
الرهان الدائم.. كيف يوظف أردوغان ورقة اللاجئين لتحقيق أهدافه؟
يتعامل الرئيس التركي “أردوغان” في كافة تحركاته وسياساته الداخلية والخارجية انطلاقًا من منظور نفعي، إذ يعمل على توظيف عددٍ من المتغيرات والتحولات على الساحتين الدولية والإقليمية لتحقيق أكبر قدر من المنافع وتعظيم المكاسب، وقد كان انتشار وتفاقم أزمة اللاجئين خاصة في مرحلة ما بعد أحداث 2011 مثالًا واضحًا لهذا التوجه، حيث استضافت أنقرة نحو 3.8 مليون لاجئ، وأقامت لهم مجموعة من المخيمات في المناطق الحدودية مع سوريا والعراق، وقد استغل “أردوغان” هذه القضية في بداية الأمر استنادّا إلى أبعادها الإنسانية كمقدمة لتوظيف سياسي أوسع على المستويين الداخليٍ والخارجيٍ.
أهداف متعددة وتوظيف نفعي
عمل “أردوغان” على تحقيق بعض الأهداف من خلال الاستثمار في توظيف ورقة اللاجئين وهو ما يمكن الوقوف عليه فيما يلي:
- تلميع صورته الخارجية، سعى “أردوغان” من خلال أزمة اللاجئين للعمل على خلق صورة ذهنية في العقل الجمعي العربي والدولي باعتباره القائد الإنسان، وهي رؤية تتماشى مع تطلعاته في استعادة حلم الخلافة. وانطلاقًا من هذا المنظور فتحت “أنقرة” أبوابها أمام اللاجئين عبر اتباع سياسة “الباب المفتوح”، وحاولت تصدير الأزمة في بداية الأمر على أنها قضية إنسانية بحاجة لمزيد من المُناصرة والدعم. وقد اتخذ “أردوغان” عددًا من التحركات والإجراءات من ضمنها؛ تفعيل قانون الحماية المؤقتة والذي يمنح اللاجئين المسجلين بشكل رسمي عددًا من الحقوق والامتيازات، كما تبني خطابًا عاطفيًا في عددٍ من المناسبات، وأكد ضرورة أن يعتبر اللاجئون تركيا وطنهم الثاني، كما شارك -هو وزوجته- الإفطار مع مجموعةٍ من العائلات النازحة في مخيم “ميديات” التابع لولاية “ماردين”(يونيو2015). وقد مثلت تلك الخطوات في البداية مدخلًا اعتمد عليه في تعزيز صورته باعتباره مناصرًا للمهمشين والمستضعفين، وهو توجه يحمل في ظاهره الفضيلة والإنسانية، إلا أنه يُخفي وراءه سياساتٍ نفعية وتوظيف واستغلال بهدف تحقيق مكاسب سياسية، خاصة وأن “أردوغان” استغل هؤلاء لفترات في الدعاية الانتخابية والترويج لمرشحي حزب “العدالة والتنمية” في عددٍ من الاستحقاقات السياسية.
- توظيف مُزدوج لمنع تآكل شعبيته في الداخل، تحولت ممارسات “أردوغان” تجاه اللاجئين بعدما عانى “حزب العدالة والتنمية” من تراجع كبير في شعبيته، وذلك بفعل عددٍ من السياسات الخاطئة سواء في الداخل أو الخارج. وقد انعكس ذلك على خسارة الحزب لانتخابات البلدية (مارس2019) في عددٍ من المناطق التي كانت تمثل نفوذًا ومجالًا حيويًا للحزب، كما أن قواعد الحزب وشعبيته تراجعت بشكل كبير، إذ فقد الحزب نحو مليون عضو خلال الفترة من (أغسطس 2018/ يوليو2019)، وللحيلولة دون استمرار هذا التآكل والتراجع، بدأ “أردوغان” بفرض سياسات تُحجم من نفوذ اللاجئين في أعقاب تصاعد خطاب الكراهية ضدهم في الداخل، حيث رأى الرأي العام في تركيا أن تلك الأعداد تمثل عبئًا كبيرًا على الاقتصاد، بل أنها ستُساهم مستقبلًا في تغيير التركيبة الديموغرافية للبلاد، لذا بدأ “أردوغان” وحكومته باتباع نهج مُغاير في سياسته مع اللاجئين، حيث اتخذت الحكومة موقفًا متشددًا وأقل مرونة في منح تصاريح السفر، كما تغير خطاب الحكومة تجاه اللاجئين، وأكدت أن البلاد لم تعد تحتمل وحدها تكلفة تلك الأعداد.
ويمكن قراءة هذا التحول في رغبة أردوغان في منع المعارضة من استغلال ورقة اللاجئين لإثارة الرأي العام ضده ومن ثَم خسارة ما تبقى من قواعده، خاصة في ظل حالة السخط والغضب الشعبي تجاه اللاجئين، وهو الأمر الذي نجحت المعارضة في توظيفه ضد “أردوغان” وحزبه في انتخابات البلدية الأخيرة. وعليه، يمكن القول إن “أردوغان” وظّف ورقة اللاجئين بصورة مزدوجة سواء للتسويق لشخصه وتلميع صورته في بداية الأزمة، أو لمقاومة التآكل والتراجع في شعبيته في الداخل بعدما ثار الرأي العام وأحزاب المعارضة ضده، كما أن التلويح بهذه الورقة في الوقت الراهن يُعتبر محاولة لإلهاء الداخل التركي وامتصاص الصدمة الناجمة عن خسائر “أردوغان” المتتالية في سوريا، حيث يرى البعض أن تركيا أقحمت نفسها في معارك غير محسوبة في شمال سوريا ساهمت في تنامي عدد الضحايا الأتراك.
- مقاومة واستيعاب الضغوط الأوروبية، أدت السياسة الخارجية لأنقرة وتحركات “أردوغان” الخارجية في عدد من الملفات إلى التحول من مبدأ تصفير المشاكل مع دول الجوار إلى توسيع قاعدة العداءات وافتعال الازمات، الأمر الذي انتهى إلى مزيد من العزلة الدولية والإقليمية لتركيا. وعليه، يعمل “أردوغان” على توظيف ورقة اللاجئين واستغلالها سياسيًا من أجل مقاومة الضغوط الدولية والأوروبية الذاهبة لمحاصرته، وحثّه على التخلي عن نهجه العدائي والتوسعي، خاصة الأطراف الأوروبية التي تعارض بشدة تحركاته في منطقة شرق المتوسط، واستمرار عمليات التنقيب عن الغاز في السواحل القبرصية، فضلًا عن التصعيد المستمر بين تركيا واليونان والخلافات المستمرة مع دول المنطقة حول المناطق الاقتصادية الخالصة، واستغلال الثروات البحرية فيها. وللعمل على استيعاب تلك الضغوط خاصة في ظل العقوبات التي يلوح بها الاتحاد الأوروبي حال استمرار “انقرة” في التنقيب عن الغاز، عملت تركيا على إعادة التلويح بهذه الورقة لإقناع أوروبا أنها تُمثل حائطًا للصد وحاجزًا يحول دون انتقال اللاجئين إلى أوروبا، ومن هنا يُطوع “أردوغان” هذه الورقة وإمكانية فتح الباب أمام اللاجئين للانتقال لساحات بديلة للضغط وممارسة الابتزاز والتهديد لدول الجوار الأوروبي، لمنع فرض عقوبات عليه جراء تحركاته في شرق المتوسط.
- الحاجة لمزيد من الدعم، عمل “أردوغان” طيلة الفترات الماضية ولا يزال على مساومة الدول الأوروبية بورقة اللاجئين، واستخدامها كأداة ضغط وورقة مُثمرة بهدف تحقيق مجموعة من الأغراض، من بينها الحصول على مزيد من المساعدات الاقتصادية – اللاجئين مقابل الأموال- لمواجهة تفاقم الأوضاع الاقتصادية وحالة الركود التي تعاني منها تركيا، حيث لجأ لهذا التكتيك منذ خمس سنوات عندما سمح بمرور نحو مليون لاجئ لدول أوروبا، وقد نجحت مساعيه آنذاك في بلوغ الهدف الأكبر، إذ أبرم اتفاقًا مع الدول الأوروبية (مارس 2016) بشأن منع عبور اللاجئين لأوروبا مقابل الحصول على المساعدات المالية، وقد حصلت تركيا على إثر هذا الاتفاق على نحو 5,6 مليار يورو من أصل 6 مليارات كانت قد تعهدت بها دول الاتحاد الأوروبي بهدف تحسين أوضاع اللاجئين التي تستضيفهم أنقرة، كما أن “أردوغان” يلوح بهذه الورقة من أجل الحصول على الدعم الأوروبي وخاصة من حلف الناتو في مواجهة التصعيد الأخير التي شهدته “إدلب”، والذي نجم عنه مقتل نحو 37 ضابطًا تركيًا، ناهيك عن مساعيه الرامية إلى إعادة هندسة شمال سوريا واستقطاعها لصالح الأراضي التركية عبر إقامة منطقة آمنة بعمق يصل إلى 32 كم. وعليه، يحاول “أردوغان” الحصول على دعم الدول الأوروبية وإقناعها بجدوى دعمه في إقامة منطقة آمنة بهدف توطين اللاجئين في الشمال السوري للحيلولة دون وصولهم لأوروبا، كما أنه يسعى من خلال عملية نقل اللاجئين وتوطينهم في عدد من المناطق السورية -كما حدث في عفرين- إلى إزاحة الأكراد وتحجيم نفوذهم في المناطق الحدودية مع تركيا.
- السعي لتعزيز الشرعية الأوروبية، تطغى على التحركات التركية بشأن أزمة اللاجئين الرغبة الواضحة في استثمار هذه الورقة للتفاوض للانضمام للاتحاد الأوربي، خاصة وأن تطلعات تركيا لعضوية الاتحاد وكسب الصبغة الاوروبية تظل هدفًا استراتيجيًا ومخططًا له منذ أن قدمت تركيا طلبًا رسميًا للانضمام عام 1987، ورغم ترشيحها رسميًا للعضوية عام 1999، إلا أنها لم تحصل بعد على بطاقة العبور والمرور إلى الاتحاد الأوروبي؛ وذلك بسبب تباين واختلاف المواقف الأوروبية بشأن تركيا، خاصة فيما يتعلق بمدى التزامها بالمنظومة الأوروبية، واستيفائها الشروط اللازمة للانضمام، وكذا احترامها للقيم الغربية. ومن ثّم، تستغل تركيا ورقة اللاجئين من أجل الحصول على الشرعية الأوروبية، لذا يقوم ” أردوغان” بالتلويح بهذه الورقة، إذ أن السماح بانتقال هذه العناصر لأوروبا من شأنه أن يفاقم المخاطر والتحديات لدول أوروبا، الأمر الذي تحاول الدول الأوروبية تجنبه بشكل كبير، وعليه فإنه يعمل جاهدًا على توظيف تلك الورقة في التفاوض من أجل تمرير عضوية تركيا في الاتحاد الاوروبي.
مجمل القول، سعى “أردوغان” لتوظيف ورقة اللاجئين للحصول على عدد من المكاسب السياسية سواء في الداخل او الخارج، كما أنه عمل على تطويع هذه القضية في تحقيق أهدافه في المنطقة، وفي مقدمتها الانخراط في تفاعلات المنطقة لتوسيع نفوذه الإقليمي؛ ليصبح فاعلًا في قضايا المنطقة، فضلًا عن مساعيه للتأكيد على محورية دور تركيا كدولة ضامنه لاستقرار أوروبا باعتبارها حائط الصد أمام وصول اللاجئين لعمق أوروبا، إلا أن تلك الأهداف والطموحات قد تتحطم على صخرة العزلة الدولية والإقليمية والتحديات والمشاكل الداخلية التي يُعاني منها الرئيس التركي وحزبه الحاكم، والتي من المحتمل أن تتصاعد في الفترات القادمة. ووفقًا لهذا فإن استمرار اللعب على ورقة اللاجئين قد لا يُجدي نفعًا في الفترات القادمة.
باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع