تركيا

سلوكيات أنقرة تعرقل التعاون بين الناتو والاتحاد الأوروبي وتهدد عضويتها في الحلف

كتبت: الشيماء عرفات

ينظر المراقبون إلى الوجود التركي داخل حلف الناتو وعلى حدود الاتحاد الأوربى أنه أصبح يمثل عبئًا كبيرًا؛ لما تثيره أنقرة من مشكلات وتخريب لكلا المنظومتين، خاصة وأن الصداع الذي تتسبب فيه تركيا ممتد وله جذور تاريخية، وهو ما يدعونا إلى تحليل هذا السلوك الذي ينتج عنه عرقلة كل جهود التعاون بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، إضافة إلى مدى إمكانية استمرار عضوية تركيا فى الحلف فى ضوء مواقفها الحالية. ولعل ما ستسفر عنه الأزمة الحالية بين تركيا من جانب واليونان وقبرص من جانب آخر ستحدد بصورة كبيرة مستقبل العلاقة بين الحلف والاتحاد، وكذلك دور تركيا وعلاقتها بكلا المنظومتين.

الناتو والاتحاد الأوروبي تاريخ مشترك

تأسس حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1949 للالتفاف على حق النقض (الفيتو) الخاص بالاتحاد السوفيتي بمجلس الأمن كحلف أمني معني بحماية الأمن الأوروبي بالأساس في وجه التمدد السوفيتي. يضم الحلف 30 دولة آخرها مقدونيا الشمالية المنضمة هذا العام، ويضم بين طياته 21 دولة عضوة في الاتحاد الأوروبي بعد انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي هذا العام، وقد انضمت كل من تركيا واليونان عام 1952. تُتخذ القرارات فيه بالإجماع، وتعد أصوله مساهمة من أعضائه بالأساس، فعند قيام الحلف بمهمة يُسلم أعضاء الحلف قوات ومعدات يتم وضعها تحت قيادة موحدة لحلف الناتو.

توافق الجانبان الأوروبي والأمريكي على أنه لتجنب الصراعات مرة أخرى بالقارة الأوروبية فإن الناتو سيركز على الجانب الدفاعي، فيما يركز الاتحاد الأوروبي على الجانب القانوني والتنظيمي للقارة. ولكن أتت سياسة التوسع شرقًا في التسعينيات المدفوعة برغبة الولايات المتحدة بالناتو، لتعزز رغبة الاتحاد الأوروبي لخلق سياسة دفاعية مشتركة تمثل مصالحه. على إثرها تم التأسيس لخروج سياسة دفاعية برعاية الناتو وبمباركته، وتجسد ذلك في اتباع نهج جديد للتعاون من خلال السياسة الأوروبية للأمن والدفاع (ESPD) – والتي أصبحت معروفة باسم السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة للاتحاد الأوروبي CSDP – التي حددت العلاقات بين الناتو والاتحاد الأوروبى كشراكة استراتيجية، والتي سمحت للاتحاد الأوروبى بالوصول إلى قدرات التخطيط لحلف الناتو.

وفي 16 ديسمبر 2002، تم التوقيع على ترتيبات “برلين بلس” التي عززت التعاون بين المنظمتين، مما سمح للعمليات التي يقودها الاتحاد الأوروبي بالاستفادة من أصول وقدرات الناتو في العمليات التي لا يكون الناتو منخرطًا فيها، كما أنها وفرت إطارًا رسميًا للمهام المشتركة بين الناتو والاتحاد الأوروبي. 

التخريب التركي

إن هذا الترتيب التشاركي نجح في تنفيذ عمليتين فقط حتى عام 2004. وهنا ظهر الإفشال التركي لتلك الترتيبات التعاونية. ففي هذا العام أصبحت قبرص عضوًا بالاتحاد الأوروبي، ونتيجة لذلك عرقلت تركيا ترتيبات “برلين بلس”، ولم تتوقف عند هذا الحد بل استمرت في عرقلة التعاون بأشكال وصور مختلفة.

ترجع تلك العرقلة بشكل رئيس بسبب العضوية غير المتكافئة لتركيا (عضو في منظمة حلف شمال الأطلسي وليس في الاتحاد الأوروبي) وقبرص (عضو في الاتحاد الأوروبي وليس في منظمة حلف شمال الأطلسي) وحق النقض “الفيتو” (بداخل CSDP وحلف شمال الأطلسي)، ويعد ذلك من أبرز العوامل التي ساهمت في التعاون المحدود بين مؤسستي الاتحاد الأوروبي والناتو. 

فبسبب حق النقض التركي حظرت تركيا تبادل معلومات المخابرات الخاصة بحلف شمال الأطلسي إلى الاتحاد الأوروبي، وأفشلت محاولات محدودة لتعزيز المشاركة الرسمية أو غير الرسمية لقبرص في أي من الترتيبات التعاونية بين الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وهو ما ردت عليه قبرص بوضع عقبات أمام المشاركة أو التشاور في مهام (CSDP)، ومنعت قبرص وجود ترتيبات تعاونية لتركيا في وكالة الدفاع الأوروبية (EDA) ورفض الاتحاد الأوروبي التوقيع على اتفاق مع تركيا بشأن تبادل المعلومات السرية.

تهديد وحدة الناتو

تشكيل حلف الناتو كان من أجل الحفاظ على أمن دوله، وما يحفظ حرية شعوبه المبنية على مبادئ الديمقراطية وسيادة القانون، والسعي إلى تعزيز الاستقرار والرفاهية لدوله المشاركة. إلا أن تركيا أصبحت عضوًا يخترق مبادئ الحلف ويهدد سلامة العديد من دول الحلف وخاصة الدول الأوروبية، والتي ظهر في تصرفات عديدة منها: 

عدم اكتفائها تركيا بالعرقلة التنظيمية للتعاون بين الاتحاد والناتو فيما يخص قبرص، بل امتدت عرقلتها إلى استخدامها لحق النقض التركي في منع شراكات هامة أمنيًا للناتو مع دول مثل إسرائيل وأرمينيا ومصر والإمارات العربية المتحدة.

وكذلك عرقلتها لعدة أشهر خطة الناتو للدفاع عن بولندا ودول البلطيق، والتي تقع جميعها على حدود روسيا. إذ أرادت تركيا أن يُدرج الناتو الجماعات الكردية المسلحة المختلفة على أنها جماعات إرهابية. تلك الجماعات التي حارب بعضها ضد تنظيمي داعش والقاعدة في سوريا والعراق. وبالرغم من أنه افتراضيًا تم التوصل إلى اتفاق في اجتماع قمة الناتو الأخير في ديسمبر بلندن، لكن تركيا خلقت تعقيدات بيروقراطية، ولم تلين تركيا إلا في أواخر يونيو.

بالإضافة لشرائها لمنظومة S-400 الروسية ضد رغبة الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، وتدخلاتها العسكرية أحادية الجانب في سوريا ضد القوات الكردية، وتدخلاتها العسكرية المتكررة في شمال العراق، وانتهاكاتها لعقوبات إيران (وربما فنزويلا)، واستمرارها في التحليق في المجال الجوي اليوناني. وموقفها الأخير من منع السفينة البحرية الفرنسية “لو كوربيه” التي تعمل في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​في إطار عملية الحارس البحري التابعة للناتو من تفتيش سفن تابعة لها، التي على إثرها انسحبت فرنسا من مهمة الحارس البحري التي تم إطلاقها منذ عام 2016.

وتأتى مواقفها المخربة تجاه العديد من دول الاتحاد الأوروبي كمسمم للعلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي والناتو الذي لا يستطيع توحيد مواقفه تجاه تركيا باعتبارها عضوًا بداخله. بسبب استخدامها المتكرر لسلاح اللاجئين وتهديدها لحدود الاتحاد البرية وكذلك البحرية عن طريق عمليات التنقيب غير المشروعة في البحر المتوسط في المناطق التابعة لليونان وقبرص، بالإضافة لجهوده لمنع اندماج الأقليات التركية التي تعيش في أوروبا بما يجعلهم في مسار تصادمي مع آراء الحكومات والمجتمعات الأوروبية.  ودعمه لجماعات معادية لعدد من قيم تلك الدول كعدائها للسامية بداخل تلك المجتمعات كجمعية ميلي جوروس الناشطة في عدد من الدول أبرزهم ألمانيا، والتي تأسست في أواخر الستينيات من قبل نجم الدين أربكان، المرشد السياسي لأردوغان. وأخيرًا إجرائها لعمليات استخباراتية عدوانية ضد الأكراد والمنشقين الأتراك.

مستقبل عضوية تركيا بالناتو

من الناحية القانونية، بعكس وجود مواد واضحة بلوائح المنظمات الدولية كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي توضح ما يلزم لتعليق حقوق الدولة العضو وإنهاء عضويتها، فإن معاهدة حلف شمال الأطلسي لا يوجد بها مواد تنص على تعليق حقوق الدولة العضو، ناهيك عن طردها، وفقًا لما وضحه أستاذ القانون الدولي العام بجامعة إكستر “أورويل ساري”. 

إلا أنه أكد في موضع آخر أن هذا لا يمنع الاتحاد خلف تعليق حقوق العضو المادية، ولكن هذا لن يتم إلا بموقف موحد من كافة الدول الأعضاء بالحلف، وإلا سيترك حينها لكل دولة بشكل فردى اتخاذ المواقف الهادفة لتحييد العضو، كتقليل التعاون ووضع عقوبات وخلافه.

هذا الاجماع يعد مستبعدًا في الوقت الحالي. ففي الاجتماع التي طلبته فرنسا لاتخاذ موقف من تركيا بعد تحرش زوارقها بالسفينة “لو كوربيه” أيد الموقف الفرنسي 10 أعضاء فقط هم (بلجيكا وألمانيا واليونان وإيطاليا ولوكسمبورغ والبرتغال وسلوفاكيا وسلوفينيا وإسبانيا والمملكة المتحدة)، ولم توافق أي من الجناح الشرقي للحلف (باستثناء سلوفاكيا) أو دول الشمال الأوروبي بالرغم من معاناتها من عرقلة تركيا لخطط الدفاع عنها وهو ما قد يكون السبب وراء صمتها كذلك.

في الختام، بالرغم من أن تركيا أصبحت عضوًا يمثل خطرًا كبيرًا على سلامة الدول الأعضاء التي يفترض أنها دول حليفة لها إلا أنه يصعُب كما سبق الذكر اتخاذ موقف موحد ضد تحركاتها. فالإجماع التاريخي التي تأسس عليه الحلف، تغير اليوم في ضوء رئاسة أمريكية أضرت بمصداقية الولايات المتحدة كضامن للسلوك اللائق داخل المنظمة، وأثارت الشكوك حول التزام واشنطن بالعمل في حالة وقوع هجوم على عضو في الناتو، وحقيقة أخرى وهي أن التهديد الروسي لم يعد يُنظر إليه بنفس الحدة من قبل جميع أعضاء الناتو، ما انعكس على المواقف المتباينة داخل كل من الاتحاد الأوروبي والناتو تجاه التهديد الروسي، الذي كان يومًا العامل الرئيس في تكوين الحلف.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى