
إثيوبيا تراوغ.. مناورة تضر بموقفها في المفاوضات
تسببت تصريحات وزير المياه الإثيوبي “سيليشي بيكيلي” حول بدء بلاده رسمياً في الملء الأولي للسد في حالة من الاستنكار عند الجانبين المصري والسوداني، وبعد أقل من ساعة واحدة تراجع عن تصريحاته قائلاً إن الصور التي تم التقاطها تظهر أن الأمطار الغزيرة تسببت في تجمع المياه خلف السد بشكل طبيعي. ويبدو أن الوزير الإثيوبي كان يمارس هواية المسئولين في بلاده التي تتمثل في المناورة والمماطلة طوال الوقت، ولكنه لم يدرك أن السحر سينقلب على الساحر ويضر بموقف بلاده في المفاوضات التي لم تصل إلى نهايتها بعد، حيث أن الدول الثلاث ملتزمة أمام الاتحاد الإفريقي ومجلس الأمن بعدم اتخاذ أي خطوات أحادية.
ملء السد دون اتفاق .. قرار استبعده الخبراء
أظهرت الصور التي التقطها القمر الصناعي “سنتينل-1” التابع لوكالة الفضاء الأوروبية في التاسع من يوليو الجاري أن المياه تتجمع خلف السد الإثيوبي، ولكن أحد المحللين رجّح أن يكون هذا التجمع المائي بسبب الأمطار الغزيرة هناك وليس إجراءً حكومياً، وهو ما أكد عليه ويليام دافينسون المحلل بمجموعة الأزمات الدولية. وبرهن على رأيه بقوله إن الحكومة الإثيوبية لم يصدر عنها إعلان رسمي بامتلاكها قطع البناء اللازمة لسد جميع منافذ المياه والبدء في حجز المياه.
وقد يرجع استبعاد المحلل بمجموعة الأزمات الدولية لاحتمالية أن تكون إثيوبيا قد بدأت في ملء السد إلى التزام إثيوبيا بعدم اتخاذ قرار أحادي بشأن ملء السد أو تشغيله في ظل استمرار المفاوضات وتعهدات الدول الثلاث أمام الاتحاد الإفريقي الذي تصدر لرعاية الجولة الأخيرة من المفاوضات. وبالإضافة إلى دافينسون، فقد استبعد الدكتور “عباس شراقي” أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بكلية الدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة أن تعلن إثيوبيا البدء في ملء السد قبل سبتمبر المقبل، أو التوصل إلى اتفاق.

وأوضح خبير المياه المصري أن وجهة نظره تتمثل في أن منسوب المياه سيزداد إلى 565م بنهاية يوليو لتصل كمية المياه المجمعة خلف السد إلى خمسة مليارات متر مكعب، ثم تمر الزيادة من أعلى الممر الأوسط للسد مع الفتحات الأربعة، لتظل هذه البحيرة المؤقتة إلى أن تنخفض مية الأمطار وينخفض معها منسوب البحيرة. بذلك، تكون المياه خلف السد هي تجمع طبيعي وتخزين في نفس الوقت، فإذا ما تم الاتفاق، يتم غلق البوابات لحجز الخمسة مليارات متر مكعب، وإذا لم يتم فتضطر إثيوبيا إلى ترك البوابات مفتوحة وتنصرف المياه.
وبذلك يتفق الخبراء داخل مصر وخارجها على أن قرار إثيوبيا بالبدء في ملء السد دون اتفاق هو قرار مستبعد تماماً، ولكن الإثيوبيين كان لهم رأي آخر.
مناورات المسئولين الإثيوبيين تنفي مبدأ حسن النوايا
لم يعد غريباً على القارئ في هذه القضية أن تتنصل الحكومة الإثيوبية من التزاماتها، ففي كل جولة من جولات التفاوض، تظهر إثيوبيا تعصباً لوجهة النظر الإثيوبية حول ملء وتشغيل السد، ولا تبدي مرونة في الاستماع لوجهة النظر المصرية أو تحاول فهم مخاوف المسئولين المصريين مما قد يسببه السد من آثار سلبية على قطاعات مياه الشرب والزراعة والطاقة. وأوضح مثال على التعنت الإثيوبي كان في مفاوضات واشنطن، حيث اتفقت الدول الثلاث على البنود محل الخلاف برعاية البنك الدولي والولايات المتحدة الأمريكية، وعند التوقيع على الاتفاق، انسحب الوفد الإثيوبي متهماً الولايات المتحدة بالانحياز لمصر على حساب المصالح الإثيوبية.
وبعد الانسحاب من مفاوضات واشنطن، تناوب المسؤولون الإثيوبيون في التأكيد على بدء الملء في موسم الأمطار الذي يبدأ في يوليو. وعلى الرغم من انعقاد جلسة للاتحاد الإفريقي بحضور الرئيس المصري ورئيسي وزراء إثيوبيا والسودان، ثم جلسة لمجلس الأمن، والتأكيد على عدم إقدام أي دولة من الدول الثلاث على اتخاذ أي خطوات أحادية تضر بمسار المفاوضات، إلا أن المتحدث باسم مجلس الوزراء الإثيوبي أكد على بدء الملء في يوليو.
ومع تصدر الاتحاد الإفريقي برئاسة جنوب إفريقيا للمشهد برعايته للمفاوضات الفنية والقانونية بين الدول الثلاث لمدة أحد عشر يوماً متواصلة، ظلت الحكومة الإثيوبية ملتزمة الصمت على عكس مصر التي أكدت على عدم حدوث تقدم في المفاوضات، والسودان الذي أعلن على تمسكه بالاتفاقيات التي تحفظ الحصص التاريخية في مياه النيل. ولم يكن هذا الصمت مؤشراً لسوء النية المبيتة لديهم إلى أن كشفت وسائل الإعلام المحلية هناك أن الحكومة بدأت في ملء السد.
بنهاية الجولة الأخيرة من المفاوضات، أظهرت التصريحات الرسمية لكل من مصر والسودان أن نقاط الخلاف ما تزال قائمة، حيث تتمسك إثيوبيا بعدم التوقيع على اتفاق ملزم في المستقبل. وصرح وزير الخارجية “جيدو أندرجاشيو” أن بلاده لم تبدأ في ملء السد، وسوف تتم محاسبة جميع القنوات الإعلامية سواء المرئية أو المقروءة التي روّجت للخبر الكاذب.
وبعد أقل من 48 ساعة من تصريح وزير الخارجية، صرح وزير المياه “سيلشي بيكيلي” لرويترز أن بلاده قد بدأت في ملء السد، ثم تراجع عن تصريحه قائلاً إن تجمع المياه خلف السد هو تجمع طبيعي نتيجة للأمطار الغزيرة، وهو ما نقلته أسوشيتيد برس وكتبه هو بنفسه في تغريدة خاصة على تويتر.
بذلك، يتضح أن المسئولين الإثيوبيين يصرون على الكذب والتضليل فيما يتعلق بملء وتشغيل السد، ولا يمكن أن تتعامل مصر والسودان معهم على أساس توافر النوايا الحسنة كما جاء في المادة الأولى من إعلان المبادئ.
السودان يفضح الأكاذيب الإثيوبية
على الرغم من أن السودان يسعى لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من وراء سد النهضة الذي يبعد 15كم فقط عن الحدود السودانية، إلا أنه لا يزال يتمسك بالتوصل إلى اتفاق يحفظ الحصص المائية للسودان ومصر، ويضمن عدم تشغيل إثيوبيا للسد بشكل أحادي قد يضر بدولتي المصب في المستقبل.
وانطلاقاً من هذا الموقف، ردت وزارة الري والموارد المائية السودانية على تصريحات الوزير الإثيوبي في بيان رسمي أكدت فيه على أن مقاييس تدفق المياه في محطة الديم الحدودية مع إثيوبيا توضح أن هناك تراجعاً في مستويات المياه بما يعادل 90 مليون متر مكعب يومياً، الأمر الذي يؤكد أن إثيوبيا قد أغلقت بوابات سد النهضة وبدأت في عملية تخزين المياه. وجددت وزارة المارد المائية السودانية رفضها اية إجراءات أحادية يتخذها أي طرف خصوصاً مع استمرار جهود الاتحاد الإفريقي للتوصل إلى اتفاق، وستتابع الحكومة السودانية هذه التطورات هذه التطورات بما يؤمن المصالح القومية السودانية.
بهذه التصريحات، يؤكد السودان على سوء النوايا الإثيوبية ويفضح أكاذيبهم المستمرة، الأمر الذي لابد أن يلتفت إليه السودان جيداً، حيث كان وزير الطاقة السوداني قد أعلن في أحد المؤتمرات أن بلاده قد وقعت اتفاقاً مع إثيوبيا يقضي باستفادة السودان بثلاثة آلاف ميجاوات من كهرباء سد النهضة عند تشغيله. فهل يأمن السودان مكر الإثيوبيين الذين يتنصلون من اتفاقاتهم ويحنثون بوعودهم؟
هدوء مصري حذر
على جانب آخر، وعلى عكس الثورة التي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي في مصر، تمسكت الخارجية المصرية بأقصى درجات الهدوء وضبط النفس، وطلبت إيضاحاً رسمياً عاجلاً من الحكومة الإثيوبية بشأن مدى صحة بدء إثيوبيا في ملء خزان السد. وأكد المتحدث الرسمي باس وزارة الخارجية على أن مصر تواصل متابعة تطورات ما يتم إثارته في الإعلام حول هذا الموضوع.
ويؤكد هدوء الخارجية المصرية في ردها على تصريحات وزير المياه الإثيوبي على أن مصر ماتزال تتعامل مع القضية من منطلق تفعيل مبادئ التعاون المشترك وحسن النوايا بين الأطراف الثلاثة للقضية. كما تتمسك باستكمال المسار التفاوضي الذي بدأ منذ تسع سنوات تقريباً من أجل التوصل إلى حل سلمي للقضية.
تعليقاً على مواقف الدول الثلاث، يمكن القول إن الحكومة الإثيوبية تمر بحالة من التخبط نتيجة للأوضاع الداخلية غير المستقرة، الأمر الذي يجعل مسئوليها يصدرون تصريحات متضاربة ويناقضون أنفسهم على فترات زمنية متقاربة جداً، وصلت إلى أقل من ساعة واحد حينما صرح “بيكيلي” ببدء بلاده في الملء ثم نفى الخبر.
كما يبدو واضحاً أن السودان رغم رغبته القوية في الحصول على كل ما وعدت به إثيوبيا من مكاسب بعد تشغيل السد، إلا أنه مازال متخوفاً من مكر الإثيوبيين مستقبلاً، وهو ما يجعله يظهر للجميع تمسكه بالتوصل على اتفاق يضمن حصص دولتي المصب المائية، وقواعد تشغيل السد مستقبلاً.
أما مصر، فلن تفوت هذه الفرصة العظيمة في كسب مزيد من الدعم الدولي لموقفها في المفاوضات، لتصل في النهاية إلى اتفاق يلبي مطالبها ويحفظ أمن وسلامة شعبها، حيث اتجهت جميع الأنظار إلى قضية السد الإثيوبي لما يمكن أن تتسبب فيه من صراع مسلح يهدد السلم والأمن في المنطقة.
باحث ببرنامج السياسات العامة