أفريقيا

قراءة في مشهد الاستعراض العسكري للتيجراي وهل يمكن استعادة التحالف القديم مع إريتريا؟

مشهد جديد استعرضت فيه قومية التيجراي والتي تمثل 6,1% من الكتلة السكانية الإثيوبية والتي ظلت تسيطر على المناصب القيادية في البلاد قوتها العسكرية ردًا على مطالبة مجلس الاتحاد الإثيوبي في رسالته لإقليم تيجراي بوقف التحرك لإجراء انتخابات في المنطقة، باعتبارها انتهاك لدستور البلاد،  والتلويح بأن الدستور الإثيوبي يتضمن استخدام القوة حال تهديد الحياة الدستورية الإثيوبية، الدستور وضعته قومية التيجراي بذاتها من قبل، كما ورد في الرسالة أنه تم تأجيل الانتخابات العامة السادسة بناءً على توصية من لجنة التحقيق الدستوري بعد أن أعلن المجلس الانتخابي الوطني الإثيوبي (NEBE) أنه لا يمكنه إجراء انتخابات بسبب وضع فيروس كورونا. 

وهذه ليست نقطة الخلاف الأولى التي أولاها إقليم التيجراي ذو الحكم شبه الذاتي من خلال وضع دستور يضمن له الانفصال والاستمرار في الحكم حال خروجه من الائتلاف الحاكم، وهو ما يسعى إليه منذ خلافاته الأولى مع السياسات التي انتهجها آبي أحمد منذ توليه رئاسة وزراء البلاد في أبريل 2018 خلفًا لرئيس الوزراء هايلي مريام ديسالين، والتي أعقبها توقيع اتفاقية بين إثيوبيا وإريتريا أعادت للمشهد اتفاقية الجزائر لتقسيم الحدود مما أشعل النار في هشيم الإقليم أكثر، فما هي دلالات هذا التصعيد وسيناريو الاستمرار في إجراء الانتخابات رغم رفض الحكومة الفيدرالية في ظل الخلاف المشتعل بين التيجراي وآبي أحمد.

خلافات آبي أحمد والتيجراي بين تمديد فترات حكمه وسلب سلطات التيجراي

جاء آبي أحمد إلى سدة الحكم على خلفية احتجاجات قومية الأورومو التي جاءت بها على رأس الحكم لأول مرة منذ سيطرة الائتلاف الحاكم “الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية”، والتي تسيطر عليها أقلية التيجراي منذ ما يقرب من الثلاثين عامًا، وذلك خلفًا لرئيس الوزراء هايلي مريام ديسالين، والذي تولى منصبه عقب وفاة رئيس الوزراء (1995 -2012) والرئيس الأسبق (1991 – 1995) لإثيوبيا ميلس زيناوي والمنتمي لجبهة تحرير شعب تيجراي، وضعت الجبهة خلال تلك الفترة دستورًا انفصاليًا عرقيًا عام 1994 يسمح لها بالانفصال والحكم الذاتي حال الانقلاب على الائتلاف الحاكم.

ومنذ اليوم الأول الذي أعلن فيه آبي أحمد عن سياساته الإصلاحية وكانت في ظاهرها الرحمة وفي باطنها خروج قومية التيجراي من المناصب العليا في البلاد، حيث اعتبرها البعض محاولة لتجريد التيجراي من قوتها تدريجيًا، وبالتالي ظهرت المقاومة الداخلية من قومية التيجراي فيما نسب إليهم من محاولة التفجير الذي شهدته أديس أبابا في يونيو 2018 خلال كلمة آبي أحمد أمام الحشود، وربط المحللون آنذاك الأمر بهم، ولكن ما لبث أن كشفت عن محاولات آبي أحمد المنتمي لقومية الأورومو، والتي انتقدته هي الأخرى، من تجريدها قوتها تدريجيًا، والتي تراكمت على مدار عقدين، وهو ما ظهر جليًا في إقالة العديد من أصحاب المناصب العليا في الجيش الإثيوبي. 

أجرى آبي أحمد تعديلات للحد من نفوذ التيجراي لاستئثارهم بأهم المناصب، والتي أثارت تخوفه وهو الراغب في الحكم الأوحد للدولة الإثيوبية، واستطاع آبي أن ينتزع قرارًا من مجلس النواب الإثيوبي مسبقًا على مشروع قانون لإصلاح وإعادة هيكلة الجيش، ويتضمن مشروع القانون تعديل 8 مواد من إعلان تأسيس قوات الدفاع الإثيوبية والذي يهدف إلى إعادة تخفيض عدد القيادات المركزية للجيش في البلاد، من خلال تقليص عدد القيادات الإقليمية من 6 قيادات إلى 4.

وأعلن رئيس الوزراء الإثيوبي عن حزمة تغييرات شملت قادة أركان الجيش والأمن والمخابرات، فقد قام بتعيين “سيري مكونن” خلفًا لرئيس أركان الجيش الجنرال “سامورا يونس” الذي أحاله للتقاعد، والذي بدوره لعب دورًا منذ فجر الثورة الأولى لجبهة تحرير شعب تيجراي التي بدأت نضالها ضد الحكم العسكري في منتصف الستينيات من القرن الماضي. 

كما تمت إقالة ” جيتاتشوا أسفا” مدير عام الأمن والمخابرات والمنحدر من قومية تيجراي، وتعيين الجنرال “آدم محمد” خلفًا له، وعقب 5 شهور من التحقيقات أصدرت الحكومة الفيدرالية قرارًا بتوقيفه وتم تسميته إعلاميًا “الرجل الغامض”، ووصفت الحكومة الفيدرالية جبهة تحرير شعب التيجراي بأنها غير متعاونة لتسليمه إياها، وجاء اسم جيتاتشو ضمن أسماء قيادات اللجنة التنفيذية لحزب جبهة تحرير تجراي، وذلك عقب انتخابات داخلية تم عقدها خلال العام الثاني عشر للجبهة، ورجعت خطورة جيتاتشو بالنسبة لحكومة آبي أحمد لقوته ومهابته الشخصية لدرجة أن بعض المسؤولين في دول الجوار كانوا يعتقدون أنه الحاكم الفعلي في البلاد. 

وعقب محاولة الانقلاب الفاشل التي تعرض فيها “سيري مكونن”، وضابط متقاعد لإطلاق نار من الحارس الشخصي لسيري في مقر سكنه بالعاصمة أديس أبابا، والتي اتهم فيها “أسامنيو تسيجي ” أحد المعتقلين التي أفرج عنهم آبي أحمد ضمن سياساته الإصلاحية،  وهجوم مجموعة من الجيش باقتحام مكتب آبي أحمد في العام التالي لتوليه الحكم، قام آبي أحمد بالإعلان عن توقيف 63 من كبار المسؤولين في جهاز الأمن والمخابرات بينهم 27 جنرالا بالجيش، للاشتباه في ارتكابهم “انتهاكات” لحقوق الإنسان ووقائع فساد والضلوع في “محاولة الاغتيال” لآبي أحمد بأديس أبابا، وأصدر قرارًا بتأسيس فرع للقوات الخاصة المنشقة يحمل اسم “الحرس الجمهوري”، في محاولة لخلق بديل قوي داعم لسياسته وتوجهاته.

وهو ما يوضح السياسة الإصلاحية القائمة على تقليص الأقلية الأكثر تأثيرًا وخلق جبهات لتعميق النزاعات الداخلية على السلطة بدلًا من إفشاء السلام والوحدة بحسب ادعاءاته. 

التيجراي والتحالفات ضد السلام مع إريتريا وإقامة “إقليم تيجراي الكبير”

شهد توقيع اتفاقية السلام الإثيوبية مع إريتريا رفضًا من قومية التيجراي، والذي أعاد فكرة تنفيذ اتفاقية الجزائر لترسيم الحدود الموقعة عام 2000، لإنهاء الحرب الحدودية الدامية بين إريتريا وإثيوبيا (1998-2000) والتي تمثل منعطفا دراماتيكيًا بين الجبهتين من تحالف استراتيجي امتد لما يقارب ربع قرن (1974-1991) أنهى السيطرة العسكرية في إثيوبيًا، إلى عداوة سعى فيها كل طرف إلى تقويض حكم الآخر على مدى 20 عامًا.

وكان الجانبان الإثيوبي والإريتري قد وقعا على اتفاقية الجزائر، إلا أن ميلس زيناوي لم يستكمل بنود الاتفاقية بإنشاء لجنة لترسيم الحدود بين البلدين، والتي كانت تقتضي بتسليم قرية بادمي إلى الجانب الإريتري، مما سيفقد إقليم التيجراي بعض من أراضيه.

خاصة في ظل سعي جبهة تحرير التيجراي, والتي يطلق عليها “وياني تيجراي” وتعنى المعارض في تشكيل “إقليم تيجراي الكبرى”، والتي وصفها الكاتب الأمريكي “ماثيو ماكراكن” في مقاله عام 2004 أوضح سبب رفض التيجراي لقرار ترسيم الحدود، واستمرار النزاعات مع الجارة الإريترية، كما جاء في بيان صاغته جبهة تيجراي بعنوان “جمهورية تيجراي الكبرى” منذ عام 1976، والذي يوضح الخطة المفصلة للتحرير وتتضمن نقطتين هامين، هما “إعادة توسيع حدود منطقة تيجراي في الداخل، الحصول على الأراضي الساحلية على منفذ البحر الأحمر داخل إريتريا وتحقيق الانفصال الذي دعمه الدستور الانفصالي الذي صاغته الجبهة فيما بعد، والذي ظهر في السيطرة على الأراضي الخصبة في إقليم ” ولو ” الجنوبي وتوسعت في الغرب نحو إقليم ” والقايت ” وفي الشمال في “القاش” في إقليم “بادمي” الإريتري.

وهو ما يفسر رفض الجبهة ترسيم الحدود مع إريتريا والتي صاغها الاتفاق النهائي بين رئيس الوزراء آبي أحمد ورئيس الإريتري أسياس أفورقي، حصل على إثرها الأول على جائزة نوبل للسلام، فيما وصفه المراقبون بأنه “اتفاق هش” لعدم تحقيقه حتى الآن على أرض الواقع نتيجة رفض التيجراي تسليم إقليم “بادمي” المتنازع عليه. 

وأوضحت وكالة “الأنباء الإريترية” أن “مسفن حقوص” المعارض الإريتري الأبرز وأحد القادة العسكريين والسياسيين لتنظيم الجبهة الشعبية، أوضح أن حكم التيجراي لإريتريا أفضل من حكم أفورقي، وكان هناك حديث إعلامي حول الزيارات التي وصفها بأنها معلنة لجبهة تحرير التيجراي، مما يشير لتعاون جديد بين الجبهة والمعارضة الإريترية التي قد تعمق من تواتر الأزمة الحدودية التي ستعيق عملية السلام الهشة.

كما أن هناك مؤشرات على أن هذا التصعيد مرتبط بالخطة التي وضعتها تيجراي للمرحلة القادمة والتي تقوم على تكوين معارضة بديلة في حال اتخاذ الأمور منحى يقود لانفصال التيجراي بالتعاون مع المعارضة الإريترية التي دلل عليها وجود قادة المعارضة في “مقلي” عاصمة الإقليم. 

كما ظهر موقف التيجراي من الاتفاقية جليًا في اعتراض قوى من جيش تيجراي في يناير الماضي وصول رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد للحدود الإثيوبية الإريترية، والتي عرقلت مساره لمدينة الأحمرا المتنازعة مع قومية التيجراي حول التبعية للقومية في حين يرغب سكان المدينة بالتحرر من تبعية تيجراي، لفتح الحدود البرية بين البلدين. 

التلويح العسكري وسط مخاوف إجراء الانتخابات في إقليم تيجراي:

وعلى ذكر التنظيمات العسكرية، فإنها لم تكن التلويح الأول والأخير لقومية التيجراي، بل تميز خطاب “ديبرصيون جبريميكيل”، رئيس جبهة تحرير التيجراي في الذكرى 45 لتأسيس جبهته بالاحتفالات التي تميزت بعسكرة واضحة وغاب عنها الفيدراليون، وهدد بانفصال الإقليم عن إثيوبيا. 

كما جاء رد الجبهة على رسالة هيئة المجلس الانتخابي الوطني الإثيوبي بمنع حكومة التيجراي من إجراء الانتخابات في الإقليم بمعزل عن الانتخابات العامة في البلاد والتي تم تأجيلها، والتي وصفتها الجبهة بأن التأجيل جاء لتمديد حكومة آبي أحمد لمدة من 9 إلى 12 شهرًا، واعتبرته أمرًا غير دستوريًا في تزايد انتهاك آبي للدستور الذي سيمدد الحكم للمؤسسات الحاكمة تلك المدة، والتي من المقرر الانتهاء لصلاحيتها الدستورية في أكتوبر المقبل.

وطلبت الجبهة إجراء حوار معلن بين المعارضة والحكومة للوقوف على الحل الأمثل للأزمة الدستورية التي نتجت من تأجيل الانتخابات بعد اختيار بديل التفسير الدستوري لحزب “الازدهار” الموحد الذي دشنه آبي أحمد من الائتلاف الحاكم وأدى لانسحاب جبهة تحرير التيجراي منه.

واعتبار الجبهة وجود الائتلاف في الحكم غير دستوري خلق مزيدًا من الانقسامات والتهديدات بانفصال الإقليم وسط هذه السيطرة من الحزب الحاكم الذي يحاول تقويض المعارضة من خلال حملة الاعتقالات الممنهجة لقادة المعارضة وأخيرًا اتهامات الجبهة بجانب جبهة تحرير الأورومو في التورط في قضية مقتل المطرب الإثيوبي الأورومي “هاشالو هونديسا”، في محاولة لعكس جبهة المعارضة الداخلية من مواجهة حكومة آبي أحمد على خلفية تأجيل الانتخابات إلى نزاعات داخلية. 

وتمثل الرد كذلك في قيام الدولة الإقليمية بعرض عسكري ضخم في شوارع ميكيلي مقر الدولة الإقليمية في مسيرات إلى استاد المدينة. وشاركت القوات الخاصة والميليشيات في المنطقة في عرض الأسلحة الخفيفة والثقيلة، وازدحم عشرات الآلاف في الملعب على الرغم من تصاعد أعداد الإصابة بفيروس Covid-19 في المنطقة.

وهو ما يتناقض مع تصريحات جبهة تحرير شعب التيجراي ما أسمته بالمزاعم حول أن هذه الاستعراضات ما هي إلا محاولة لإظهار القوى العسكرية، بينما هي مسيرات تهدف إلى تعزيز وعي الجمهور بشأن جائحة فيروس كورونا.

فيما وصف المحللون أن هذا الاستعراض العسكري جاء ردًا على تصريحات بإمكانية مواجهة الحكومة الفيدرالية عسكريًا ضد السلوك الذي من شأنه أن يهدد دستور البلاد، وهو ما يمثله طلب مجلس إقليم تجراي لإجراء انتخابات في الإقليم، بينما رفضته هيئة مجلس الانتخابات لكونه غير دستوري لأنه قد تم تأجيل الانتخابات العامة في جميع أنحاء البلاد بسبب جائحة كورونا وصادق عليها المجلس الفيدرالي الذي يمثل أعلى هيئة فيدرالية دستورية في يونيو الماضي.

كما قد حذر مجلس الاتحاد الإثيوبي من اتخاذ إجراءات قانونية إذا قامت المنطقة بقيادة جبهة تحرير شعب تيجراي بإجراء انتخابات منفصلة وسط إصرارها على ذلك، وإمكانية ايقاف مجلس الاتحاد الميزانية الفيدرالية لتيجراي إذا رفض الحزب الحاكم TPLF قراراته بتمديد الانتخابات، وصرحت حكومة تيجراي بأنها واجهت ضغوطًا من كل من الحكومة الفيدرالية والقوى الخارجية بما في ذلك من إريتريا المجاورة بعد أن قررت إجراء انتخابات إقليمية هذا الشهر.

فيما أرسلت الحكومة المركزية بقيادة رئيس الوزراء آبي أحمد رسائل متضاربة حول قضية تيجراي في الأشهر القليلة الماضية، مفاداها اتخاذ إجراءات غير محددة مقابل استبعاد القيام بعمل عسكري ضد الجبهة.  وهو ما يعد تصعيدًا ومؤشرًا خطيرًا للخلاف وحالة الشد والجذب بين جبهة تحرير تجراي والحكومة الفيدرالية بقيادة حزب “الازدهار” الموحد برئاسة رئيس الوزراء آبي أحمد.

فتشير الدلائل أن هناك تحالفات مقبلة ليس فقط بين الأحزاب المعارضة في مواجهة الحزب الموحد؛ بينما ستعود العلاقات الجيدة بين جبهة تحرير تيجراي والمعارضة الإريترية نتيجة وحدوية الهدف، وهي تعديل السلطة الحاكمة في إثيوبيا كما كان التحالف مسبقًا قبل النزاع الحدودي الدامي بين البلدين، خاصة في ظل إحياء الهدف القديم القائم على تكوين “إقليم التيجراي الكبير” والتي لا ترى المعارضة الإريترية مانعًا من أن تكون تحت حكم التيجراي، وإمكانية استعادة التحالف القديم،  في ظل دستور انفصالي يدعم الحكم الذاتي، ودولة إثيوبية مقسمة من الداخل تواجه مزيد من النزاعات العرقية ومحاولات آبي أحمد السيطرة على المعارضة من خلال اتهامات بإثارة الاضطرابات والتي ظهرت في قوميتي الأورومو والتيجراي الأكثر تأثيرًا في المشهد الانتخابي الحالي؛ ليضمن لنفسه تواجد أطول في سدة الحكم.

غير أن تصاعد العنف قد ينتج عنه انقلاب جديد على السلطة الحاكمة وسط شتات إثيوبي كبير في الخارج يضغط على المؤسسات الدولية لتغيير دعم حكومة آبي أحمد من ناحية، وجماعات شبابية تزيد من ارتكاب أعمال العنف للضغط على الحكومة الفيدرالية لإيجاد مكان لها في السلطة، فأصبح النزاع الداخلي قائم على الوصول إلى سدة الحكم وليس من أجل الوحدة والتنمية كما تروج الحكومة الإثيوبية. 

+ posts

باحثة بالمرصد المصري

رحمة حسن

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى