كورونا

فيروس كورونا يجعل الأرض تلتقط أنفاسها من التلوث

أصبح الوضع العالمي بشأن التغيرات المناخية وارتفاع معدلات الانبعاثات الكربونية وغازات الاحتباس الحراري حرجًا للغاية، فقد حذرت الوكالة الدولية للطاقة من أن معدلات التلوث الناجم عن الأنشطة الصناعية المنتجة للانبعاثات الكربونية سترتفع بنسبة 130% بحلول 2050 إذا ما استمرت الدول في أنشطتها، ولعل أكثر الدول في معدلات التلوث عالميًا هي الصين والولايات المتحدة والهند وروسيا واليابان.

ومع النمو الاقتصادي الكبير لهذه الدول واعتمادها علي الفحم والوقود الأحفوري وبطء خطواتها في التحول للطاقات المتجددة، وأيضًا مع خروج بعضها مثل الولايات المتحدة من الاتفاقات الدولية لتغيرات المناخ علي الرغم من أنها أكبر اقتصاد في العالم، ومن أشد الدول تأثيرًا في نسب الانبعاثات الكربونية والاحتباس الحراري، أصبح العالم كله في مأزق حقيقي يهدد الحياة علي الكوكب، حتي جاء في بداية 2020 تهديد آخر بدا أعنف بكثير العالم وهو كوفيد-19، أو ما يعرف بفيروس كورونا المستجد الذي اعتبرته منظمة الصحة العالمية وباءً عالمي ووصفته بالجائحة، هذا الفيروس في خلال بضعة شهور دمّر الاقتصاد العالمي، وعلق الطيران الدولي فانهارت السياحة، وزاد من الرعب العالمي بسبب سرعة انتشاره التي أصبحت تقريبًا في كل دولة ومدينة بالعالم، وبزيادة أعداد المصابين والضحايا يوميًا جعلت من أقوي اقتصادات العالم أن تعلن عن  عدم تمكنها من السيطرة علي هذا الوباء.

كل هذا العناء الذي يواجهه العالم الآن بسبب فيروس كورونا، إلا أن صورًا بثتها وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” للأرض في بعض المناطق بنسب أقل من التلوث، ومعدلات منخفضة من الانبعاثات الكربونية، بدت وكأن الأرض تلتقط أنفاسها من جديد. 

الصين 

تُعدُّ الصين أولى دول العالم في معدلات التلوث وانبعاثات الغازات الدفيئة، باعتبارها ثاني اقتصاد عالمي ومعتمد اول على مصادر الوقود الأحفوري، فـ5 مقاطعات فقط في الصين تنتج نسب تلوث تفوق دولًا كاملة في العالم، وأصبحت الصين في الفترة الأخيرة مصدرًا أساسيًا للتلوث بنسب تفوق بمفردها 30% من معدلات التلوث العالمية.

ومع بداية انتشار فيروس كورونا في الصين وبالتحديد في مدينة ووهان، ومع الإجراءات الصارمة التي اتخذتها الحكومة الصينية للحد من انتشار الفيروس، مثل حظر التجول الكلي والحجر الصحي، وتوقف الحياة تقريبًا، أظهرت صور التقطتها “ناسا” انخفاضًا واضحًا في معدلات التلوث، وانخفاض كمية ثاني أكسيد النيتروجين خصوصًا، ووضعت الصور في مقارنة مع نفس الفترة العام الماضي. والجدير بالذكر أن هذا الغاز ينتج من عوادم السيارات ومحطات الطاقة والعديد من أنواع المصانع والمنشآت الصناعية المنتشرة في الصين، وهو غاز سام له أضرار جسيمة على الصحة والبيئة ويؤدي إلي زيادة درجات الحرارة.

شكل (1) الانخفاض الواضح في نسب التلوث في الصين بعد حظر التجول الكلي

شكل (2) مقارنة تأثير فيروس كورونا علي معدلات ثاني اكسيد النيتروجين مع نفس الفترة من العالم الماضي

وخلال الفترة من 3 فبراير حتي 1 مارس فقط ، انخفضت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 25٪ على الأقل بسبب إجراءات احتواء الفيروس في الصين، وفقًا لمركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف (CREA).وقد شجعت هذه المؤشرات  الخبير الاقتصادي للموارد البيئية في جامعة ستانفورد الأمريكية “مارشال بورك”، أن يجري دراسة تتضمن حسابات سريعة عن الانخفاض الأخير لتلوث الهواء فوق أجزاء من الصين وتأثير ذلك على إنقاذ أرواح البشر، تتوقع حسابات “بورك” التي نشرها في  مدونة ديناميكيات الاقتصاد والبيئة والغذاء العالمية، أن الارواح التي يمكن ان يتم إنقاذها بسبب الحد من التلوث والخفض الناتج في معدلات الانبعاثات الكربونية المؤقتة بسبب إجراءات الحد من كورونا يفوق بكثير حالات الوفيات من الفيروس.

وتوضح الحسابات أن الحد من التلوث لمدة شهرين أنقذ أرواح نحو 4 آلاف طفل دون سن الخامسة و73 ألف بالغ فوق سن 70 عامًا في الصين، وهذا الرقم أكبر بكثير من عدد الوفيات العالمي الحالي من الفيروس. وبحسب تحليل أجراه موقع Carbon Brief المتخصص ببحوث المناخ، فانخفاض استخدام الطاقة في الصين بنسبة 25 % على مدى الفترة الماضية، قد ينتج عنه انخفاض يبلغ 1 % من الانبعاثات الصينية هذه السنة.

إيطاليا

مع سرعة تفشي الفيروس في معظم دول العالم، أصبحت إيطاليا ثاني أكثر الدول إصابة بكورونا المستجد، مما اضطرها لاتباع إجراءات صارمة، مثل الحجر الصحي وتوقف الحياة وحظر العمل أو ممارسة الحياة بطريقة عادية، وخلال تلك الفترة التقطت صورٌ لمناطق بإيطاليا بالأقمار الصناعية أكدت انخفاض معدلات التلوث فيها أيضًا، وانخفاض واضح في نسب ثاني أكسيد الكربون وثاني اكسيد النيتروجين، نتيجة انخفاض حركة المرور والمنشئات الصناعية. 

شكل (3) التأثير الواضح في خفض معدلات الغازات الدفيئة في شمال ايطاليا بسبب اجراءات الحد من فيروس كورونا

الولايات المتحدة

الولايات المتحدة تُعدُّ أكبر اقتصادات العالم وأكثرها نشاطًا صناعيًا واقتصاديًا يعتمد علي الوقود الأحفوري، مما جعلها ثاني أكثر الدول تلوثًا وتسببًا فيه بنسبة 15% بعد الصين، وتأثرت الولايات المتحدة أيضًا بفيروس كورونا المستجد الذي جعلها في المرتبة الثالثة من حيث عدد المصابين والضحايا بالفيروس، مما جعلها تتخذ نفس الإجراءات الصارمة للحد من التنقل والسفر والتجمعات، وبالتالي توقف العديد من المنشآت الصناعية والسيارات ووسائل التنقل، الأمر الذي جعل الباحثين يرون بوضوح خفض نسب أول وثاني أكسيد الكربون في الهواء والتي تنتج بشكل كبير نتيجة الصناعة وعوادم السيارات.

ففي ولاية نيويورك رصد باحثون من جامعة كولومبيا أن حركة المرور في نيويورك انخفضت بنسبة حوالي 35 % مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وبالتالي نسبة غاز أول أكسيد الكربون الذي تنتجه محركات السيارات فقد انخفضت بنحو 50 % في يومين فقط من ايام حظر التنقل. وتوصل الباحثون أيضًا إلى أن نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في جو نيويورك انخفضت من 5 إلى 10 %، كما انخفضت نسبة غاز الميثان، الأمر الذي جعل رئيس الفريق البحثي “رويسين كوماني” يتوقع خفضًا ملحوظًا في نسبة الانبعاثات الكربونية، فالإجراءات التي اتُخذت للحد من انتشار فيروس كورونا لم يشهدها العالم منذ 2009 وحتى قبل ذلك. وتتفق معه في هذه التوقعات الدكتورة “كورين لي كويري” من جامعة شرق أنغليا في بريطانيا. 

المملكة المتحدة

علي الرغم من ان المملكة المتحدة حديثة العهد بانتشار الفيروس الي حد ما، لكن مع أخذ الاجراءات اللازمة للحد من انتشاره وتوقف حركات السفر والانتقالات والأنشطة الاقتصادية، شهدت انخفاضًا ملحوظًا أيضًا في معدلات التلوث، فطبقًا لمؤشر الاتحاد الاوروبي لقياس جودة الهواء “AirQualityNow.eu ” فشهدت لندن انخفاضًا ملحوظًا في معدلات غاز ثاني أكسيد النيتروجين، انخفضت نسبته خلال يوم واحد فقط من 96 الي 20،  وذلك يوم الاثنين الماضي، نتيجة منع السفر والتنقلات وتوقف بعض المنشآت الصناعية، ومازالت التوقعات تشير الي استمرار انخفاض نسب التلوث مع استمرار الحجر الصحي وتخفيف الانشطة الصناعية. 

كورونا فرصة لإعادة التقييم بشأن الحد من الانبعاثات

لعل انتشار هذا الوباء العالمي وتأثيراته العنيفة علي كل دول العالم دون استثناء، المتقدمة منها قبل النامية، فرصة لتقييم هذه الدول لطريقة تعاملها مع الانبعاثات الكربونية الضارة وغازات الاحتباس الحراري الناتجة من المنشآت الصناعية، والأنشطة الاقتصادية الأخرى وتأثيراتها علي التغيرات المناخية المحتملة،  ولعلها فرصة أيضًا للحكومات الآن لتوخى الحذر فيما يخص السبل التي ستتبعها لتحفيز اقتصاداتها مرة أخري بعد الأزمة، وعليها أن تتجنب الاعتماد على مصادر الطاقة الأحفورية مرة أخرى، ومحاولة اللجوء لحلول اكثر حفاظا علي البيئة وعلي الانسان.

+ posts

باحثة ببرنامج السياسات العامة

أمل اسماعيل

باحثة ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى