أوروبا

منظمات حقوق الإنسان الدولية.. بين المصلحة السياسية والمبادئ

لطالما اكتسب الناس على مدار التاريخ حقوقا ومسئوليات تتفاوت وفقا لانتماءاتهم إلى جماعات إنسانية محددة، قد تكون هذه الجماعة في شكل قبيلة أو طائفة دينية أو حتى في صورة مجتمع ودولة. 

واحتكم المسلمون ، على سبيل المثال ،  إلى قوانين حقوق الإنسان المنصوص عليها في كتابهم المقدس “القرآن الكريم”، والذي يعد واحدا من أقدم الوثائق المكتوبة في هذا المجال ، بينما كان للمسيحين ولليهود أيضا قوانينهم الخاصة والتي تنبثق كذلك عن مصادرهم المقدسة فيما يتعلق بذات المسألة. 

 وظهرت أيضا المبادئ الخمس للحكيم الصيني “كونفوشيوس” باعتبارها نوعا من أنواع الوثائق التي تشرح مسائل حقوق الإنسان، خاصة بعد أن استطاع الحكيم الصيني النهوض ، في مجمل انتاجه الفلسفي ، بالأخلاق والقيم وخدمة الإنسان الصيني بما يحقق له السعادة في الدنيا. 

وعلى نفس المنوال برزت في ذات السياق، قوانين “الإنكا” و”الآزتيك” والتي عملت كذلك على تنظيم قواعد السلوك والعدالة العامة، وجميع هذه المصادر كانت موجودة في فترة ما قبل القرن الثامن عشر بوقت طويل. 

ولكن وجود هذه المصادر الشهيرة أو غيرها، لا ينفي وجود غيرها من الوثائق المماثلة لدى جميع مجتمعات الأرض منذ فجر التاريخ، إذ أن كل مجتمع مهما تعددت صوره وأشكاله، لطالما كان يحتوي في مجمل تقاليده الشفهية أو المكتوبة، على عدد من الأنظمة والأسس الحاكمة لمفهوم العدالة وطريقة تنفيذها وتطبيقها بين أفراد المجتمع الواحد.

وحقيقة الأمر، أن مجرد الاعتقاد بأن كل انسان له عدد من حقوق بعينها هو أمر –  بحد ذاته –غاية في السمو والرقي. لكن المعضلة الحقيقية كانت تتلخص في تعريف هذه الحقوق، والتي كانت وبحكم الانتماءات المختلفة، تتشابه في خطوطها العريضة ولكن مع ذلك يبقى هناك اختلافات كبيرة تفصل فيما بينها وفقًا للانتماءات والثقافات. 

لهذا السبب كانت البشرية بحاجة إلى محفز قوي من أجل التحرك نحو اتخاذ خطوة توحيد المفاهيم الخاصة بحقوق الانسان على نطاق عالمي، ويبدو أن الحرب العالمية الثانية كانت هي المحرك المناسب للدفع في هذا الإتجاه. 

منظمة الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان

لم تكن ولادة منظمة الأمم المتحدة، والتي أعقبها صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، بمثابة أمر ظهر من فراغ او تم استحداثه بشكل فجائي من العدم. إذ أنه كانت توجد هناك بالفعل عدة وثائق اعُتبرت بمثابة التمهيد لتلك الخطوات الكبرى، على غرار وثيقة الماجنا كارتا 1215، والإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان 1789، وغيرها. ولكن هذه الوثائق على الرغم مما أحرزته من تقدم في مجال حقوق الإنسان، إلا أنه كانت تشوبها استبعاد النساء والأشخاص من ذوي البشرات الملونة وعدد من الجماعات الدينية والاقتصادية والسياسية المعينة. 

ومن هذا المنطلق، وبعد ما شهده العالم من أهوال خلال الحرب العالمية الثانية. ظهرت فكرة توحيد مفاهيم حقوق الإنسان في وثيقة موحدة، وحدث هذا بالتزامن مع التوافق الدولي حول ضرورة انشاء منظمة الأمم المتحدة، بهدف تعزيز السلم والأمن الدوليين والحيلولة دون نشوب النزاعات والصراعات. ووصولا إلى عام 1997، كان يوجد هناك أكثر من 130 دولة صدقت على عهود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، عدا الولايات المتحدة الأمريكية التي اكتفت بالتصديق على الشق الخاص بالحقوق المدنية والسياسية فيه. وكان لهذا الإعلان تأثير عالمي كبير على الرغم من أنه لا يعبر عن وثيقة قانونية ملزمة، إذ تم دمج مبادئه في دساتير أكثر من 185 دولة، مما جعل منه معيارا مشتركًا للعرف الدولي إزاء حقوق الإنسان. 

منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية 

كرست العديد من المنظمات غير الحكومية المعنية في مجال حقوق الانسان جهودها من أجل حماية حقوق الانسان وإنهاء الانتهاكات في هذا المجال بينما لعبت المنظمات غير الحكومية دورا رئيسيا في لفت أنظار المجتمع الدولي تجاه هذا النمط من القضايا بحيث تراقب هذه المنظمات تصرفات الحكومات وتضغط عليها للعمل وفقًا لمبادئ حقوق الإنسان المُعلنة.

ويندرج تحت هذا البند من المنظمات العديد من المنظمات الدولية والمحلية، والتي يعد من أبرزها أسماء مثل “منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومان رايتس ووتش“، وهما تعنيان بشكل رئيسي بإجراء تحقيقات حول انتهاكات حقوق الإنسان، ومحاسبة المعتدين وتحقيق العدالة والدفاع عن حقوق الإنسان وما إلى آخره من قيم متعارف عليها. 

وعلى الرغم مما تعلنه المنظمتان من جهود مستمرة يتم بذلها في مجال حقوق الإنسان، إلا أن مجمل أعمالهما بالإضافة إلى أعمال معظم المنظمات المشابهة والمختصة في ذات الشأن، لاتزال تفتقر كثيرا من العوامل والأهداف الرئيسية المقصودة من وراء انشائهم في المقام الأول. 

ويأتي على رأس هذه الشوائب علامات الاستفهام الكثيرة التي تدور حول الممولين الرئيسيين لهذا النوع من المنظمات؟!، بالإضافة إلى افتقارها الى الموضوعية في كثير من الأحيان، والتي تؤدي في النهاية الى ظهور المنظمة في مشهد الجهة ذات المبادئ المزدوجة.

ومما لا شك فيه أن جميع سكان الأرض، يتفقون حول مبادئ إنسانية موحدة تقوم في أساسها على الرحمة والتعاطف. وما يعتبر جريمة قتل مروعة في دولة مثل الهند، بالتأكيد يُنظر له بنفس الطريقة في دولة مثل سنغافورة. وبمعنى آخر، أن الفعل الذي يستوجب الإدانة من قِبَل المنظمات الحقوقية في دولة ما، يستلزم بالضرورة نفس درجة الشجب والحجب والإدانة عندما يتكرر حدوثه في دولة أخرى. ولكننا مع ذلك، نرى تراجعا ملحوظا في تطبيق سياسة المبدأ الواحد لدى الأسماء الأكثر شهرة من هذه المنظمات. 

وفي الوقت الذي تشتعل فيه الأحداث الخاصة بتفشي فيروس كورونا حول العالم، تقابل هذه المنظمات التجاوزات التي ارتكبتها الحكومات الأوروبية تجاه انتقاء الفئات الأكثر ملائمة لتلقي العلاج والمساعدة الطبية من الفيروس، والتي وصلت في بعض الدول إلى الحد الذي بلغ معه استبعاد فئات على غرار ذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن من العلاج، بالصمت المطبق!

 وبينما يمضي العالم في نزاع محتدم مع وباء كورونا، اكتفت منظمة “هيومان رايتس ووتش” بعرض تقرير مفصل عما تشعر به من مخاطر تهدد حرية الرأي والتعبير أثناء الجائحة في دول عدة، ولم تتطرق إلى ما نشرته صحيفة الـ”ديلي ميل” البريطانية في وقت مبكر من أوائل هذا العام حول فقدان قرابة الأربعة آلاف نزيل في دور الرعاية الاجتماعية لحياتهم بفعل الإهمال المتعمد في دولة مثل بريطانيا! 

وفي الوقت الراهن، بينما تندلع مظاهرات غاضبة في أرجاء عدة عبر دولة بحجم وأهمية الولايات المتحدة الأمريكية، رافقتها تعديات وانتهاكات جسيمة من قِبَل الشرطة الأمريكية بحق مدنيين. لا زلنا نرى صمتا كبيرا من قِبَل المنظمات التي تقتضي مهامها الرئيسية لفت أنظار العالم إلى أي انتهاكات وجرائم من هذا النوع. وأمر كهذا يمكن ملاحظته بوضوح، بمجرد تفحص الموقع الرسمي لمنظمة هيومان رايتس وتتش، التي لم تأت على ذكر ما يجري من أحداث مشتعلة بالولايات المتحدة واكتفت بالإشارة إلى ضرورة قيام الحكومة الأمريكية بصرف تعويضات مالية لضحايا مذبحة تولسا العنصرية التي وقعت في الولايات المتحدة بتاريخ 1921! 

وعليه، يمكن أن نخلص إلى أن فكرة انشاء منظمات حقوقية غير حكومية قد تكون فكرة جيدة وصحية بحد ذاتها، ولكن يبدو أن الطريقة التي تم من خلالها إنشاء وتنفيذ هذه المنظمات وأداء أعمالها أدت الى الوقوع في ذات الفخ الذي وقعت به العديد من وسائل الإعلام العالمية. 

ويدور الحديث هنا حول ازدواجية المعايير، التي ربما تكون في المقام الأول تُعزى الى رغبات الممولين الحقيقيين لهذا النمط من المنظمات –غير الربحية- وأغراضهم في دفع هذا القدر من المبالغ الطائلة نظير تلقي خدمات قد تكون غير مفهومة ومبهمة للكثيرين من العامة، وقد تكون في المقام الأول غير موجهة لبلدان مموليها!  

وبوجه عام، تثير طريقة أداء هذا النمط من المنظمات لأعمالها تساؤلات حول طريقة ترتيب أولوياتها. في مفارقات جدلية حول من يأتي أولاً، حقوق الإنسان أم المصالح السياسية للممولين؟ 

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى