرئيس مايك بنس بالإدلاء بصوت ترجيحي.
في المقابل، يملك الديمقراطيون أدوات إجرائية لتأخير عملية التعيين. فبموجب قواعد مجلس الشيوخ، يحق لحزب المعارضة تأجيل التصويت في اللجنة القضائية لمدة أسبوع؛ وله الحق في الإصرار على ما لا يقل عن ثلاثين ساعة من النقاش في قاعة مجلس الشيوخ قبل الانتقال النهائي للتصويت. وبالتالي قد يواجه ترامب أزمة في تعيين قاض في المحكمة العليا خلفًا لجينسبيرج حيث عادة ما يستغرق الأمر عدة أشهر لفحص وعقد جلسات استماع لمرشح المحكمة العليا.
سجال يشعل السباق الانتخابي
على وقع تزايد الانقسامات مع اقتراب موعد الانتخابات، فمن شأن بدء السجال حول تعيين خليفة لجينسبورج أن يؤدي إلى تغيير مسار الحملة الانتخابية التي تهيمن عليها حالياً الجائحة وتداعياتها. وبالتالي فإن وفاة القاضية، والخلاف حول تعيين بديل لها قد يلعب دورًا مهمًا في الحملة الانتخابية لكلا المرشحين، لأنه قد يرفع مستوى غياب اليقين حول السباق الانتخابي المقبل على النحو التالي:
- محاولة كسب اليمين لصالح ترامب: إذا استطاع ترامب تعيين بديل للقاضية سيكون ذلك نجاحًا كبيرًا قبل فترة وجيزة من الانتخابات في ضوء سوء الإدارة والركود، لأن الجمهوريين سيجدون فرصة لإلغاء قانون الإجهاض وزواج المثليين لكسب أصوات اليمن. وحرصًا من الرئيس ترامب على حشد تأييد اليمين المتدين، فقد وضع قائمة أولية بمرشحين جميعهم قضاة محافظين معارضين لقانون للإجهاض ومؤيدين لحمل السلاح. ومن ثم فإن تعيين ترامب لشخصية أخرى في المحكمة العليا سيعطي المحافظين أغلبية 6 مقابل 3، مما يعني أن الأخذ برأي القضاة الليبراليين سيتطلب تأييد اثنين من المحافظين لهم.
وقد سبق وأن كسب ترامب في انتخابات 2016 أصوات اليمين، خصوصا الإيفانجيليين الذين رأوا الفرصة مواتية لتعديل القانون المتعلق بحق الإجهاض، مما منح ترامب امتيازًا في انتخابات كان يمكن أن يكون التنافس فيها حادًا. وبالتالي من المتوقع في الانتخابات الحالية تصويت اليمين لصالحه بهدف الحفاظ على مكاسب الجمهوريين في المحكمة العليا وتعزيز قبضتهم على مختلف القضايا.
- تعزيز مشاركة الشباب لصالح بايدن: أظهر استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث خلال شهر أغسطس الماضي أن الناخبين الديمقراطيين أكثر من الجمهوريين ينظرون إلى التعيينات في المحكمة العليا باعتبارها قضية مهمة. ويرون أن وفاة جينسبورج حدثًا جللًا قد يجرد حقوق ملايين الأمريكيين ويسوي أي نتيجة متنازع عليها في الانتخابات المقبلة لصالح دونالد ترامب. وتحظى جينسبيرج بشعبية واسعة في أوساط الشباب الذين شاهدوا أفلامًا ووثائقيات عنها، وعبروا عن قلقهم مع كل وعكة صحية ألمت بها، ويضعون صورها أو اسمها كوشم على جسدهم، وبالتالي سيعطي الشباب الأقل حماسة للمشاركة في الانتخابات أصواتهم لصالح جو بايدن لقطع الطريق أمام سيطرة الجمهوريين للحفاظ على إرث جينسبيرج.
من جهة أخرى، قال المرشح الديمقراطي في انتخابات الرئاسة الأمريكية جو بايدن إن تحرك الرئيس دونالد ترامب لتعيين بديل للقاضية جينسبيرج قبل الانتخابات الرئاسية يعد “إساءة استخدام للسلطة”. وحث الجمهوريين في مجلس الشيوخ على تأخير التصويت على الترشيح.
من الأبرز لخلافة جينسبيرج؟
قال الرئيس ترامب إنه سيعلن عن الشخصية التي يرشحها لخلافة القاضية الراحلة روث بادر جينسبورج في المحكمة العليا في نهاية الأسبوع الحالي، مشددًا أن على مجلس الشيوخ التصويت قبل الانتخابات الرئاسية المرتقبة. وقد وضع ترامب قائمة مكونة من أكثر من 40 محاميًا قد يفكر في ترشيحهم للمحكمة العليا. وتشمل القائمة قضاة فيدراليين حاليين ومسؤولين سابقين في إدارة ترامب وأعضاء جمهوريين في مجلس الشيوخ.
وقد سبق وأن أشاد ترامب بقاضيتين تعملان في محاكم الاستئناف الفيدرالية كخيارين ممكنين. والقاضيتان إيمي كوني باريت وباربارا لاجوا هما من المحافظين الذين سيقلبون ميزان المحكمة العليا لصالح الجمهوريين. وقال في تجمع انتخابي في فايتفيل بولاية نورث كارولينا “أعتقد أنه ينبغي أن تكون امرأة لأنني في الواقع أحب النساء أكثر من الرجال”.
وفيما يلي بعض المرشحين المحتملين لخلافة جينسبيرج
باربرا لاجوا: كوبية أمريكية من محكمة الاستئناف بالدائرة الحادية عشرة ومقرها أتلانتا. وكانت أول قاضية من أصل إسباني في المحكمة العليا في فلوريدا. وهي مدعية اتحادية سابقة.
آمي كوني باريت: عضو في محكمة الاستئناف بالدائرة السابعة ومقرها شيكاغو، وهي المفضلة لدى المحافظين الدينيين والمعروفة بآرائها المناهضة للإجهاض. وكانت باحثة قانونية في مدرسة نوتردام للقانون في إنديانا.
كيت كومرفورد تود: نائبة مستشار البيت الأبيض، لديها الكثير من الدعم داخل البيت الأبيض. عملت سابقًا في منصب نائب الرئيس الأول ورئيس المستشارين بمركز التقاضي التابع لغرفة التجارة الأمريكية.
ما هي أهمية المحكمة العليا؟
يخدم قضاة المحكمة العليا الأمريكية مدى الحياة أو حتى يختاروا التقاعد، وغالبًا ما تكون المحكمة العليا في الولايات المتحدة هي الجهة التي تفصل في القوانين المثيرة للجدل، والنزاعات بين الولايات والحكومة الفيدرالية، والاستئناف النهائي لوقف تنفيذ أحكام الإعدام.
وفي السنوات الأخيرة، وسعت المحكمة نطاق زواج المثليين ليشمل جميع الولايات الخمسين، وأيدت قرار فرض حظر سفر الذي اتخذه الرئيس ترامب، وأخرت خطة أمريكية لخفض انبعاثات الكربون. ويمكن لهذه المحكمة أن تقرر حتى الانتخابات الرئاسية. ففي عام 2000 أنهت المحكمة العليا إعادة فرز الأصوات في ولاية فلوريدا وعينت جورج دبليو بوش رئيسًا، ومن المتوقع أن تشهد الانتخابات المقبلة معارك عديدة حول التصويت بالبريد والتي من المرجح أن تكون أكثر انتخابات فوضوية.
من هي روث بادر جينسبورج؟
هي واحدة من أكثر النساء شعبية في الولايات المتحدة، تعرف بنضالها الحقوقي إلى جانب حقوق المرأة. وساهمت في تغيير قوانين تتضمن تمييزاً ضد النساء في الولايات المتحدة.
على مدى مسيرة قانونية لامعة امتدت لستة عقود، حصلت جينسبورج على مكانة لا مثيل لها كحقوقية في الولايات المتحدة، تحظى باحترام الليبراليين والمحافظين على حد سواء. ومجدها الأمريكيون الليبراليون على وجه الخصوص بسبب توجهاتها التقدمية في التصويت في أكثر القضايا الاجتماعية إثارة للانقسام والتي أحيلت إلى المحكمة العليا، من حقوق الإجهاض إلى زواج المثليين.
- ولدت جينسبورج لأبوين يهوديين مهاجرين في بروكلين، بمدينة نيويورك عام 1933، ودرست في كلية الحقوق في جامعة هارفارد، حيث كانت واحدة من تسع نساء فقط في فصل من حوالي 500 رجل.
- لم تتلق جينسبورج أي عرض عمل بعد التخرج، على الرغم من أنها احتلت المرتبة الأولى في فصلها. لكن جينسبورج استمرت في العمل في وظائف مختلفة في مهنة المحاماة طوال الستينيات وما بعدها.
- وفي عام 1972، شاركت جينسبورج في تأسيس مشروع حقوق المرأة في الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية. في العام نفسه، أصبحت أول أستاذة ثابتة في كلية الحقوق في جامعة كولومبيا.
- وفي عام 1980، تم ترشيح جينسبورج إلى محكمة استئناف الولايات المتحدة لمقاطعة كولومبيا كجزء من جهود الرئيس السابق جيمي كارتر لتنويع المحاكم الفيدرالية.
- وعلى الرغم من أن جينسبورج كانت تُصوَّر في كثير من الأحيان على أنها ليبرالية متشددة، إلا أن أيامها في محكمة الاستئناف اتسمت بالاعتدال.
- وعُيّنت جينسبورج في المحكمة العليا من قبل الرئيس السابق بيل كلينتون في عام 1993، لتصبح الثانية فقط من بين أربع قاضيات يتم قبولهن في المحكمة.
وقرب نهاية حياتها، أصبحت جينسبورج أيقونة وطنية. بسبب ذبول معارضيها جزئيًا، أطلق جيشها من المعجبين لقب “آر بي جي”. وبعد أن ذاع صيتها بسبب دورها في السنوات الأخيرة وتحوّلها إلى أيقونة في أنظار مناصريها، قالت:” أبلغ من العمر 84 عاماً، والجميع يريد أن يأخذ صورة إلى جانبي”. توفيت روث بادر جينسبورج عن عمر يناهز 87 عامًا بسبب مضاعفات سرطان البنكرياس النقيلي.