السد الإثيوبي

اثيوبيا في مفاوضات سد النهضة..تعنت وتجاوز ومخالفة للاتفاقيات الدولية

بات الموقف الإثيوبي من التفاوض بشأن سد النهضة جلياً بعد أن تخلف وفدهم عن الاجتماع الأخير في واشنطن، والذي كان مقرراً أن يوقع خلاله الأطراف الثلاثة على الاتفاق النهائي بما يحقق مصالح إثيوبيا في تحقيق نظام التنمية الاقتصادية ويحفظ حقوق مصر والسودان في مياه النيل.
وبرغم موافقة إثيوبيا على تدخل البنك الدولي والولايات المتحدة ممثلة في وزارة الخزانة لتقريب وجهات النظر حول نقاط الخلاف، وبالرغم من عقد اجتماعات إضافية على مدار شهر ونصف بعد انتهاء المدة الزمنية المتفق عليها مسبقا في منتصف يناير 2020، استمر الجانب الإثيوبي في موقفه المتعنت والمخالف للاتفاقيات الدولية، بل وتخطى ذلك إلى التجاوز في حق مصر والولايات المتحدة.

تعنت مستمر ونوايا غير معلنة


لم يتسم الإثيوبيون أبداً بالمرونة منذ بداية المفاوضات وحتى بعد أن تم التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ في مارس 2015، حيث رفض المفاوض الإثيوبي جميع المقترحات التي تقدم بها الوفد المصري.
وكان المسئولون الإثيوبيون دائماً ما يخرجون بتصريحات تصف مصر بأنها تتصرف كأنها مالك السد الأصلي، وأنها تعرقل جهود التنمية في إثيوبيا، ليظل الانطباع السائد عن مصر أنها “الجاني” وإثيوبيا هي “المجني عليه”.
ويبدو أن الأحلام الإثيوبية تكبر كلما كبر السد وتقترب أعمال البناء من الاكتمال، فالإصرار الإثيوبي على تقليل حصة مصر من المياه وعدم التوصل إلى وضع آلية لحل النزاعات يوضح أن الهدف الأساسي من بناء السد لم يعد توليد الكهرباء والاستفادة منها داخلياً أو تصديرها لدول القارة فقط ولكن الحلم الإثيوبي أبعد من ذلك حيث تشير بعض التقارير إلى أن إثيوبيا تنتوي استخدام مياه خزان السد بغرض الزراعة أثناء فترات الجفاف لأن الاعتماد على الزراعة القائمة على مياه الأمطار وحده لا يحقق طموحاتهم، ويجيب ذلك على التساؤل الإثيوبي: لماذا تحصل مصر على مياه مجانية في حين يمكننا أن نصدرها لهم في شكل منتجات زراعية؟!
ويؤكد التعنت الإثيوبي المستمر على طول مسار المفاوضات أن نواياهم تجاه مصر غير حميدة سواء بدوافع داخلية أو بدعم دول أخرى.

مخالفة صريحة للاتفاقيات


خالفت إثيوبيا بشروعها في بناء السد جميع الاتفاقيات الدولية التي تنظم تدفق مياه النيل بما فيها اتفاقية 1902 التي تعهد فيها الإمبراطور الإثيوبي بعدم بناء سدود أو إنشاءات تؤثر على تدفق مياه النهر إلى مصر أو تقلل من حصتها المائية، واتفاقية 1929 التي وقعتها الحكومة البريطانية نيابة عن دول الهضبة الاستوائية والتي تعطي مصر حق الاعتراض “فيتو” على بناء أي سدود على نهر النيل؛ وتتنصل إثيوبيا من هذه الاتفاقيات بحجة أنها ترجع إلى الحقبة الاستعمارية، وقد أكدت وزارة الخارجية الإثيوبية على ذلك في مذكرة تم توزيعها على السفارات في أكتوبر 2019، ورد فيها أن مصر تحاول الحفاظ على نظام أعلنته ذاتياً لتوزيع المياه يرجع للحقبة الاستعمارية، واستخدام حق النقض ضد أي مشروع في نظام النيل.
وببناء السد، تخالف إثيوبيا اتفاقية 1993 الموقعة بين الرئيس المصري آنذاك “مبارك” ورئيس الوزراء الإثيوبي “ميليس زيناوي” والتي نصت على “عدم قيام أي من الدولتين بعمل أي نشاط يتعلق بمياه النيل قد يسبب ضرراً بمصالح الدولة الأخرى، وضرورة الحفاظ على مياه النيل وحمايتها، واحترام القوانين الدولية، والتشاور والتعاون بين الدولتين بغرض إقامة مشروعات تزيد من حجم تدفق المياه وتقليل الفاقد”.
وبإعلانها بدء ملء خزان السد في يوليو القادم، تخالف إثيوبيا المادة الخامسة من اتفاق إعلان المبادئ الموقع بين رؤساء الدول الثلاث في مارس 2015، حيث تنص هذه المادة على ” الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول لسد النهضة والتي ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد”، أي لا يجوز البدء في ملء السد أو تشغيله إلا بعد اتفاق نهائي تلتزم به جميع الأطراف.

التجاوزات كورقة ضغط


كان التجاوز في حق مصر أولاً ثم الولايات المتحدة بعد ذلك أداة إثيوبية للضغط على الجميع من أجل تحقيق أقصى مكاسب ممكنة من وراء بناء السد، فكانت البداية عند “آبي أحمد” الذي صرح أمام البرلمان لإثيوبي بقدرته على حشد الملايين للحرب إذا دعت الحاجة في إشارة إلى أزمة السد مع مصر؛ الرجل الذي حاز على جائزة نوبل للسلام العام الماضي لا يجد حرجاً في الحديث عن الحرب غير مدرك لحجم الاحتقان الذي يسببه بين الشعبين المصري والإثيوبي. فهل تتحمل إثيوبيا التي تطمح إلى التنمية عواقب الدخول في حرب بسبب المياه؟
واستمر هذا المسلسل الإثيوبي بالتجاوز في حق الولايات المتحدة التي لعبت دور المراقب المحايد للمفاوضات، فبعد صدور بيان وزارة الخزانة الأمريكية بشأن الاجتماع الأخير في واشنطن وتأكيدها على عدم البدء في ملء السد إلا بعد التوقيع النهائي على الاتفاق من جميع الأطراف، وصفت إثيوبيا الموقف الأمريكي بأنه “غير مقبول على الإطلاق” واتهمتها بتجاوز دورها كمراقب محايد وانحيازها للموقف المصري ضدهم، في حين أن الموقف الأمريكي التزم فقط ببنود الاتفاق الموقع بين الدول الثلاث وقواعد القانون الدولي دون تحيز أو محاباة لمصر، فالتحيز ظهر فعلاً في موقف السودان الذي امتنع عن التوقيع بغياب الوفد الإثيوبي.
كما خرج العشرات من الإثيوبيين للتظاهر والتنديد بموقف الولايات المتحدة في المفاوضات حاملين لافتات تطالب الإدارة الأمريكية بالتوقف عن الضغط على إثيوبيا من اجل الموافقة على اتفاق لا يخدم إلا المصالح المصرية على حد تعبيرهم، ثم أطلقوا شعارات تهدف إلى كسب الدعم الشعبي مضمونها أن السد إثيوبي والأرض إثيوبية والمياه إثيوبية ولن يستطيع أحد منعهم من بناء السد
وأكد الموقف الرسمي الإثيوبي على تجاهل الجميع والاستمرار في الضغط على مصر والولايات المتحدة، حيث طالب نواب البرلمان الإثيوبي في تصريحات رسمية الولايات المتحدة بالتزام الحيادية، وفي مسار موازٍ أطلقت سهلي ورك رئيسة الدولة الإثيوبية مرحلة جديدة من جمع التمويل اللازم لاستكمال السد من منطلق “السد سدنا، والأرض أرضنا، والمياه مياهنا، ولن يستطيع أحد منعنا من بناء السد” في تحدٍ واضح لكل الأطراف وعدم الاكتراث لعواقب هذه الخطوات.
وبالرغم من كل التصريحات الإثيوبية التي تتحدث عن أن استكمال السد والتحكم في مياه النيل هي مسألة سيادة ولن يقدر أحد على منعهم من تنفيذ خططهم التنموية كما يدعون غير مكترثين للقوانين الدولية الحاكمة للتعامل مع مياه الأنهار الدولية وغير ناظرين إلا لمصالحهم دون غيرهم، إلا أن وزير الخارجية الإثيوبي قال إن بلاده ستواصل حضور الاجتماعات في دلالة على استمرارهم في المماطلة من أجل فرض أمر واقع فيما بعد.
يتضح من كل ما سبق أن إثيوبيا لا تجلس على مائدة التفاوض من أجل الوصول إلى اتفاق نهائي في مدى زمني محدد، وإلا كان الوفد الإثيوبي التزم بالحضور إلى اجتماع واشنطن الأخير ووقع على الاتفاق الذي تم التشاور بشأن جميع بنوده على مرأى ومسمع من أعضاء الوفد دون إبداء اعتراض طوال مدة المفاوضات، ولكن الهدف الأساسي يتمثل في استغلال أزمة السد سياسياً، فالإدارة الإثيوبية تبحث لها عن مخرج من الصراعات العرقية بإيجاد هدف واحد يلتف حوله جميع أفراد الشعب الإثيوبي وهو “أن سد النهضة سيكون بوابة إثيوبيا نحو التنمية والهيمنة في منطقة القرن الإفريقي”، وتصوير أن مصر هي العدو الذي لا يريد لدولتهم النهوض أو التنمية فيتحدون ضد هذا العدو وينحون الخلافات العرقية جانباً.
لقد فقدت إثيوبيا مصداقيتها أمام الجميع، وظهرت نواياها جلية تجاه مصر، وإذا استمرت على نفس النهج ولم تستطع الولايات المتحدة الضغط عليها لإنهاء الأزمة كوسيط اتفقت الأطراف الثلاثة على إشراكه في المفاوضات، فلا مفر من اللجوء لمجلس الأمن باعتبار أن قضية السد الإثيوبي تمس أمن دول القارة ولن تكون عواقب الصراع مرضية لأي طرف.

+ posts

باحث ببرنامج السياسات العامة

محمود سلامة

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى