السد الإثيوبي

استفاقة سودانية في وجه المراوغات الإثيوبية

إن المتمعن في أزمة السد الإثيوبي منذ بدايتها يدرك تماماً ثبات ووضوح الموقف المصري الذي تمثل في ضرورة عدم المساس بالحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل أو الإضرار بأمنها المائي، كما يسهل عليه فهم المراوغات التي مارستها الحكومة الإثيوبية من أجل إنهاء إنشاءات السد والشروع في عملية الملء والتشغيل دون اتفاق مُلزم، ولكن قد يصعب تفسير الموقف السوداني الذي تمثل في البداية في لعب دور الوسيط بالرغم من كونه طرفاً رئيسياً في الأزمة، ثم تحول بعد ذلك إلى معارضة بعض الخطوات المصرية حين تحفظ على قرار جامعة الدول العربية الداعم لمصر والسودان في المفاوضات حول السد، ليصل أخيراً إلى ما يمكن تسميته بالاستفاقة واتخاذ خطوات تتشابه إلى حد ما مع الخطوات المصرية في مواجهة المراوغات الإثيوبية.

من الانحياز إلى الاعتدال

اتسم الموقف السوداني في عهد البشير بالانحياز الواضح للجانب الإثيوبي، ولم يتطرق الحديث حول السد الإثيوبي في الداخل السوداني إلا إلى إيجابيات السد والمنفعة التي ستعود على السودان من ورائه، ووصل الأمر إلى استبعاد كل من يتطرق إلى حجم الأضرار الناجمة عن سد بهذا الحجم من الفريق السوداني المشارك في المفاوضات، وبالرغم من توقيع السودان على اتفاق إعلان المبادئ في عهد البشير إلا أن الموقف السوداني بدا وكأنه وسيط وليس طرفاً أصيلاً في الأزمة. وبعد رحيل البشير، لم يتغير الأمر كثيراً، حيث استمر نفس أعضاء الفريق التفاوضي السوداني في المشاركة في الاجتماعات بين وفود الدول الثلاث، واستمرت السلطة الانتقالية في الانحياز إلى الموقف الإثيوبي إيماناً منها بصدق الوعود والشعارات الإثيوبية.

وعلى النقيض من محاولة إبداء الحياد، أكدت مفاوضات واشنطن الانحياز السوداني الكامل للموقف الإثيوبي، حيث رفض السودان أن يوقع على الاتفاق الذي تم التوصل إليه في حضور الولايات المتحدة والبنك الدولي على غرار ما قام به الوفد الإثيوبي بالرغم من توقيع مصر بالأحرف الأولى. وفي رد فعل مفاجئ، رفض السودان قرار جامعة الدول العربية الداعم لحقوق مصر والسودان التاريخية في مياه النيل، وتحفظ عليه مطالباً برفع اسم السودان منه، وهو ما حدث بالفعل.

وبالتزامن مع التصعيد الذي مارسته كل من مصر وإثيوبيا ومحاولة الجانبين الظفر بدعم دولي لموقفيهما وصولاً إلى مجلس الأمن، تحول الموقف السوداني إلى النقيض تماماً، حيث توقف السودان عن انحيازه غير المبرر لإثيوبيا حين رفض مقترحاً إثيوبياً بالتوقيع على اتفاق جزئي حول ملء بحيرة السد. ويبدو أن القيادة السودانية قد بدأت في الاستماع إلى صوت العقل وإعلاء المصالح السودانية استناداً إلى دراسات موضوعية توضح مخاطر السد من النواحي الفنية والبيئية والاقتصادية، ليرسل السودان بعد ذلك مذكرة إلى مجلس الأمن يطالب فيها بضرورة التزام إثيوبيا بعدم البدء في ملء خزان السد إلا بموافقة السودان ومصر، وهو ما يتطابق مع ما طالبت به مصر للحفاظ على السلم والأمن الإقليميين.

إدراك سوداني للنوايا الإثيوبية

قد يرجع التحول في موقف السودان إلى إدراك القيادة السياسية هناك للنوايا الحقيقية لإثيوبيا، فقد أصبح جلياً استغلال الأخيرة للسودان في مواجهة مصر، حيث سعت إثيوبيا لكسب التأييد السوداني من خلال الترويج لفكرة أن “التنمية حق أصيل لكل من السودان وإثيوبيا، وأن الطريق إلى تحقيق هذه التنمية يبدأ من “السد الإثيوبي الكبير” الذي سيزود الدولتين بالكهرباء، ويقلل من مخاطر الفيضانات، ويساعد في زراعة الأراضي بمحصولين سنوياً، وأن مصر الغنية تقف عائقاً أمام هذه التنمية”. وكيف لا تنقاد الحكومات خلف حلم التنمية؟ فاستمر السودان في دعم الجارة إثيوبيا طمعاً في تحسين حياة مواطنيه غير مكترث بالدراسات الفنية وأمان السد إلى أن أدرك حجم الأضرار على السدود السودانية والمخاطر التي قد تنجم عن فشل أو انهيار السد.

كما ساهم وضوح وثبات الموقف المصري تجاه السودان في تصحيح ما روجت له إثيوبيا من أفكار خاطئة، ففي الوقت الذي أوفت فيه مصر بوعدها المتمثل في الربط الكهربي مع السودان، وبدأت في تزويد الشمال السوداني بالكهرباء فعلياً، وأرسلت كميات كبيرة من المستلزمات الطبية والأدوية لمساعدة السودان في مكافحة فيروس كورونا المستجد، اتبعت إثيوبيا نفس النهج الملتوي في محاولة إقناع السودان بالتوقيع على اتفاق جزئي على ملء خزان السد دون الرجوع إلى مصر، ليتزامن رفض السودان لهذا المقترح مع ارتفاع وتيرة المناوشات على الحدود السودانية الإثيوبية، وتتسبب ميليشيات “الشفتا” المدعومة من الجيش الإثيوبي في مقتل عدد من الجنود السودانيين. 

وقد ساهمت “مجموعة القوى المدنية المناهضة لمخاطر السد الإثيوبي” المؤلفة من عدة قوى مدنية في رفع الوعي بين المواطنين وحث الحكومة على العودة إلى طاولة التفاوض وفق آلية جديدة لمناقشة كافة الأمور العالقة والتي من بينها آلية التنسيق وتبادل البيانات وسلامة السد والآثار البيئية والاجتماعية. وكانت نتيجة ذلك أن دعا رئيس الوزراء السوداني نظيريه المصري والإثيوبي للتفاوض على أساس ما تم التوصل إليه في مسار واشنطن التفاوضي.

العودة للتفاوض تثبت مراوغات إثيوبيا

استجابت مصر وإثيوبيا لدعوة رئيس الوزراء السوداني “عبد الله حمدوك” بالعودة للتفاوض حول القضايا العالقة ولم يتم التوصل إلى اتفاق حولها خلال جولات المفاوضات التي شاركت فيها وزارة الخزانة الامريكية والبنك الدولي. ففي التاسع من يونيو الجاري، عُقد اجتماع على مستوى وزراء الري في الدول الثلاث بحضور المراقبين الدوليين من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وجنوب إفريقيا الرئيس الحالي للاتحاد الافريقي.

وقد كانت عودة مصر لهذه المفاوضات من أجل استكشاف مدى توفر الإرادة السياسية للتوصل إلى اتفاق وفقاً لشروط محددة وواضحة تمثلت في:

  • مطالبة إثيوبيا بإعلان أنها لن تتخذ أي إجراء أحادي بالملء لحين نهو التفاوض والتوصل لاتفاق.
  • أن مرجعية النقاش هي وثيقة 21 فبراير 2020 التي أعدتها الولايات المتحدة والبنك الدولي بناء على مناقشات الدول الثلاث خلال الأشهر الماضية.
  • أن يكون دور المراقبين كمسهلين.
  • أن تكون فترة المفاوضات من 9-13 يونيو 2020 للتوصل الى الاتفاق الكامل للملء والتشغيل.

ولكن مناقشات اليوم الأول، والتي تزامنت مع تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” بأن قرار البدء في ملء خزان السد لا رجعة فيه، أظهرت وجود توجه لدى المفاوض الإثيوبي لفتح النقاش من جديد حول كافة القضايا، بما في ذلك المقترحات التي قدمتها إثيوبيا في المفاوضات باعتبارها محل نظر من الجانب الإثيوبي. كما أشار الإثيوبيون قبل بدء الاجتماعات إلى إمكانية العمل على مسودة اتفاق الولايات المتحدة والبنك الدولي بشرط إجراء بعض التعديلات عليها، ومنها منسوب المياه الذي يجب الوصول إليه لضمان التشغيل الأمثل المستدام، وإطلاق الكميات الزائدة عن الحاجة في مجرى النيل لتصل إلى السودان ومصر، وتقسيم فترات الملء وفقاً للظروف الهيدرولوجية، وقد تراجعت إثيوبيا لتطالب بخطة ملء ثابتة بعدما تم الاتفاق عليها مسبقاً.

من هنا، يمكن تفسير الطريقة التي تتبعها إثيوبيا في هذه الجولة من المفاوضات، وفقاً للدكتور أحمد المفتي الخبير السوداني، بأنها “التفاوض على حافة الهاوية”، وهو تكتيك تفاوضي معروف، ومضمونه أن الدولة المعنية تظل ترفض العرض، على الرغم من أنه يخدم مصالحها بنسبة 100%، حتى تعتقد الأطراف الأخرى، أنها لن تقبل به، فتوسط أطرافا أخرى، لإقناعها بقبول ذلك العرض، وتستمر في الرفض، حتي تشهد العالم بأنها ترفض ذلك العرض، ولا تعطي الأطراف الأخرى أي فرصة للتقدم بمطالب أخرى، وعندما تقترب لحظة المواجهة، تقبل بشروط وهمية حتى ينصرف انتباه الأطراف الأخرى.

بذلك، تثبت إثيوبيا للجميع مجدداً أنها مستمرة في سياسة المراوغة ومحاولة التهرب من توقيع اتفاق شامل ومنصف وملزم، وهو ما بات جلياً أمام السودانيين سواء على مستوى الحكومة أو الخبراء أو القوى المدنية، الأمر الذي يمثل دافعاً قوياً لدى السودان لاتخاذ جانب مصر لأن الوقوف على الحياد أو لعب دور الوسيط لن يمنع الإثيوبيين من الإضرار بالحقوق التاريخية في مياه النيل لدولتي المصب.

+ posts

باحث ببرنامج السياسات العامة

محمود سلامة

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى