
طابا.. أسطورة السلام والدبلوماسية المصرية
“لقد ارتفع علم مصر على أرض طابا ولن يُنتكس أبداً… سيظل شامخاً خفاقاً على بركة الله”، هكذا تحدث الرئيس الأسبق “محمد حسني مبارك” في 19 مارس 1989 عند رفعه العلم المصري بعدما استعاد مدينة طابا. في مشهد لن يُمحى، معلناً للعالم أجمع استرداد آخر نقطة حدود مصرية واستكمال السيادة الكلية لمصر على أرض سيناء.
لم يكن الطريق إلى استرداد طابا سهلاً أو ممهداً، ولم يكن بمثابة سلسلة من المفاوضات، بل كانت ملحمة سياسية ودبلوماسية خاضتها مصر، فبالرغم من أن طابا قطعة صغيرة من الأرض لا تتعدي مساحتها كيلو متر مربع، إلا أن مصر كانت ترى دائماً ولا تزال أن أرض الوطن لا تقبل التجزئة، وأن كل ذرة رمل في أرض طابا تمثل مصر كلها، فطابا هي رمزاً لسيادة المصرية.
حاولت إسرائيل الاستيلاء على طابا لتوسيع منفذها الوحيد على البحر الأحمر “إيلات”، وبالتالي السيطرة بشكل أو بآخر على هذا المسطح المائي المهم بنقاطه الاستراتيجية. بعد حرب أكتوبر 1973، وتوقيع معاهدة السلام في مارس عام 1979، والتي نصت في مادتها الأولى على أن تنسحب إسرائيل من سيناء إلى ما وراء الحدود الدولية بين مصر وفلسطين تحت الانتداب، لكن إسرائيل قررت بعد توقيع المعاهدة توسيع الأقاليم التي تحيط بميناء إيلات، وأول خطواتها كانت الشروع في إقامة فندق سياحي في وادي طابا، ليبدأ خلاف الحدود، خاصة عند علامة الحدود رقم 91 بمنطقة طابا.
العلامة 91 على الحدود المصرية الإسرائيلية
وفى أكتوبر عام 1981، وعند تدقيق أعمدة الحدود الشرقية، اكتشفت اللجنة المصرية بعض المخالفات الإسرائيلية حول 13 علامة حدودية أخرى، أرادت ضمها إلى أراضيها، وأعلنت مصر آنذاك أنها لن تفرط في سنتيمتر واحد من أراضيها، لتبدأ معركة الاسترداد. وفي مارس 1982 أعلنت مصر عن خلاف مع إسرائيل حول العلامات الحدودية الـ13، مؤكدة تمسكها بموقفها المدعوم بالوثائق الدولية والخرائط التي تثبت تبعية تلك المناطق للأراضي المصرية، وعقدت اجتماعات عدة رفيعة المستوى لبحث إيجاد حل للأزمة، وتعقدت الأمور بشكل أكبر بعد تعنت الإسرائيليين في إعادة طابا، فطالبت مصر باللجوء إلى التحكيم الدولي لحل النزاع كما تنص المادة الـ7 من معاهدة السلام بين البلدين.
وأعلنت إسرائيل في 13 يناير من عام 1986 موافقتها على اللجوء للتحكيم الذي تحددت شروطه وتم التوقيع عليها بفندق مينا هاوس في 12 سبتمبر1986، وشمل الاتفاق مهمة المحكمة في تحديد مواقع النقاط وعلامات الحدود محل الخلاف، واتفق الطرفان على اختيار المحكمين. وقبل صدور الحكم رسخ لدى الهيئة انطباع حقيقي عن أوضاع نقاط الحدود بقوة الدفاع ووجهة النظر المصرية، وضعف حجة وجهة النظر الإسرائيلية.
وفي 29 سبتمبر عام 1988، أصدرت هيئة التحكيم التي عُقدت في جنيف بالإجماع حكمها التاريخي لصالح مصر بمصرية طابا خالصة، وبعد صدور الحكم اختلقت إسرائيل أزمة جديدة في التنفيذ، حيث أعلنت أن مصر حصلت على حكم لمصلحتها، ولكن التنفيذ لن يتم إلا برضا إسرائيل، وبناءً على شروطها، ولكن الدولة المصرية رفضت كل العروض والمناورات الإسرائيلية، التي كان من بينها قبول الموقف المصري مع السماح بتأجير إسرائيل منطقة طابا لمدة 99 عاماً، وعلى الفور رفضت مصر الاقتراح مؤكدة الاستمرار في التحكيم لتعارض مبدأ التأجير مع سيادة مصر.
وتم حسم الموقف عن طريق اتفاق روما التنفيذي في 29 نوفمبر 1988، بحضور الولايات المتحدة الأمريكية، حيث انتهى بحل المسائل المُعلقة والاتفاق على حلها نهائيًا من خلال 3 اتفاقيات: الأولى تختص بالنشاط السياحي بتعويض إسرائيل بمبلغ 37 مليون دولار، وبأسعار ذلك الوقت تدفعه مصر مقابل تسليمها المنشآت السياحية في فندق “سونستا طابا” والقرى السياحية، على غرار ما حدث في كل من دهب ونويبع وشرم الشيخ من قبل.
بينما اختص الاتفاق الثاني بتحديد موعد الانسحاب الإسرائيلي النهائي من طابا، وتوصيل خط الحدود إلى شاطئ الخليج (النقطة 91) وتحدد 15 مارس 1989. وتعلق الاتفاق الثالث بنظام مرور الإسرائيليين من وإلى طابا إلى جنوب سيناء، حيث اتفقت الأطراف على السماح للسياح الإسرائيليين بالدخول إلى طابا، وفي حال دخول السيارات يتعين أن يلصق على السيارة مُلصقًا خاصًا، كذلك يسمح بالدخول والخروج من طابا إلى إيلات في زيارات متعددة خلال 14 يومًا، وأن يحمل كل سائح جواز السفر الخاص به، وأن يقوم بملء بطاقة بيانات تختم بمعرفة السلطات المصرية في طابا، وتكون صالحة لمدة 14 يومًا.
في التاسع عشر من مارس عام 1989 توج الجيش المصري انتصاره فى معركة الكرامة “معركة العبور” بانتصار جديد للمفاوض المصري والدبلوماسية المصرية والكفاءات القانونية والتاريخية والجغرافية التي نجحت في تقديم البراهين والدلائل على حق مصر التاريخي فى ” طابا المصرية “.



